بقلم : سهيل كيوان ... 21.06.2012
بالقرب من الحاجز العسكري الفاصل بين شمال الضفة الغربية والخط الأخضر الذي وصلته سيارة الأجرة،اقتعد التراب عدد كبير من الشبان العرب الذين لسبب ما لم يُسمح لهم بعبوره ومن الجانبين،يحرسهم جنود متأهبون بأسلحتهم،سلّم السائق الشاب بطاقته الزرقاء وأوراقه للجندي الذي التصق بشبّاك السيارة وسأل بكسل'إلى أين! فردّ الشاب وهو يشير إلى المسن الجالس إلى جانبه'نحن ذاهبان لزيارة عروس لهذا الرجل في قرية النزهة'! فردّ الجندي وهو ينقل نظراته بين وجه السائق والأوراق بيده- أنت غسان!
- نعم أنا غسان!
- إسمع غسان،المنطقة مغلقة وممنوع دخولها لأي سبب كان، الدخول ممنوع للإسرائيليين.....
فرد الشاب بثقة وإصرار- دعني أدخل على مسؤوليتي!
فرد الجندي-هيا استدر،ألا تفهم أنك إسرائيلي...نحن مسؤولون هنا عن سلامتك..ممنوع أن تدخل إلى الضفة الغربية حتى إشعار آخر...
قال غسان في نفسه 'أسْلم مِنْك وأنا من الله بخير' ثم همس للرجل للمسن الجالس إلى جانبه بصوت خفيض' سبحان الله الآن صرنا إسرائيليين ويخافون على سلامتنا..منذ متى هذه السعادة! كل هذا الحكي كي يمنعونا من الدخول إلى الضفة،وعلى بعد عشرة أمتار سنعود مشبوهين وحتى مخربين.....
رد المسن-ولا عشرة أمتار ولا نصف متر....ثم أخرج رأسه من النافذة من ناحيته مخاطبا الجندي الذي ابتعد خطوات :إسمح لنا بالدخول..نريد زيارة العروس...
رد الجندي وقد بدأ يغضب - ولمن العروس!
رد المسن- لي أنا...إنها عروستي...
رد الجندي - وهل أنت نافع لعروس..
رد المسن وقد تجهم-هذا ليس شأنك...
-هيا أثبت لي أنك نافع...
-ماذا أثبت لك...؟
-أنك تنفع العروس...هيا أرني...
-ما الذي تريد أن تراه..!قلت هذا ليس شأنك...
-إذن انقلعا من هنا،لا أُريد رؤيتكما بعد هذه اللحظة.....
- جئنا من مكان بعيد وهناك من ينتظرنا...إنها العروس..رد المسن بإلحاح!
- حينئذ رد الجندي حاسماً-' لا تقل لي عروس ولا بطيخ هيا استديرا بسرعة..لا ترغماني على استعمال أساليب أخرى معكما...
بدأ السائق الشاب يستدير بسيارته ملتفتا إلى المسن قائلا: يبدو لي أنّه يوم نحس...فلنؤجل الزيارة إلى يوم آخر..
فقال المسن وهو يتلفت حوله:لا بد من وجود طريق بديل....الجميع يمرون في الطرق البديلة...لا أستطيع التأجيل،العروس تنتظر،وعدتها بزيارة اليوم...
رد الشاب وقد صارت السيارة بالاتجاه المعاكس:سنُقتل بسبب ذَكَرك الذابل، بالفعل هل أنت متأكد من قدرتك على الزواج..بصراحة أنا مثل الجندي..أشكّ بقدرتك..وانفجر ضاحكا..
رد المسن ممازحا- ولك أنا أكثر شباباً منك...أنتم جيل خربان أصلا ..خرّبتكم الأغذية المسممة والدجاج المحقون بالإبر...كل ما تأكلونه مسمم...وإذا كان لديك شك بقدراتي...فما عليك سوى أن تجرّب بنفسك!هيا قف جانبا وادخل بين أشجار اللوز....
ضحك الشاب ثم تساءل دون أن ينتظر إجابة..لمن هذا اللوز المزروع على الحدود بالضبط، إنهم يتركونه على أمه كما يبدو ليبيعوه يابسا...
