بقلم : بروفيسور عبد الستار قاسم ... 20.07.2012
لست من الذين ترددوا على أعتاب أي نظام عربي، ودائما اعتبرت الأنظمة العربية أعظم خطر تواجهه الأمة العربية منذ أن ظهرت الدولة العربية المعاصرة، وأن الإطاحة بالأنظمة واجب مقدس ومقدمة ضرورية إذا كان للشعوب العربية منفردة وللأمة مجتمعة أن تتقدم. ولهذا لم أتردد على مدار أكثر من ثلاثين عاما في التحذير من الدماء العربية التي ستنزف في شوارع المدن العربية.
ما جرى في سوريا لم يخرج عن النطاق التاريخي المتوقع لأن النظام استبد وطغى وظلم، لكن ما أراه الآن لم يعد منسجما مع المسار التاريخي، بل يتناقض معه في كثير من الأحيان. وبدل أن يؤدي إلى تصحيح المسار باتجاه التطوير والتحديث وانبثاق الإنسان السوري الجديد المشارك في اتخاذ القرار والمساهم في بناء المجتمع والدولة بفعالية وثقة وهمة عالية، من المتوقع أن يؤدي إلى تدمير سوريا والقضاء على حيوية وقدرات الإنسان السوري لفترة طويلة من الزمن.
واضح أن هناك مشكلة لدى الذين بدأوا الحركة من أجل التغيير السياسي من حيث أنهم فقدوا السيطرة على حركتهم وعلى قرارهم الوطني الذاتي، ووجدوا أنفسهم يقعون بأيدي قوى خارجية بصورة تدريجية سواء كان ذلك عن وعي أو غير وعي. ما أراه في سوريا الآن ليس حركة جماهيرية تعمل حثيثا باتجاه التغيير، وإنما ساحة لصراع دولي وقوده الإنسان السوري والمنشآت والممتلكات السورية. لا أرى في سوريا برامج سياسية وأمنية واجتماعية وإعلامية مطروحة من قبل المعارضة، وما أراه لا يتعدى معدات القتال والمطالبة الملحة للمجموعة الغربية التي تسمي نفسها المجتمع الدولي للتدخل العسكري أو وضع سوريا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لا أرى طروحات من قبل المعارضة بكافة أطيافها لإخراج سوريا من المأزق وتحقيق تغيير انسيابي وسلس على المستوى السياسي، وإنما أرى شهوة دماء ودمار وخراب.
*التدخل العسكري
كان من المأساوي سماع سوريين يطالبون دولا غربية بالتدخل العسكري في سوريا لإسقاط النظام. الفكرة نفسها مرعبة وتنم عن انعدام رؤية أو عن خيانة وطنية وقومية ودينية. هل من المعقول أن يطالب ثائر يبحث عن الحرية بالتدخل العسكري من قبل دول داست على حرياتنا ومزقت بلادنا وقتلت أبناءنا واستهزأت بتاريخنا وقيمنا الدينية والأخلاقية وانتهكت حرماتنا ومقدساتنا وفلسطيننا؟ هل دول الغرب الغادرة والحقيرة التي استعمرت البلاد ودمرت العباد مؤتمنة على حرية الإنسان العربي؟ وهل من الممكن تصنيف من يأتمنها بأنه ثائر وغيور على حرية العرب وحرية المواطن السوري؟
لم يصدق هؤلاء "الثوار" بداية القول بأن حلف الأطلسي لا يستطيع مهاجمة سوريا، والجيش السوري ليس جيش ليبيا، ولم يصدقوا أن الولايات المتحدة غير قادرة على زج نفسها بمعركة لا تعرف نهايتها. لم يقرأوا الدروس جيدا، وللأسف أن مفكرا كبيرا مثل الدكتور برهان غليون قد أخذته الجهالة فنحّى علمه جانبا ظانا أن أهل الغرب يمتلكون كنوز المعرفة. لقد تمت مخاطبته مرارا هو وصحبه بالحذر مما هم عليه وفيه، لكن الظنون ما زالت تلاحقهم.
الغرب لا يجرؤ على مهاجمة سوريا عسكريا، وهو غير معني بهكذا خطوة أصلا. لكنه مهتم الآن بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة عساه يجد مبررا دوليا لتركيا للتدخل العسكري وبتمويل عربي. إذا استطاع تشكيل غطاء دولي لتركيا فإنه سيضمن نشوب حرب ضروس بين سوريا وتركيا تستنزف الدولتين وأموال دول النفط وإيران. أي أن الغرب يحاول أن يكرر تجربة الحرب العراقية الإيرانية لإهلاك الطرفين. تركيا دولة مسلمة ولتذهب ثروتها وأبناؤها إلى الجحيم، وكذلك سوريا، أما الأموال العربية فمآلها إلى خزائن شركات تصنيع السلاح الغربية.
لقد دفعت الأمة ثمنا باهظا بسبب الحرب العراقية الإيرانية بالنفوس والمعدات والأموال. وليت تركيا تتريث وتفكر قبل أن تدفع باتجاه التصعيد العسكري. ربما تؤخذ تركيا ببعض الإغراءات المالية من دول النفط العربية، لكن عليها أن تعي جيدا أن الأموال ليست تحت السيادة العربية، والغرب في النهاية هو الذي يقرر كيف تُنفق الأموال العربية.
