بقلم : د.خالد الحروب ... 21.1.09
يلحق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بصاحبه جورج بوش فيغادران المشهد العالمي والشرق أوسطي في لحظة سوريالية. لحظة تجمع الفشل الذاتي والغبطة المعولمة لانتهاء الحقبة البوشية وأقداراً من أمل غير قليل تُناط بالرئيس المنتخب باراك أوباما. تلاقت تلك اللحظة مع حرب غزة التي أعلنت بدورها عن إسدال الستار بشكل دموي وفاحش على مغامرات وغباوات بوش الشرق أوسطية وإنهاء سذاجاته بـ "شرق أوسط جديد" مفصل على مقاسات أفكار المحافظين الجدد وإسرائيل. بيد أن حرب غزة عملت على ما هو أهم من ذلك: إنها تفتح ستارة أخرى عن شكل شرق أوسط مختلف: "الشرق الأوسط الممانع". الروافع السياسية العريضة لقيام هذا "النظام الجديد" تستند إلى أرضيتين: فشل مشروعات التسوية مع إسرائيل وازدياد بطشها الاحتلالي خلال العشرين سنة الماضية رغم إقرار الفلسطينيين بمبدأ الدولتين منذ أواخر الثمانينات, والفشل الإجمالي للسياسات الأمريكية في المنطقة سواء إزاء فلسطين أو العراق أو إيران أو "الإرهاب" وقائمة أخرى من القضايا الأقل مركزية, مُضافاً إليها سياسة احتقار الاعتدال العربي التي تمثلت في إهمال المبادرة العربية للسلام التي أطلقت سنة 2002 في بيروت بإجماع عربي.
رغم أننا ما زلنا نعيش لحظة الحرب إلا أنه بالإمكان القول, وبقدر من المجازفة, إن الحرب أطلقت نظاما إقليميا جديداً يمكن وصفه بـ"الشرق الأوسط المُمانع", معلنا نهاية مرحلة وبداية مرحلة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تحديدا. الحرب أنهت الشكل الصوري الهش لما كان يعرف بـ "النظام الرسمي العربي", متمحورا حول الجامعة العربية والدول العربية الكبرى إزاء فلسطين. معالم ذلك النظام كانت تتمثل في توفير موقف عربي شبه موحد كلما لزم الأمر وخاصة عند الأحداث الكبيرة, الحروب, الاعتداءات الإسرائيلية, الانتفاضات وسوى ذلك. تبنى ذلك النظام سياسة توافقية معتدلة في جوهرها وتأخذ بالاعتبار الشديد عدم مواجهة السياسة الأمريكية والاصطدام المباشر معها. نعرف جميعا أن ذلك النظام انشطر على نفسه في قضايا كبرى ولم يقو على استيعاب تناقضات مواقف الأطراف العربية, خاصة قبيل وخلال حرب العراق الأولى. لكنه إزاء قضية فلسطين تمكن من المحافظة على "هشاشة الحد الأدنى" بتقديم أقل ما يمكن من الفاعلية مُعلبةً بأكبر قدر ممكن من اللفظية. حرب غزة هي ثاني أهم اختبار تعلق بالصراع العربي الإسرائيلي خلال ما يقارب من ثلاثين عاما وتسبب في الانهيار الكلي لهذا النظام, إذا اعتبرنا أن الاختبار الأول كان زيارة السادات للقدس سنة 1977 وما تبعه من انشطار رأسي في النظام الرسمي العربي. لكن الأهمية الاستثنائية لحرب غزة هي وقوعها في سياق توزيع قوى إقليمي مختلف عما كانته الأمور قبل ثلاثين عاماً. وهذا السياق يتضمن دولا فاعلة غير عربية أهمها تركيا وإيران تلعبان دورا كبيرا, إن لم نقل مركزيا, في قضية فلسطين كما تجلى ذلك خلال الحرب. وكلا البلدين لا تتورعان, وبدرجات مختلفة, في تبني سياسة مصادمة للسياسة الأمريكية في المنطقة تجاه فلسطين. ردة فعل النظام الرسمي العربي على الحرب كانت أقل من "درجة