بقلم : نقولا ناصر* ... 11.02.2013
(لا يمكن إعفاء المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر د. محمد بديع من المساهمة في خلق البيئة الأيديولوجية الحاضنة للبيئة التي سهلت اغتيال شكري بلعيد في تونس بتجديد وصية مؤسس الجماعة بإلغاء "تعدد الأحزاب")
لقد سلط اغتيال الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد شكري بلعيد يوم الأربعاء الماضي الأضواء على الانقسام الطبقي المغيب في تونس لكن الاستقطاب الحاد الناجم عن إغتياله يكاد يغيب هذا الانقسام ثانية.
إن "إجماع" الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وحتى "حزب التحرير" التونسي وحركة النهضة الحاكمة إضافة إلى القوى اليسارية والقومية والليبرالية، ومعهم واشنطن وباريس وغيرهما من العواصم الغربية، على إدانة اغتيال الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد شكري بلعيد يوم الأربعاء الماضي، وهو القيادي أيضا في "الجبهة الشعبية" التي تضم ثلاثة عشر حزبا يساريا وقوميا (منهم بعثيون وناصريون و"عروبيون")، هو إجماع يتناقض تماما مع الاستقطاب المستفحل الذي تمخض عن اغتياله بين حركات "الاسلام السياسي" وبين كل الآخرين تقريبا في تونس حول قضايا "العنف" و"التعددية" و"الإقصاء" السياسي في الحكم، ليزيد هذا الاستقطاب في تغييب الانقسام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين القلة المحتكرة للثروة والحكم وبين الأغلبية الساحقة من الشعب التي يطحنها الحرمان الاقتصادي والسياسي.
وما له دلالته في هذا السياق أن اغتيال نقابي عمالي مخضرم مثل بلعيد كان قد سبقه في الثامن عشر من تشرين الأول / اكتوبر الماضي اغتيال الكاتب العام للاتحاد الجهوي للفلاحين في تطاوين لطفي منقض، ويلفت النظر كذلك الإضراب العام الأول من نوعه منذ عام 1978 الذي أعلنه ونفذه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الجمعة الماضي احتجاجا على اغتيال بلعيد، وكون هذا الاتحاد مع النقابات العمالية كان مساهما رئيسيا في قيادة الثورة على نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، خلافا لنظيره المصري الذي تم حل قيادته بعد ثورة 25 يناير.
وكان هذا الانقسام الطبقي المغيب هو المفجر الأول للثورة في تونس أولا ثم بعدها في بقية أقطار الوطن العربي الكبير التي تجتاحها الانتفاضات الشعبية من أجل العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكن ما زال التعتيم على هذا الانقسام جاريا على قدم وساق، مرة تحت عنوان الخلاف بين "الإسلام السياسي" وبين كل القوى الأخرى وبخاصة القومية منها، وثانية باسم الخلاف المذهبي بين السنة وبين الشيعة، وثالثة بين الأكثرية العربية وبين الأقليات العرقية والقومية والدينية والثقافية، ورابعة بين "الإسلام السياسي" وبين القومية العربية وخامسة بينه وبين "العلمانية"، إلخ.
وفي كل الحالات لا تتغير القلة المستفيدة من الاستمرار في افتعال ايقاظ الفتن الكامنة في هذه الانقسامات، وإن تغيرت أسماؤها ورموزها، ليحل، على سبيل المثال، خيرت الشاطر في مصر محل الرئيس السابق حسني مبارك وابناؤه وبطانتهم من حيتان الاقتصاد الحر والانفتاح الاقتصادي والعولمة، بينما تظل ملايين الأغلبية الساحقة المحرومة حطبا ووقودا لصراعات هؤلاء الذين لم يغيروا، ولا يلوحون بأي مؤشرات إلى أنهم سوف يغيرون، بعد عامين من انفجار الاحتجاجات الشعبية، من العلاقات الخارجية مع الولايات المتحدة لأقطار ما سمي أميركيا "الربيع العربي" وهي المسؤولة الأولى عن ضمان بقاء الاستبداد العربي وأنظمته الحاكمة وقلته المحتكرة إلى أن ينضب النفط والغاز ويصبح أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي التي ترعاها مضمونا ضمانا لا رجعة عنه.
إن استبدال الواجهة "الليبرالية" بواجهة "إسلامية" للقلة المحتكرة للثروة والحكم لم تفت ملاحظة المؤرخ بجامعة ستانفورد الأمريكية البروفسور جويل بينين، ف"الإخوان المسلمون"، كما كتب، "يتبنون ذات السياسات النيوليبرالية التي كان يفضلها نظام مبارك، بل إنهم يتطلعون إلى برنامج أوسع لخصخصة الأصول العامة".
لقد وصفت حركة النهضة الحاكمة في تونس اغتيال بلعيد بأنه "جريمة نكراء" ووصفه رئيس الوزراء العضو في الحركة حمادي الجبالي ب"العمل الإرهابي" وبأنه "تهديد مفتوح للانتقال الديموقراطي"، ودعت الحركة في بيان رسمي "كل التونسيين إلى التضامن والوحدة"، ودعا مؤسسها وأبوها الروحي الشيخ راشد الغنوشي إلى أن يكون "دم الفقيد .. رسالة وحدة وتوحد". وكون "حكم" النهضة غير مستفيد بالتأكيد من الاستقطاب السياسي الحاد وعدم الاستقرار الناجمين عن اغتيال بلعيد سبب كافي في حد ذاته لاثبات صدق النوايا ولو لأسباب براغماتية.
