أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الإسلاميون والانزياح المخيف!!

بقلم : د. خالد الحروب ... 06.10.2012

أضاع العرب أكثر من قرن ونصف القرن في سجال شبه سرمدي لم ينته حتى الآن حول شكل الاجتماع السياسي الذي يمكن أن يرث الدولة العثمانية والاستعمار ويحقق استقلالهم. وقد احتلت قلب ذلك السجال النقاشات المحتدمة حول درجة ارتباط الدين بالسياسة، والعلاقة مع الغرب، وموقع التراث والماضي، والتعليم، والمرأة، والعدالة الاجتماعية، وبناء مجتمعات حديثة. ومنذ كتابات رفاعة الطهطاوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى الآن والفكر العربي يجتر نفس الموضوعات ويطرح نفس المقاربات. والاتجاه الغالب في تلك المقاربات كان للتيار "التوفيقي" (أو التلفيقي) الذي اقتنع بفكرة مزاوجة "ما يناسبنا" من أفكار الحداثة الغربية مع "ما يناسبنا" من ماضينا. وهذه التوفيقية كانت إلى حد كبير "الإيديولوجيا" الرسمية لدولة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية، حيث تم الشروع في تبني حداثة منقوصة ومحاولة تركيبها على بنية تقليدية لا تحتملها، وانتهت مآلات تلك التوفيقية إلى الفشل الذريع الذي نحياه ونراه، وقاد بعضاً من الدول إلى كوارث حقيقية وأنظمة بالغة التفاهة (ليبيا القذافي كمثال صارخ). وتتنوع التحليلات في فهم أسباب ذلك الفشل التاريخي وزوايا النظر إليه، ولكن يمكن هنا التركيز على فكرتين مركزيتين تعودان للظهور الآن في حقبة ما بعد الثورات العربية وتصاعد قوة الإسلاميين ووصولهم للحكم في أكثر من دولة. الفكرة الأولى هي أن الباب الذي أبقي مفتوحاً جزئياً على الماضي لاختيار "ما يناسبنا" ظل ينفتح أكثر فأكثر لتتسلل منه منظومات وقيم وأوهام ماضوية كانت قد صُنفت من قبل النهضويين العرب، بمن فيهم الإسلاميون الإصطلاحيون مثل الأفغاني وعبده والكواكبي، في عداد "ما لا يناسبنا". وفي نفس الوقت كان الباب الذي فتح جزئياً على قيم الحداثة الغربية وتجربتها لاختيار "ما يناسبنا" قد صار ينغلق شيئاً فشيئاً، أو حتى أغلق تماماً وعوضاً عنه فتحت كوات ونوافذ ضيقة تسمح بمرور الحداثة التقنية والصناعية من دون حداثة الأفكار والسياسة. وحتى القيم التي تمكنت من الإفلات من تلك الكوات، وفي أقصى تجلياتها مثل الديمقراطية والانتخابات والدستور، تم عجنها بقيم ماضوية أفقدتها معناها الحقيقي وسِمتها الانعتاقية الأساسية.
والشيء المدهش أن تلك الصيرورة كانت قد حدثت في ظل دولة غير إسلاموية وغير مُدارة أو مُسيطر عليها من قبل الحركية الإسلامية. وكانت بالمجمل الدولة القُطرية القومية التي انتزعت شرعية الوجود في طول وعرض العالم العربي. وقد أفسحت تلك الدولة، بسبب هشاشة شرعيتها وعدم تأسسها على مشاركة سياسية ونظراً لطبيعتها القمعية، مساحات واسعة لانتشار الماضوية التي تمكنت في نهاية المطاف من الإطاحة بها في حقبة "الربيع العربي". والنقطة ذات العلاقة هنا هي أن المنطقة الرخوة والغامضة التي تركتها التوفيقية في الوسط "ما يناسبنا من الحداثة، وما يناسبنا من الماضي" سرعان ما تم احتلالها من قبل الماضي لأسباب بنيوية، أهمها فشل النخبة الحداثوية في تقديم نموذج ناجح، والضغوط والتدخلات المتواصلة من الغرب التي محت صورة الغرب المستنير لصالح الغرب الاستعماري في المخيلة العامة. وفي تلك المرحلة الطويلة، ولنقل طوال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت تلك المنطقة الرخوة تفصل بين