العجز" التقليدية" التي تعودت عليها المنطقة, والتي غالباً ما كان يتم إخراجها على شكل اجتماع قمة يصدر قرارات وإدانات قليلة التأثير في مجملها. والأخطر من ذلك أن شرائح واسعة من الرأي العام العربي رأت أن هذا النظام تجاوز في ترديه درجة العجز والمراقبة عن بعد, كما كان الحال في حرب العراق الثانية مثلاً, وانزلق إلى درجة التواطؤ ضد الفلسطينيين. خلق ذلك كله فراغا سياسياً, أو بالأحرى كشف بشكل فادح عن الفراغ الموجود أصلاً والمغطى صورياً, والذي سرعان ما ملأته القوى غير العربية. وإحدى النتائج الطبيعية لهذه الصيرورة تكمن في أفول إضافي للنظام الرسمي العربي, وصعود تدريجي لنظام "الشرق الأوسط الممانع". الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحول دون مزيد من الأفول هنا, ومزيد من الصعود هناك هو تغيير الأرضيات التكوينية لهذا التغيير: التغول الاحتلالي الإسرائيلي, والسياسة الأمريكية المتواطئة معه.
تاريخياً يمكن القول بأن قمة الدوحة التي ضمت عددا من الدول العربية وحضرتها تركيا وإيران والسنغال الإعلان الرسمي لصعود "الشرق الأوسط الممانع", وبداية لحظة الانعطاف الزمني والنوعي في شكل النظام العربي والإقليمي. وثمة أكثر من مغزى ودرس في قمة الدوحة, لكن يكفي هنا ونظرا لمحدودية المساحة الإشارة إلى الدرس المركزي الأهم, والمغزى المركزي الأهم. الدرس المركزي يقول إنه بإمكان الدول العربية فعل الكثير والانتفاض على حالة العجز الذاتي التي عطلت الفعل العربي لسنوات إن لم يكن لعقود. فهذه قطر الدولة الصغيرة والهامشية إستراتيجيا في المشهد العربي تقود بفعالية حقيقية جهداً كان الأهم سياسيا ودبلوماسيا وتأثيرياً في المنطقة. وهذا يعني أن التوصيف "المكرس للعجز الذاتي" لطبيعة العلاقات الدولية والإقليمية, وخاصة الهيمنة الأمريكية, وبكونها ضاغطة على الدول العربية وتحرمها مجال حركة هو توصيف مخطئ تماماً. لم تعلن قمة الدوحة الحرب على إسرائيل, لكنها اشتغلت في المجال الذي تتيحه هوامش السياسة وهي كثيرة, وهو مجال مقدور وعدم استغلاله تسبب في الانهيار العربي الذريع الذي نراه. واستندت قمة الدوحة (كما استندت تركيا داخلياً) في ذلك الاشتغال على مزاج داخلي شعبي وخارجي عالمي داعم للفلسطينيين ومعارض للوحشية الإسرائيلية الباطشة. ولنا أن نتخيل الوضع لو كان لمصر والسعودية على وجه التحديد موقف مشابه وجهد في ذات الاتجاه؟ أما المغزى الحقيقي لهذه القمة ومن ناحية الشكل الإقليمي العام فيكمن في إعلانها الرسمي بأن الدول العربية الكبرى فشلت في المحافظة على أي بقايا لدور قيادي في المنطقة, خاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين, وتركت هذا الدور ليس فقط لدول عربية صغيرة, بل وأيضا لدول غير عربية. وعلينا أن ننتظر بعض الوقت لنرى فيما إن كانت "قمة الدوحة" ستستمر على شكل تحالف أو شبه تحالف بين الدول والأطراف التي حضرتها بما يكرس الشكل الإقليمي الجديد, أو نظام "الشرق الأوسط الممانع". دخول تركيا وإيران بقوة إلى قلب النظام الإقليمي العربي هو المعلم الأول والكبير في الشكل الجديد, طبعاً إلى جانب بروز دور قطر وسوريا, مضافاً إلى ذلك قوى وحركات المقاومة.
