بقلم : زهير بن عياد* ... 25.09.2012
ثمة حقيقة مهمة اخذت مكانها في قناعاتي ، إثر الاحداث الأخيرة حول مسجد بئر السبع الكبير ، تفيد أن هذا العمل وما على شاكلته هي من حيث العمق تهدف للمساس بالجوهر الروحي الحضاري الثقافي والتاريخي لبدو النقب ،هي أعمال فظة بطبيعتها العنفية المستحقرة النهبيه الاستعمارية الظالمة ، قديمة جديدة تؤصل لإنهيار وتداعي أخر نقاط القوة لما يمكن أن نسمية ( عكاظ بدو النقب ) .لهذا كله وزيادة ، نرى أن الامر ومنذ سنين يزداد تكثفا وعمقا للقضاء على جزئية بئر السبع من اذهاننا وغسل أدمغة البدو التاريخية حول جوهر الصحراء وهويتها المتمثلة في بئر السبع ، وعليه ربما تم تجاوز الواقع السكاني قديما وحاليا ومستقبلا بجلب العديد من المهاجرين القفقاز والمغاربة ، إلا ان العمل وبوتيرة متسارعة على الفصل الفكري وتزييف الرواية التاريخية وحبكها بحيز مغاير ما زال ساريا وسائرا على قدم وساق .
إن كانت تمبكتو أيها السادة جوهرة صحراء افريقيا ، فهنا بئر السبع عين البادية ولبها لو قيض لها الزمن الكافي لأكتمل عقد جوهرتها المفقود ، تغنى بهذه المدينة كثيرا شيخ مؤرخينا عارف العارف كنوعا من الدلالة على اصالتها وطيبها وطبيعتها العريقة ففيها أعباق التاريخ العربي كنعانيا كان أم عمالقيا ، وعلى ثراها نبت وواصل الاصل العربي امتداده .
عرف أن تاريخ بئر السبع قديم قدم وافد عاد ، لهذا تميزت حتى حقبا متأخرة بالتراث الاصلاني والعادات والتقاليد القديمة ، تحرك العثمانيون سنة 1900 لاعادة بناء انقاضها خصيصا من أجل البدو المنتشرين في أشتات النقب آنذاك ، لتغدو في برهة سنين عقب إعمارها كما كانت قديما ملتقى للقوافل البرية القادمة من الهند وافريقيا مرورا الى مصر وسواحل البحر الابيض المتوسط ، خاصة انها تتمتع بتقاطع جغرافي مميز فقدر لها أن تلتقي عند تصادف ثلاث بيئات الصحراوي جنوبا الجبلي شمالا والبيئات الساحلية ، الى جانب طابعها الجغرافي هذا كان جل سكانها من العرب المسلمين والبدو المحافظين على سلوك تقليدي بحت .
نعم كانت هذه المدينة تاريخيا للبدو وبامتياز ، وسكانها الأصليين هم من قبائل البدو العرب المسلمين ، وهم اللاعب الشرعي الوحيد حينها فيها ، حتى تهاوت حرفيا سنة 1948 ، وطرد جل اهلها عنها ، ونفذت السياسة الديموغرافية تجاهها المتعمدة لحصر نسبة العرب لأقل من 15% .ولتترى عقب ذلك مسلكية إجتثاث أي تداخل لتاريخ البدو مع هذه المدينة فأقصوا بتعمد عنها ، لتندثر فيما بعد معالمها العربية الاسلامية وتطويها ملفات النسيان ،كالسراية والسوق البدوي المتآكل ، ومسجدها الكبير ، ومحطة القطار التركية ، كان كل ذلك بمواءمة تامة لسياسة سيزيفيه بعيدة ، يتزامن سلوكها مع القضاء على المركز العربي الوحيد بهدم مركزية بئر السبع التاريخية عند البدو لتجميعهم فيما بعد وتأطيرهم ،بالضبط كما تم في الشمال عندما أضعفت مركزية الناصرة بإقامة نتسيريت عيليت . فتم هنا إنشاء التجمعات السبع الكبيرة[تجمعات توطين البدو] بمقابل عشرات الكيبوتسات وتغذية بئر السبع بمنحى مغاير كليا ،" هذه التجمعات الهشة الركيكة التي يتم الاحتفاء بها في الاعلام الف مرة أكثر من بئر السبع التاريخية ، التي همشت بجهل وقلة وعي ودحرت من تاريخ عروبة النقب بجلافة " .
