أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الوجدان!!

بقلم : د.شكري الهزَّيل ... 29.07.2012

اخي المحترم عزيز.. تحية طِيب ومجِد لك على شجاعة قرارك قبل نصف قرن حين قررت العوده والتَسلُل الى الوطن,.. وتركتنا نسير في قافلة المجهول اللتي حطت رحالها في مخيم العكوب حتى يومنا هذا...حطت ياعزيز ولم تَقُم لها قائمه حتى يومنا هذا, ومنذ نصف قرن ونحن نعيش حظر التجوال بلا جواز ولا هويه.... اقصى مسافه قطعتها خارج المخيم كانت مئة كيلومتر وياليتني لم اقطعها وياليتك تعرف لماذا قطعتها قسرا وقهرا!!....قطعتها في بُوسطة السُجناء الى سجن ابولَهب العربي!! لأنني سألت وِين العرب!؟..هذه هي التهمه اللذي حُكمت بسببها عشرة سنوات سجن مع اشغال شاقه!!.. ومن يوم عودتي من السجن الى مخيم العكوب شبه سالم وشبه عاقل... قررت إلتزام السجن الطوعي والقسري في حدود العكوب لا اكثر,, وقررت العيش في احلام وحُلم الكُوفخه وكروم العنب والتين والخروب والجميز والصبر والصبار.. كم كانت الكوفخه جميله ياعزيز!!. اتذكُر خبز الطابون ورائحة الارض بعد هطول المطر؟؟ أتذكُر بايكة الدواب ومُوقد النار.. وطفولتنا المقطوعه في سفح التله والوادي...أتذكُر موسم الحصاد والحصادين والبهائم المُحملَه بالقش والتبن والقمح والشعير....اتذكُر كيف كُنا ندرُس على البهائم الزرع..... والغربال والمُنخل والغله وسطل زيت الزيتون وبيض الدجاج البلدي المقلي بزيت الزيتون!!!!!.على ما سمعت وعرفت ياعزيز انك تعيش لاجئا في الوطن وبعيدا عن الكُوفخه!!... وسمعتُ ان الكوفخه صارت اطلال!.... اخذت القضيه بعض الوقت ولربما كثير من الوقت ,حين قررت ان اكتب إليك من وجدان غُربة الأيتام والأوطان أملا ان تصلك في هذه المره رسالتي, وأن لا تلقى مصير اخواتها من رسائل سابقه طُبعت وكُوشت بكلمة العنوان غير معروف وغير موجود..., والعُمر ماضي يسير بسرعة الريح ويبدو في بعض الأحيان ان ولادة الوجدان تختلف عن ولادة الانسان ياعزيز.., ويبدو ان المسافه بين الولاده شئ وولادة الوجدان الانساني شئ أخر,,والحقيقه ان الوعي المُبكر لتفسير الظواهر يكشف عن المخالفات الفكريه والمسلكيه ,, وعن الغابه اللتي تختبئ وراء شجرة معايير تربويه وفكريه خاطئه ومُستخطأَه في طرحها وفحواها الفاقده لإساسها الانساني والتاريخي!!.كما ترى انا اكتب لك نوع من الفلسفه حتى أفلسِف المصير والواقع في قالب الوجدان...أمك وابوك ياعزيز رحلا الى جوار ربهُم منذ امد وهُم يقبعون في مقبرة مخيم العكوب!!.... اخوك ساهرأُعتقل على الحدود الغربيه مُنذ أمد عند محاولته إختصار طريق الموت بالتسلُل الى الوطن... انني اسف ياعزيز لقد وصلتنا قبل ايام شهادة وفاة ساهر في سجن ابولهب العربي!! لا ادري إن كُنت انت عائشا او على قيد الحياه بعد نصف قرن من الهول والحوَل..,, ولكنني أفترض انك تركت نَسلا..!!.. من هُناك كانت بدايات الغربه الطويله,,وهنا كانت استمرارية الغربه, ومن هُناك كانت المُقدمات تُشير الى أن مُقومات اللآ عوده أخذت مسارُها بلا عوده,, والقائل بوجوب عودة الغائبين الى اوطانَهُم لايَعي بأن البدايات تُشير الى الواقع بعد عقود من الزمن!..