ثم راح ينظر إلى جانبي الشارع بحثا عن طريق فرعي للالتفاف على الحاجز،وما لبث أن انتبه لغبار فتبعه باتجاه إحدى القرى حتى مرا بجانبها ،كانت تبدو وكأنها مهجورة لولا حبل غسيل هنا وآخر هناك،هناك عشرات وربما مئات أشجار الزيتون المقتلعة حديثا وكأنها جثث، ثم مرا في حقول خضراء تارة وصفراء تارة أخرى ،وبعد حوالي أربعين دقيقة من السير في الطرق الترابية الموحشة،فاجأهما شاب قفز من وراء سلسلة حجرية ثم أقبل إلى السيارة متحمساً رافعا يده وقائلاً:أي مساعدة !
- نريد طريقا إلى قرية (النزهة)!
-الفوقا أم التحتى...
-التحتى...
- أنا ذاهب إليها،قال الشاب، ثم فتح الباب وألقى جسده بخفة على المقعد الخلفي، بعد نصف ساعة من السير في طرق زراعية خالية ومشحونة بتوتر غير مرئي وطلعات ونزلات ومنعطفات حادة وبحمار هنا وآخر هناك، تنفس المسن الصعداء وقال مؤكّدا على معرفته للمنطقة'هذه هي( نزهة)لقد وصلنا'!
القرية جميلة من بعيد، تبدو مثل لوحة معلقة على مرتفع ،البيوت قائمة وسط غابة من الأشجار المثمرة معظمها من اللوزيات والحمضيات،ترتفع في وسطها مئذنة المسجد، ولكن عندما وصلت السيارة أول البيوت ودخلت القرية بدت المدنية وكأنها توقفت منذ قرون هناك، بيوت كثيرة متهالكة رفعت على بعضها أعلام فلسطين،صور وبلاكات وشعارات بالطلاء على الجدران تحيي الشهداء ولكن أكثرها يخص الأسرى'الحرية لسجناء الحرية،الحرية أو الموت'أطلقوا سراح أسرانا الأبطال'الجوع ولا الركوع'..أطلقوا سراح الأسير البطل محمود السرسك ورفاقه'
شوارع لم تعرف الزفت أبداً، بل إن هناك بعض رقع تبدو بقايا شارع عُبِد في يوم ما،السير في هذه الطرق يحتاج إلى مهارة وحذر شديدين لتلافي المطبات والحفر،إلا أن ما يغفر لهذه القرية ويلقي عليها رداء الجمال هو الأشجار المثمرة التي تحيط بمعظم البيوت،من تين وكرمة وصبار وحمضيات ولوزيات بمختلف أنواعها،البيوت الطينية وعبق دخان الطوابين في الفضاء،أزقة وحواكير،دجاج وديكة وحملات حطب وسلاسل حجرية ،أشجار الصبار المتشابكة هي الحدود الطبيعية بين قطعة أرض وأخرى، بين الجار وجاره،ورد جوري بلدي، أزهار(ثِم السّمكة)، الأبواب الخشبية القديمة الضخمة على مداخل البيوت، القناطر،خرابات وجدران متهالكة ،شبان مقرفصون بلا عمل يعلكون قصص الحب والسياسة مرة تلو الأخرى في مركز القرية حيث ما زال هناك نبع شحيح تسيل مياهه في الطريق ثم تغيب بين البساتين.
عندما وصلوا عرض الشاب قطعة نقدية رفضها السائق بدوره قائلاً 'عيب'..
-'يسلموا'..قال الشاب...ثم أضاف'حضرتكما من الشمال...
- نعم من الشمال...
-إلى أين...!
-الى بيت أبو مهنا...
-أهلا وسهلا....شرفتما....تلك البوابة الزرقاء....
-أعرفها قال المسن...
تقدمت السيارة عدة أمتار،ثم توقفت،فتح السائق صندوقها وحمل كل منهما ما استطاع من أكياس،وعند البوابة الزرقاء راح المسن ينادي...يا أبو مهنا يا أبو مهنا...يا صاحبين الدار ...مين هون..يا أبو مهنا...وبعد أن كادا ييأسان .جاء صوت أجش من وراء الجدران...تفضلوا....مين...أهلا وسهلا...زارتنا البركة...أهلا وسهلا بكل أهل الشمال...أهلنا وأحبابنا...وسمع همس أنثوي خجول من وراء الجدران...لقد وصلوا...وصل العريس..