بقلم : بروفيسور عبد الستار قاسم ... 30.09.2012
خرجنا للتظاهر احتجاجا على قلة المال، ولم نخرج من أجل الوطن، أو ضد إفساد الوطن، أو ضد التنسيق الأمني أو التطبيع أو الغزو الثقافي والاقتصادي. قيم الاستهلاك فوق قيم الوطن. هم (أهل الغرب وإسرائيل) يحلون لنا مشاكلنا المالية كل مرة نغضب فيها على السلطة. لكن هل نعلم لماذا يقدمون لنا المال؟ نعم نعلم، إنه ثمن وطننا وثمن دماء شهدائنا وأنات اطفالنا وآهات أمهاتنا وآلام جرحانا ومعاناة أسرانا. وماذا لو قرروا ألا يقدموا لنا المال؟ هل ننتهي إلى لا مال ولا وطن؟ هم سيتوقفون عن تقديم المال عندما يطمئنون أن نزاعنا هو الأخير.
لا يغضبنّ أحد عندما يتهمنا آخرون بأننا نخون وطننا وشعبنا لأننا فعلا نخون وقد أتخمتنا الخيانة حتى خرجت من رؤوسنا. نحن نخرج للتظاهر الآن ليس دفاعا عن الوطن أو رفضا لخيانة، وإنما من أجل رواتب تأتي أغلب أموالها من إسرائيل ومن أقاموها وشردوا شعب فلسطين. وهكذا ينظر إلينا الصهاينة والأمريكيون من قصورهم فتنفرج أساريرهم فرحا بإنجازاتهم العظيمة في تدمير الروح الوطنية لدى الفلسطينيين مقابل دراهم خسيسة يأخذونها ببساطة من ثروات العرب.
أوسلو هو الخيانة العظمى، وبنيت عليه اتفاقيات مرعبة ساقت مئات الآلاف من الناس كالقطيع إلى حظيرة البحث عن مصالح مادية عنوانها التسول والاستجداء والنفاق والسرقة على أكتاف المساكين والفقراء، ودفعتهم نحو التنسيق الأمني مع الصهاينة والذي يعني شيئا واحدا فقط وهو الدفاع عن أمن إسرائيل ضد شعب فلسطين وأرض فلسطين ومقدسات فلسطين. جاء اتفاق باريس مجسدا للخيانة العظمى، واتفاق طابا للخيانة الأعظم، ثم مؤتمرات الصهاينة التي يحضرها مثقفون فلسطينيون ومسؤولون وسياسيون ليساهموا في رسم سياسة الحفاظ على إسرائيل من أعدائها ومن عثرات الزمن.
الخيانة تنخر أوصالنا وعظامنا، ونحن نراها ونمارسها ونحاول أن نوهم أنفسنا أننا ندأفع عن وطن. يبيع أحدنا الأقصى والقدس، ولا يجد حرجا في الوقوف أمام التلفاز مدافعا عن الثوابت وعن حق العودة وحق تقرير المصير. والله إنه كاذب. الاتفاقيات مع إسرائيل خيانية، ونصوصها واضحة لا لبس فيها، ويستطيع الشبل أن يقرأ فيها خيانة الوطن والشعب. لا تحتاج نصوصها إلى فلاسفة وعباقرة حتى يروا المأساة الفلسطينية المتجسدة فيها. هناك من قبلها عن جهل، وهناك من لم يقراها ودافع عنها لأن قبيلته تطلبت ذلك، وهناك من غرق في الخيانة حتى أذنيه. هناك جريمة أكبر من أخرى، لكن الجريمة تبقى مترافقة مع الاتفاقيات.
سيخرج علينا من يدافع عن الاتفاقيات مع الصهاينة ويصفها بالوطنية، والرافضين لها بالخون. لكن عليه أن يراجع أولا قرارات المجلس الوطني الفلسطيني فيما يتعلق بالتطبيع والاعتراف بإسرائيل والتجسس لصالحه بالسر وبالعلن. وعليه أن يراجع أيضا القانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي ينص على تنفيذ أحكام الإعدام بكل الذين يقتربون من الصهيونية وكيانها. وقبل أن يهاجم الآخرين عليه أن يبحث عن عدد أحكام الإعدام التي ستصيبه عندما نطبق قوانين وقرارات منظمة التحرير الفلسطينية.
إذا كانت الاتفاقيات مع إسرائيل ليست خيانة، فما هي الخيانة إذن؟ أرجو من عباقرة أوسلو أن يعرفوا لنا معنى الخيانة. وهذا موجه بصورة خاصة إلى أولئك المثقفين والأكاديميين الذين باعوا ضمائرهم وأقلامهم وعقولهم من أجل حفنة مال قذرة يتلقونها من الدول الغربية.
توجهنا للناس منذ أوسلو وحتى الآن شارحين التبعات المتوقعة على الشعب الفلسطيني. قلنا لهم إن المدن سيتم إغلاقها بشاحنة تراب، وإن الشعب الفلسطيني سيتحول إلى متسول يستجدي المال من أعدائه، وإنه سيتم تدمير فكرة الاعتماد على الذات، وسيتم تدمير ما تبقى من اقتصاد فلسطيني، وسيتم فتح المجال أمام مزيد من الاستيطان، ومزيد من إجراءات التهويد للقدس والضفة الغربية، وستتم مصادرة المزيد من الأراضي، وسيتم تمزيق الضفة الغربية. وقلنا للناس إننا سنقتتل، وستسيل دماؤنا في الشوارع، وسنتنازع، وسيغلب نزاعنا الداخلي نزاعنا مع الصهاينة. وقلنا لهم إننا سنصبح حراسا على مملكة إسرائيل، وسينسى الناس اللاجئين، وستتحول فلسطين إلى الضفة الغربية وغزة، وستصبح بضائع إسرائيل مصدر فخرنا وعنوان استهلاكنا، وستنفض عنا شعوب ودول، الخ. كل هذا حصل لأن الحصاد من جنس البذار. تزرع خيانة تحصد نذالة.
وماذا بعد؟ أمامنا طريقان: إما أن نستمر بما نحن فيه فنحصل على رواتب ويضيع الوطن وتتشرد الأجيال القادمة بالمزيد، أو نعود إلى رشدنا فنضحي وندفع ثمنا باهظا وسهرا وتعبا وننقذ وطننا والأجيال القادمة. إما أن نستمر بما نحن فيه فنخسر الدارين: الدنيا والآخرة، أو نستقيم فننقذ أنفسنا من براثن الخيانة والذلة والمهانة والابتذال. إما نجوع ولا نركع، أو نركع ولا نجوع، فتبقى الأجيال خائبة بلا وطن وبلا طعام.
يجب التخلص من الاتفاقيات مع إسرائيل، ولا يوجد أمامنا خيار آخر. سندفع ثمن ذلك، وسيضيقون علينا الخناق، لكن تاريخنا مليء بالتضحيات ونحن أهل لها، ويجب ألا نبقى منهارين أمام قلة من الخونة المأجورين الذين رهنوا أنفسهم دفاعا عن المحتلين، وإذا كنا لا نريد دفع الثمن الآن، فلا وطن لنا.