بقلم : د. فيصل القاسم ... 29.07.2012
كم هو مخزٍ ومحزن أن ترى بعض الفنانين والفنانات وقد أصبحوا ناطقين باسم الطواغيت والمستبدين على مدى فترة الربيع العربي. يا الله كم هم مُقرفون عندما يتصدرون بعض البرامج التلفزيونية والمجلات والصحف، ويبدأون بالدفاع عن هذا الطاغية أو ذاك بوقاحة وصفاقة عز نظيرهما تحت حجج واهية لا يمكن أن تقنع حتى المخبولين. فهذا الفنان يساند طاغية بحجة أنه يتخوف من الفوضى في بلاده، وتلك تغطي نفاقها وتذللها وعمالتها وسمسرتها للطواغيت برداء الوطنية، والوطنية منها براء، خاصة أنها أمضت جل حياتها وهي تنتقل من حضن إلى حضن، ومن قصر إلى قصر. ما أقبح الفنانة الشمطاء التي لم يعد أحد ينتبه إليها بعد أن بلغت من العمر عتياً، فلجأت إلى مساندة الطغاة لعل وعسى تعود إلى الأضواء من باب الوطنية الزائف.
ما أتفه الفنان أو الفنانة التي ترى الطاغية يدمر البلاد ويسحق العباد ثم تظهر على الشاشات بوجهها القبيح الذي لم تعد عمليات التجميل ولا الشد والمط قادراً على تغطية بشاعته وبؤسه، وهي تذود عن أنظمة الطغيان والديكتاتورية بحجة أن البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية. ألا تعلم هذه "الفنانة" وغيرها أن الشعوب باتت تحتقر كل من يتذرع بتلك الحجج السخيفة التي غدت مثاراً للسخرية والتهكم في عرف الشارع بعد أن تاجر بها الطغاة أنفسهم على مدى عقود لتبرير طغيانهم؟ ألا تخجل بعض الفنانات أن تعمل بوظيفة "مُخبرة" تتصل ببعض الزملاء والزميلات لتسألهم عن رأيهم بهذا النظام أو ذاك، ثم تسجل المكالمات الهاتفية معهم لتوصلها إلى أجهزة المخابرات التي تتعامل معها مقابل أجر مادي وضيع كوضاعتها؟ أهذه فنانة بربكم، أم ساقطة؟ كم حزنت عندما عرفت أيضاً أن بعض الفنانات مجرد متعاملات رخيصات مع قتلة الشعوب استخباراتياً وغير ذلك مقابل أدوار يلعبنها في هذا المسلسل أو ذاك. كم يشعر المرء بالألم وهو يرى فنانة أحببنا صوتها الشجي على مدى عقود، فإذ بها تتصدى على الشاشات، بسفالة عز نظيرها، لزميلاتها اللواتي آثرن الوقوف إلى جانب الشعوب الثائرة. كم كان أحد النقاد محقاً عندما خاطبها قائلاً:"أشرف لك أن تخرسي أيتها البقرة الناطقة؟"
كم خدعنا بعض الفنانين الذين ظننا أنهم فعلاً حملة مشاعل الحرية والكرامة والتغيير لكثرة ما قدموا من أعمال ثورية تحررية على الشاشات والمسارح. لكن عندما جد الجد، وثارت الشعوب فعلاً لا تمثيلاً، هربوا فوراً إلى حضن الطواغيت، وراحوا يقفزون من شاشة إلى أخرى للدفاع عن أسيادهم بحجة أنهم يدافعون عن الوطن ضد العدوان الخارجي. بقدرة قادر أصبحت ثورات الشعوب المسكينة عدواناً ومؤامرات في نظر أولئك المنافقين الأفاقين؟ أين عباراتكم المسرحية الثورية الشهيرة التي ألهبت صدور الشعوب على مدى العقود الماضية، وكانت تفضح أنظمة الديكتاتورية والطغيان؟ هل كانت لمجرد تنفيس الشعوب بدل إثارتها على جلاديها؟ واضح تماماً أن كل الأعمال الفنية التحررية التي قدمها هذا الفنان الدجال أو ذاك كانت في واقع الأمر بترتيب دنيء مع الطغاة، لا لحض الشعوب على التحرك ضد القمع، بل لامتصاص نقمتها وإبقائها تحت بساطير الطواغيت الثقيلة لأطول فترة ممكنة.