من هنا حتى يتم تدبير مثالب لحرب سورية تركية، لا بد من تهريب أكبر كميات من الأسلحة والتجهيزات إلى سوريا ليبقى شلال الدماء منهمرا، ويبقى الدمار متواصلا. وهذا هو المشهد الجميل والرائع الذي يتلذذ عليه قادة تل أبيب وواشنطون ولندن وباريس. وهنا أقول للجميع إن هذا الغرب الذي يجود بالسلاح والمال (طبعا على حساب دول النفط) على السوريين يمنع عن الفلسطينيين غلاف رصاص. هو لا يمنع عنهم الرصاص فحسب، بل يمنع الغلاف حتى لا يشموا رائحة البارود فتثور في رؤوسهم رائحة الحرية والتحرير. ومثلما نصب أهل الغرب فلسطينيين يلاحقون الأحرار من شعب فلسطين، غدا سيتم تنصيب قادة معارضة الخارج لملاحقة أحرار سوريا.
سوريا زاخرة بالأحرار، ودائما رفعت رأسها بأبنائها النشامى الشجعان، وهناك الآن من هم ثوار في وجه النظام بحق وعن قناعة بحرية سوريا والمواطن السوري. من الثوار من يقاتل عن إيمان ومن أجل تحقيق هدف نبيل وعظيم، ولا يرى أن النظام جاد فيما يقول بخصوص الإصلاح. لكن التجربة الفلسطينية تشير إلى أن الثوار الذين كانوا أكثر بسالة في مواجهة إسرائيل أصبحوا الأكثر ملاحقة من قبل السلطة الفلسطينية التي انبثقت من رحم السياسة الغربية. وإذا كان من بين ثوار سوريا الآن من يظن أن مساعدة أهل الغرب ستؤدي إلى تسلمهم مقاليد الأمور في البلاد فإن عليه مراجعة تاريخ هذه الدول بهدوء وبدون تمنيات. أهل الغرب لا يريدون ثوارا يحررون الجولان، ويحققون الاكتفاء الذاتي، ويسيرون نحو وحدة العرب والمسلمين، واللحاق بركب الحضارة العالمية، وإنما يريدون أدوات تنفذ السياسات الغربية وإسرائيل لقاء بعض العلف طيب المذاق.
*المراقبون
الدليل الواضح والجلي على ما أقول هو بعثات المراقبين التي قررها أهل الغرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة. كان الفوج الأول مكونا من عرب على اعتبار أن الجامعة العربية زورا هي صاحبة القرار. لم يعجب عمل المراقبين أنظمة الغرب، فقرر العربان إنهاء مهمتهم. وقد كان واضحا أن هدف إرسالهم كان من أجل تزوير الحقائق على الأرض، ولم يعد لمهمتهم ضرورة ما دامت فكرة الأمانة قد خيمت على رؤوسهم.
أتى المراقبون الدوليون بتفويض من مجلس الأمن الدولي. وكما حصل مع بعثة المراقبين العرب، يحصل مع بعثة الأمم المتحدة. فهل المطلوب هو بعثة تعمل على تأجيج الصراع الداخلي، وتوتير الأوضاع على مستوى المنطقة؟ نعم.
*الحل
يبدو لي أن المعادلة الغربية تتركز على النحو التالي: هل من الممكن جر العرب والأتراك والإيرانيين إلى حرب استنزاف دون أن تلحق أضرار بإسرائيل؟ هناك فرصة جيدة أمام الغرب وإسرائيل لإضعاف سوريا شعبا وجيشا، وفرصة لجر الأتراك إلى مأساة تستنزف ما بنوه عسكريا واقتصاديا، وفرصة لجر الإيرانيين إلى أهداف بعيدة عن السفن الأمريكية في الخليج. فهل يمكن اقتناص هذه الفرص شريطة بقاء إسرائيل متفرجة سعيدة بما يجري من جز للرقاب والأموال؟
اقترحت حلا من حوالي عام، وأعود لأكرره الآن:
هل يقبل النظام والمعارضة الداخلية السورية تحكيم لجنة من المثقفين والمفكرين العرب المعروفين بانتمائهم للأمة وحرصهم على استقلالها وتقدمها وعزة أبنائها؟ نحن لسنا بحاجة لمجلس أمن أو أمم متحدة أو دول أصدقاء سوريا أو أعداء سوريا. لدى الأمة من العقول ما يكفي ويزيد لمعالجة كل المشاكل والهموم بالتدريج ووفق أسس منهجية وعلمية تأخذ باعتبارها مصالح الأمة ككل.
هل يقبل الطرفان بتحكيم هكذا لجنة يتفقان على عضويتها. علما أنني سبق وطرحت أسماء من عدة بلدان عربية، ولم أحصل على ردود فعل إيجابية من كلا الطرفين. آمل أن تكون الجراح قد ألانت المواقف.