وهذه الإضافة الأخيرة, أي قوى وحركات المقاومة, وارتقائها إلى درجة مختلفة على المستوى الإقليمي, تمثل المعلم الثاني لهذا النظام الإقليمي قيد التشكل. فهذه القوى ورغم أنها أطراف غير دولتية (ليست دولاً وحكومات) إلا أن نظام الشرق الأوسط الممانع يمنحها موقعا وشرعية وتعاملاً دبلوماسياً غير مسبوق. فعلى غير ما هي الحالة التقليدية للنظام الرسمي العربي حيث الأطراف المشاركة والرسمية فيه هي الدول, وحيث عضوية الجامعة العربية مقصورة عليها بطبيعة الحال, فإن نظام "الشرق الأوسط المُمانع" يضم منظمات مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. وعندما يتحدث خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس مباشرة بعد أمير قطر وعلى التوازي مع رؤساء دول فإن ذلك يعني تغييرا جوهرياً في الأدوار والأوزان السياسية التي تلعبها الأطراف غير الدول. ارتقاء الأطراف غير الدولتية في أي فضاء سياسي, وطنيا كان أم إقليمياً أو عالمياً, يتأسس على البطالة الطوعية التي تختارها الدول والحكومات وبها تعطل أدوارها المناطة بها, أو تعجز عن القيام بها, بما يخلق الحيز لبروز واستقواء تلك الأطراف. وهنا لا يُلام الطرف الفاعل, أي القوى غير الدول, لأنها تحتل مساحات فراغ سياسي, بل يُلام الطرف العاطل عن العمل, أي الدول, بكونها انسحبت إلى الوراء وخلقت تلك المساحات بتخليها عن ما كان يجب عليها أن تقوم به.
فلسطينيا عززت هذه الحرب ونتائجها غير الحاسمة, نسجاً على منوال حرب إسرائيل ضد حزب الله في صيف 2006, موقع حركة حماس في الساحة الفلسطينية, وأضعفت موقع حركة فتح عموما, وموقع السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس في رام الله خصوصا. الارتباك والتردد والعجز الذي وسم موقف فتح والسلطة في رام الله وجه ضربة شديدة التأثير لموقع الاثنتين ولا يعرف أحد في هذه اللحظة كيف سيتم ترميم الخسارات. عززت الحرب أيضا مسألة في غاية الخطورة وهي تباين مصادر الشرعية. ففي حالة الرئيس عباس والسلطة في رام الله تبدى أكثر وأكثر أن مصدر الشرعية الأساسي خارجي متمثل في التوافقات السياسية مع الأطراف الخارجية, إسرائيل, الولايات المتحدة, أوروبا, والعلاقات الدولية والدبلوماسية التي تساند السلطة والرئاسة. في حال حماس تبدى أكثر وأكثر أن مصدر الشرعية الأساسي داخلي, يعتمد على آليات ذاتية: الانتخابات والمقاومة في السنوات القليلة الماضية. في نفس تلك السنوات ارتكبت حماس سلسلة من الأخطاء بعضها يتسم بالجسامة, وأهمها فشلها في تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد فوزها بالانتخابات مباشرة, ثم لجوؤها إلى القوة لحسم خلافها مع فتح في قطاع غزة, هذا من ضرورة الإشارة دوما إلى رعونة القادة الأمنيين الفتحاويين في غزة واستفزازاتهم التي ساهمت في دفع حماس للقيام بما قامت به. على كل حال, أتاحت الحرب وصمود قطاع غزة والأداء العسكري لحماس وفصائل المقاومة إعادة ترتيب الأوراق وخلق واقع جديد. جوهر هذا الواقع, فلسطينيا, هو استقواء حماس واستضعاف فتح بما سينعكس على مضامين ونتائج أي حوار فلسطيني- فلسطيني قادم, إذ سيقوم على أرضية توازنات سياسية مختلفة.