بقلم : ريما كتانة نزال ... 18.12.2011
بعد صدور مسح العنف في المجتمع الفلسطيني، لم يعد مبررا رفع الحواجب، استنكارا أو اندهاشا، لدى الحديث عن العنف في المجتمع الفلسطيني وفي مركزه العنف الممارس ضد المرأة. وليس من الموضوعية الانخراط في سياسة النعّامة والتغاضي عن ظاهرة العنف بكل أشكاله أو التعمية عليه، ومن يفعل ذلك يكون كالذي يضع رأسه في الرمال المتحركة التي تبتلع من لا يعترف بوجودها..
يقدم المسح المصادر الثلاث للعنف في المجتمع الفلسطيني، الاحتلال والمحيط المحلي والأسرة. نصف الأسر الفلسطينية، وفي مقدمتها شبابها، تعرضت لعنف الاحتلال الذي تم في الأغلب على الحواجز التي يصعب التملص من مواجهتها يوميا. كما تعرض خمس الشباب للعنف في الشارع، وتعرض كذلك خمس طلبة المدارس للعنف على يد بعضهم البعض أو على يد معلميهم!
وفي نطاق الأسرة، تعرضت المرأة والأطفال والمسنين والأزواج للعنف من أحد أفراد الأسرة. فقد أفادت ثلث المبحوثات، ممن سبق لهن الزواج، بأنهن قد تعرضن لأحد أشكال العنف من قبل الأزواج. واشتكى أكثر من نصف الأطفال من تعرضهم للعنف من أحد أفراد الأسرة. وكان الإهمال الصحي هو الشكل الغالب للعنف الممارس اتجاه المسنين وكذلك المسنات اللواتي تعرضن له بشكل أكبر. وفي ذات المكان الأسري، تعرض الأزواج للعنف من الزوجات كما أفادت 17.1% منهن. ومن المدهش بأن ثلثي المعنفات فضلن الصمت على المشهد العنيف، وآثرن التستر والتواطؤ على أنفسهن. إلا أن 30% منهن قررن الهروب من وجبات العنف اليومية والعودة الى بيت الأهل، واختارت فقط 7% منهن مراجعة أحد المراكز النسوية أو أحد المؤسسات المختصة للاستشارة.
تدق الأرقام ناقوس الخطر بشدة.. مؤكدة على تدحرج وترابط حلقات العنف ودوائره. نقطة البداية الاحتلال، الحواجز المنتشرة في طول البلاد وعرضها، يصعب أن ينأى عنها أو يتجاوزها أي فرد من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني. والاحتلال لا يمارس سياسة الإذلال على الحواجز دون هدف وغاية، بل يخطط لها بشكل منهجي لبرمجة سلوك فريسته ونزع صفتها الأنسانية وتهشيم شخصيتها وعنفوانها. هم يريدون إخضاع الشخصية وتطويعها وسلب إرادتها في المكان الذي يتحكمون ويسيطرون فيه على حركة المرور والتنقل اليومي.
ان إستراتيجية الاحتلال القمعية لا تقوم فقط على القتل والاعتقال والتشريد والحصار، بل تمتد لوضع السياسات التي تستهدف قمع وتعذيب الإنسان الفلسطيني نفسيا لزرع اليأس في داخله، وجعله غير قادر على التفكير المريح، واستبداله بالتفكير البدائي الانفعالي والعنيف، ومن هنا يمكن فهم ارتفاع معدلات العنف، وتفسير تدحرجه إلى أماكن أخرى متخذا أشكالا جديدة، الأمر الذي يؤكد العلاقة الطردية التي تربط بين عنف الاحتلال وتصاعد وتأجج العنف الداخلي بكل أنواعه وأشكاله.
ان العنف الاحتلالي على المجتمع يولد ديناميات تعميق العنف الاجتماعي، كما يكرس السلطة الأبوية ويفاقم من تأثيرها السلبي وتحديدا على القطاعات الأكثر ضعفا كالنساء والأطفال، حيث تسيطر منظومة العلاقات الاجتماعية في نطاق مجتمع تقليدي تتحكم وتستقوي فيه السلطة الأبوية وتعيد إنتاج قوتها لرد اعتبارها الممزق، بقذف قمعها واضطهادها وجنونها باتجاه الضعاف من الواقعين تحت سيطرتها، الطفل والطالب والشاب والمرأة في المدرسة والشارع والأسرة.
المدارس التي يتعرض خمس طلابها الى العنف النفسي والجسدي، تصبح أحد أماكن إنتاج العنف، ومصدرا لإنتاج محفزات تهديد الاستقرار والأمان في المجتمع. فالعنف في المدارس يشير الى عملية توظيف السلطة، على غير مقاصدها، في المدرسة بشكل سيء، يقوم على التعالي والسحق لحقوق الأضعف داخل أطر ينتظر منها بناء الشخصية وتقويمها وتشذيبها وتهذيبها. عنف من المعلم يقابله عنف مرتد من الطالب على زملائه والإدارة بذات الزخم والقوة، ولا يعدم الطلاب المعنفين الوسيلة لرد اعتبارهم والانتقام من المؤسسة التعليمية بأشكال من العنف المركب التي شهدنا عدد منه في مدارسنا، مع ملاحظة الضرر الكبير في المجال السلوكي والتعليمي والاجتماعي .
العنف الأسري كأحد أشكال العنف المنتشر في جميع أنحاء العالم، يستند إلى علاقات السيطرة الأبوية و، لكنه يرتبط أساسا بكيان المرأة الأنثوي، وفي مجتمعنا الفلسطيني يرتبط كذلك بالثقافة الاجتماعية السائدة التي تضع المرأة في نطاق السيطرة والملكية الخاصة للعائلة. فعلى الرغم من التطور الحاصل على تغيير الأدوار داخل الأسرة، إلا أن هذه التغييرات اقتصرت على شكل الأسرة ولم تمس نوعية العلاقات داخلها، بل ربما كرست العنف ضد المرأة بسبب ظروف التخلف الاقتصادي والاجتماعي والقهر السياسي.
ان محاربة العنف عملية متكاملة تتضافر فيها الأنظمة والقوانين والثقافة الاجتماعية الديمقراطية والاستقرار السياسي. لكن الأصل في المعالجة قيام المعنيين، في المستوى الرسمي والمجتمعي، العمل باستراتيجيات شاملة من أجل استئصال العنف، من خلال مشاريع فكرية واجتماعية وتربوية وقانونية واقتصادية، بما فيها وضع تصور جاد ومتقدم لمعالجة العنف في المدارس والشارع، وكذلك إيلاء وضع المرأة الإنساني وتنمية مكتسباتها المتحققة وبالذات في المجال التعليمي والتربوي.
وأخيرا، إن في توعية المرأة دور جوهري في التصدي للعنف، بتمليكها معرفة حقوقها الانسانية وكيفية الدفاع عنها، وتقويتها باتجاه عدم السكوت عن سلب حقوقها ووجودها وشخصيتها المعنوية، وعلى المراكز النسوية، المتخصصة بقضايا العنف، الإعلان عن نفسها وبرامجها بوسائل وآليات جماهيرية وابتداع أشكالا جديدة للدفاع عن المرأة وصيانة حقوقها ووجودها.