هي مسلكية التوطين الحالك اذا الذي أسس كغيتوات ذات منافذ موصدة أقتصاديا اجتماعيا ثقافيا بمقابل ذلك تم تنفير وتسفير العرب البدو عن عمقهم الجغرافي الاستراتيجي الهام في بئر السبع ، وهذا تحقيقا ل هما قديم يكتنف المتنفذين مجمله في حصر أي تمدد ديموغرافي تاريخي في النقب والسيطرة كذلك على الأرض وتخطيط ذلك بما ويتلائم مع جعل أهل النقب أقلية
في موطنهم ، والقضاء على خصوصياتهم الأثنية المميزة .
تماما ، هذا النفور العام الذي يتجذر مناخه ببطء تاركا مدينة بئر السبع وأي أحقية قومية تاريخية هو نتاج قديم لتكريس سياسة فصل البدو العرب عن مواقعهم التاريخية الأصلية الاصلانية، ولا ريب ونحن بمعرض الحديث أن براقش بدرجة ما جنت على نفسها ، فنحن أيضا ممن ساهم في إقصاء بئر السبع عن ذاكرتنا ووجداننا ووعينا كعاصمة أزلية ومعلم لتاريخ ثقافتنا واجتماعياتنا ومصالحنا العريقة ، بسوء نية ذلك أو بحسنها ، لتمسي مدينة الشيبان والمشائخ وكبار السن " مدينة الوطية " * تعيش عزلة قاسية بعد أن كانت تضرب أشارة ترحيبا وسلام لكل ناء وبعيد .
يؤلمنا وبحق ما تتعرض له مدينة الوطية التي عايش اجدادنا عبق تاريخها ممثلة بمسجد بئر السبع الكبير ، وبخلسة المختلس واهداف بيتت بليل تم تعبيد الطريق لإقصاء عاصمة العرب البدو العتيقة من فكرهم وبثهم ، ليتم وبمسار ممنهج مخطط له إعتبار مدن التوطين السبع على ضمورها ، اجتماعيا واعلاميا عواصم ومراكز البدو صوبها عليهم أن يتجهوا ونحوها ليجدوا ، بل لا غضاضة في ترك ما تقطنه من بقاع وتلجأ للسكنى بها .
بذات السياسة التي تم تشتيت الحواضر العظيمة ذهنيا ، ذوات التاريخ العريق كحماة وحلب وبغداد والموصل والجزيرة ومعان وغيرهن الى المنتهى ، اللواتي كانت اسماؤهن تلج في الآفاق ، ها هي بئر السبع تنضم لهذه القافلة الحائرة ، فأضحن جميعا بلا رونق تائهات كأن لم يكن لهن بالتاريخ سطور وذخائر ، كأنهن لم يلدن النجب السادة ، ولم يرسمن حضارة اسلامية عربية زاهية ، دمرن وجعلوهن يتقوقعن لخامل الذكر ، ينتظرن الغضبة " المضرية " ، وبئر السبع بعد أن حازت ما لم تتمناه تستقرأ واقعها بهذه الحال منشدة :
كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا -- أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا -- صروف الليالي والجدود العواثر
فعذرا يا بئر السبع - جامعه - مسجدا واثارا على هذا التقصير وقلة الوفاء والحيلة ، فعمليات الانشطار وصبها لا نقوى على صدها ، ورغم ذلك لن يزل بيننا وبينك خيطا رفيعا يشدنا للتشرد نحوك ...
* مدينة الوطية : المشهور بذلك انها مدينة بئر السبع ، لإن البدو إن اراد احدهم الذهاب لبئر السبع قال اريد أن أوطي من الجذر وط