يبدُو ان البدايات كانت اساسا متينا لغُربة الروح عن المكان والزمان والانسان والبيئه.... غُربة مُخيم ...غُربة طريق.....غُربة مرور وعبور الحدود. حُلم تخطِي حدود مخيم العكوب!!... غربة التيه في رحلة من المهد الى اللحد.!! غُربة تَدخُل في أطر مراحلها وتطورها ,, واحده تلوى الأخرى وعاما بعد عاما حتى يكتمل المشهد في غُربتيِن مُنصهرتين في وجدان انسان بلا اوطان!! الاوطان والبشر مُصطلحات تبدو اليوم بلا أحشاء ولا أقدام تقف عليها,,,والناس ياعزيز.. ليس كما تراهُم وتسمعهُم في محطات التلفزه العربيه... الناس يتكورون في الاوطان امام التلفزه ويُذبحون ويُسلخون في واقعهُم ويُجزرون في وجدانهُم واحلامهُم... الناس: تُروَض كما تُروَض الخيل والكائنات ألأخرى,,,والشعارات تطير مع الريح إذا إرتطمت بواقع لَهُ علامات ومؤشرات أبينا او تَحاشَينا الاعتراف بها خوفا من البيئه او خوفا على كياناتُنا ألإنسانيه الصغيره من الانهيار!! وهُنا بالضبط كانت كينونة الجهل والهزيمه يا عزيز!! تُكينِن في أعراسُنا الفكريه فردا وجماعات مُنذ عقود... منذ غرقت الكُوفخه ويافا وحيفا في بحر شعارات العرب وسجن ابولهب.., ومُرورا بِدَك مخيم العكوب بمدافع ونيران اخلاق الضيافه العربيه!!.., وحتى تعودُوا وتعودنا على رؤية الثلاجات المليئه بقطع لحمنا المُقطعه اربا إربا.... هل تصورت ياعزيز في يوم من الايام ان يصبح لحمنا ودمنا مُجرد فِرجه او تسليه لعرب ابولهب امام شاشات التلفزه؟؟ وهل تصورت ان يكون الوجدان خائب الى هذه الدرجه وان تكون الذاكره خائنه الى هذه الدرجه؟؟؟ هل تصورتني ان اكون فارسا من فُرسان الفضاء العربي لأقول لك على الملأ: سيداتي سادتي وإذا لم تخُنني الذاكره فأن هؤلاء اللذين يعيشون في غزه والضفه وبغداد كانوا من العرب!!!؟ ,, والسرب هُو السرب يا عزيز... لا يوجد إلا القليل الخارج عن السرب ويحتفظ بالوجدان, والخروج من وعن السرب يُقال أنَهُ حرام كما افتى بهذا مُفتي السلطان!!! ولكن العمامه يا عزيز وكما تعرف:: مُثبته اليوم على رأس يُحلل كل شئ ما عدى الكرامه!!! الكرامه الانسانيه هي الحرام في بلاد عباد الله!!!..نعم كُل شئ حلال ماعدى الكرامه اللتي جعلُوها بعيده حتى عن فم القَطَّارَه!!! لا يريدونَها لا بالكم ولا حتى بالقطَّارَه!!!!.... انت ياعزيز محظوظ سواء كُنت ميتا اوحيا في [وعلى] تُراب الوطن!!! يُوجد لك وجدان يقف ضد النسيان...نحن هنا ياعزيز في مخيم العكوب وبلاد عرب ابولهب ممنوع علينا حتى إستحضار الوجدان على مائدة عقولنا وافكارنا وذاكرتنا.... يؤسفني ياعزيز ان اقول لك ان إبني عزيز اللذي اسميتهُ على اسم عَمُو عزيز قد غَزى الشيب راسه بكثافه, ولكن الاهم من هذا وذاك ان وجدانه مَطبوُع بحلم الكوفخه ومقولة...ان عُمو عزيز كان اشجَع منك يا بابا!!! لقد عاد الى الوطن ورائحة الكوفخه ولم يرى محظوظا مخيم العكوب في بلاد عرب ابولهب!!!

*قصه من ارشيف الدكتور شكري الهزيل...2006..الكوفخه قريه فلسطينيه مهجره تقع شرقي غزه