ما أحقر الفنانين الذين تحولوا إلى مجرد أبواق لهذا الطاغوت أو ذاك. ألا يخجل بعض المخرجين عندما ذهب بعيداً ليحض الجيوش والأجهزة لتزيد من سحقها للمتظاهرين السلميين؟ لقد قال أحدهم قبل فترة إنه ممتعض من الجيش والشرطة لأنها مقصرة في قمع المحتجين. كل القمع الوحشي لم يرض ذلك المخرج الفاشي. أهذا مخرج بربكم، أم متعهد بلطجية؟ كيف تكون فناناً وقاتلاً سفيهاً في آن معاً؟ فعلاً إن الذين استحوا ماتوا.
وقد وصل الأمر ببعض الفنانين الذين لطالما قدموا مسلسلات لفضح الفساد والفاسدين على الشاشات العربية إلى إطلاق تصريحات مدوية ضد الحركات الديمقراطية في العالم العربي، بحجة أن لديهم "حساسية من الديمقراطية وليسوا من أنصارها". ألا يخجلون من شن حملات ضد حركات التغيير واعتبار الثورات نوعاً من البلاء؟ لقد اعتاد الفنانون أن يكونوا طليعة التغيير إلى الحرية والكرامة، فإذ بهم عندنا يدعون إلى الخنوع والعبودية. هل هم فعلاً ضد الديمقراطية كما يزعم بعضهم، أم أنه خائف على أن يفقد مصدر رزقه الذي يؤمنه له ارتباطه بهذا الجهاز الأمني أو ذاك؟
ما أقبح الفنان الذي يؤثر لقمة عيشه وتأمين ثرواته على مناصرة الشعوب الثائرة التائقة إلى التحرر من ربقة الديكتاتورية والاستبداد. ألا يعلم الفنانون الذين اصطفوا إلى جانب الطغاة أن التاريخ لن يرحمهم أبداً؟ ألا يستمد الفنان شهرته وشعبيته وتاريخه عادة من الشعب، وليس من السلطة، وغالباً ما يكون فنانو السلطة محتقرين من قبل الشعوب؟ ما فائدة الفنان عندما يحتضنه الطاغية ويلفظه الشعب؟
لقد كان الفنان على مر العصور صوت الشعوب والمعبر عن همومها وأحلامها. سحقاً للفنان الذي يسمسر للسفاحين، ويلعق أحذيتهم، وينسى آلام الشعوب وتطلعاتها إلى الحرية والكرامة والعيش الكريم. إن هذا الصنف من الفنانين أسماه الأديب الألماني بيرتولد بريخت ذات يوم بفناني اللقمة وأجراء الكلمة. وفي مناسبة أخرى أطلق عليه لقب "الفنان الأجير أو الحقير".
ربما يعتقد الفنان أن لدى السلاطين ذهبهم وسيوفهم. أما الشعب فليس لديه سوى بؤسه وفقره، فينحاز إلى السلاطين. وعندها من الأفضل له أن يترك الفن، ويشتغل سمساراً أو مقاولاً. وهذا أشرف له.
الفنانة أو الفنان الذي ينحاز للطغيان والطواغيت يخسر فنه وجمهوره. وإذا هو خائفٌ على لقمة عيشه المغمسة بالذل والعار، فليخرس على الأقل. قولوا خيراً أيها الفنانون والفنانات، أو اخرسوا!
تحية إلى الفنانات اللواتي وقفن إلى جانب الشعوب، ورفعن أصواتهن ضد الظلم والقهر، وسحقاً لفنانات البغي وتاجرات الوطنية الزائفة اللواتي بعن شرفهن الفني والأخلاقي للقتلة والسفاحين بثمن بخس، وشاركن بتصريحاتهن الفاشية في ذبح التائقين إلى العزة والحرية والكرامة! لكن ذاكرة الشعوب طويلة، والفنان لا تخلده علاقته النفعية الدنيئة مع هذا الطاغية أو ذاك، بل ذاكرة التاريخ.