لكن اغتياله يمثل كذلك مناسبة لترجمة الدعوة اللفظية إلى "الوحدة والتوحد" إلى فعل سياسي ملموس، ومناسبة ليس فقط لإجراء مراجعة سياسية للبيئة الأيديولوجية الحاضنة للتطرف والعنف والاقصاء السياسي التي خلقها حكم النهضة في تونس، وهي البيئة التي استفحلت بإنشاء مليشيات حركة النهضة المسماة "رابطات حماية الثورة"، بل مناسبة كذلك لإجراء نقد ذاتي لأيديولجية الحركة، وأيديولوجية حاضنتها الأم "جماعة الإخوان المسلمين".
وهي الأيديولوجية التي حولت الجماعة تاريخيا إلى منظر فكري لأنظمة الاستبداد العربي المتحالفة مع الولايات المتحدة، أو التابعة لها، وحولتها إلى احتياطي فكري وبشري لقوى الثورة المضادة للتغيير الديموقراطي والاجتماعي والاقتصادي.
وإذا كان خطاب الجماعة ومتفرعاتها المعادي لأميركا وربيبها الإسرائيلي وهي في "المعارضة" قد غيب هذه الحقيقة مؤخرا فقد أعاد تسليط الأضواء عليها وصول الجماعة إلى الحكم في عدد من الأقطار العربية، في ما عدته قوى التغيير القومي واليساري والديموقراطي "خطفا" للانتفاضات الشعبية و"حرفا" لها عن أهدافها.
ومن دون مراجعة ونقد ذاتي لهذا الدور التاريخي يقودان إلى تغيير جذري في توجه "الإخوان" سوف يستفحل الاستقطاب الراهن في تونس وفي غيرها وسوف تكون نتيجته الوحيدة صراعا نهايته غير منظورة يتدحرج مثل كرة الثلج ليقود المنطقة إلى "انتحار ذاتي" مرفوض شرعا وقوميا وشعبيا وعقلانيا.
وفي هذا السياق لا يمكن إعفاء المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر د. محمد بديع من المساهمة في خلق البيئة الأيديولوجية الحاضنة للبيئة التي سهلت اغتيال بلعيد في تونس، ولن تنجح على الأرجح أي عملية مراجعة ونقد ذاتي لجماعة الإخوان وفروعها ما لم تتغير قيادات مثل د. بديع الذي لا يسهل أي عملية كهذه كما لا يسهل نجاح "الإخوان" في الحكم عندما يبعث إلى قمة منظمة التعاون الإسلامي التي انعقدت في القاهرة الأسبوع الماضي رسالة، نشرتها الأهرام الأربعاء الماضي، ينصحهم فيها بإلغاء "تعدد الأحزاب" عملا بوصية مؤسس الجماعة حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي!
فمثل هذه النصيحة تعزز خشية القوى السياسية الأخرى من إقصائها ومن احتكار الإخوان للسلطة إن وصلوها، وتؤجل إلى مدى غير منظور محاولات حثيثة وعديدة قامت بها القوى القومية بخاصة لإقامة جبهة قومية – إسلامية في مواجهة الأعداء التاريخيين للأمة.
غير أن على الطرف الاخر كذلك إجراء مراجعة لمواقفه، ففي نهاية المطاف تظل جماعة الإخوان جزءا أساسيا من النسيج السياسي العربي، فقد فشلت محاولات استئصالها طوال ما يزيد على ثمانين عاما.
لكن الأهم هو أن جماهير الجماعة لن تظل معصوبة الأعين إلى الأبد عن رؤية كونها خاسرة في مشروع الإخوان للحكم بمعطياته الحالية، وفي كونه مشروعا لا يزال يغيب الانقسام الأهم في المجتمع ولا يتناقض اقتصاديا مع ما تدعو له القوى الغربية الطامعة في المنطقة من اقتصاد حر وانفتاح اقتصادي وعولمة، وهذه سياسات تعمق الانقسام الطبقي وترسي قاسما مشتركا أساسيا لبناء الجسور بين "الاسلام السياسي" وبين تلك القوى، ودلائل ذلك ومؤشراته لا تخطئها العين في تونس ومصر وليبيا واليمن بعد "الثورة" فيها.
وسوف تظل جماهير الجماعة مستفيدة وصاحبة مصلحة في المشروع القومي الديموقراطي البديل، وهو المشروع الذي لم ير يوما في الدين الحنيف إلا رافعة له من أجل وحدة الأمة وتحررها السياسي والاقتصادي، ولم ير في الإسلام يوما أنه المسؤول عن تجزئة الأمة ونهب ثرواتها ومصادرة حرياتها، إلا إذا كان الاستعمار الأوروبي القديم ووريثه الأمريكي والقوى العربية المستقوية بهما وعصاهما الإسرائيلية حواضن للإسلام والحركات السياسية التي تتدثر به كما تحاول "ثورات" ما يسمى "الربيع العربي" إقناع هذه الجماهير.