النزعة الإسلاموية الآخذة في الاتجاه أكثر نحو الأصولية والتيارات العلمانية الأخرى (القومية، واليسارية، والليبرالية). وعلى رغم سيطرة التيارات العلمانية على الدول والحكومات العربية بشكل أو بآخر إلا أن النزعة الإسلاموية ظلت في تصاعد ثم حققت انتصارات كبيرة أيامنا هذه. والخطورة الكبيرة في الوقت الراهن تكمن في أن المنطقة الرمادية التي كانت تاريخياً منطقة سجال بين الإسلاميين وغيرهم، تنتقل الآن لتصبح بين الإسلاميين أنفسهم: أولئك الذين في الحكم ومن يوصفون بأنهم أكثر اعتدالاً، والآخرين المعارضين لهم على أرضية سلفية والذين يهاجمونهم برؤية دينية. ومعنى ذلك أننا قد نشهد انزياحاً تاريخياً هائلاً في الاتجاه العام نحو الماضي يزيد من إغلاق الباب بيننا والعالم. ويتسارع هذا الانزياح المخيف مستفيداً من آليات معاصرة وجديدة لم تكن متوافرة في بدايات القرن الماضي عندما تأسست السجالات الأولى وأقيمت "المنطقة التوفيقية الرخوة" بين الإسلاميين وغيرهم. وأهم هذه الآليات على الإطلاق الإعلام الديني التلفزيوني الذي يحتل الأثير والوعي عبر مئات الفضائيات الدينية التي تقولب وتشكل الرأي العام والمزاج والسلوك وكل ذلك في إطار منظومة قيم سلفية ماضوية معادية للآخر وللحداثة.
ثم إن الطبيعة الاستبدادية وغير الديمقراطية لدولة الاستقلال العربية والتدخلات الغربية ودعمها للديكتاتوريات العربية وفرت الأرضية الخصبة التي قادت تدريجياً إلى الانزياح نحو الماضي. ولكن الشيء المُفارق هو أن تلك الطبيعة الاستبدادية لدولة ما بعد التحرر من الاستعمار في المنطقة جاءت في المرحلة الثانية من تأسسها، وليس منذ اليوم لنشأتها، وعلى الأقل في المشرق العربي. في المرحلة الأولى كان شكل هذه الدولة (في مصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، والى حد ما الأردن، وكذا الأمر في المغرب وتونس وليبيا) ليبرالياً يقوم على الانتخابات والتعددية الدستورية. صحيح أن تلك الأنظمة الليبرالية كانت وليدة معاهدات مع المُستعمر السابق (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) وهو الذي ظل ماثلاً في خلفية الصورة بهذا الشكل أو ذاك، ولكن كانت ثمة ثقافة وانزياحاً نحو مأسسة الدولة الدستورية التعددية المدنية يأخذ مجراه البطيء ولكن الطبيعي. وأُجهضت تلك التجربة الليبرالية القصيرة في كل تلك البلدان على يد الحركات القومية التي اعتبرت تلك الأنظمة عوائق في طريق الوحدة العربية، وعوائق في طريق النضال من أجل تحرير فلسطين ومحاربة الإمبريالية. وقد أضاعت التجربة القومية أكثر من ستة عقود على العرب من دون أن تحقق الوحدة العربية، أو تحرر فلسطين، أو تنتصر على الإمبريالية. ولكنها استطاعت الإجهاز على الفكرة الليبرالية في المنطقة العربية وأفسحت المجال لبروز الإسلاموية لاحقاً. وفي بلدان عربية أخرى كانت هناك صيرورات مشابهة، ليس بالضرورة مندرجة في سياق الشعارات القومية الصلبة، ولكنها في الجوهر مولدة لانزياحات ماضوية وعلى حساب الانفتاح الليبرالي الحقيقي. وبعد كل تلك السنين يطرح الفكر القومي العربي في الوقت الراهن أفكاراً منفتحة وليبرالية وديمقراطية، ولكن ثمن تعلم الدرس الديمقراطي والليبرالي كان باهظاً: ستة عقود من عمر شعوب هذه المنطقة.
وعلى ذلك كله فإن الخوف الكبير، والتحدي الأكبر الذي يجب أن يقض مضاجع الإسلاميين، هو التغافل عن ذلك الدرس العميق والمرير، وبالتالي تكرار الانزياح التاريخي نحو الماضي وهذه المرة بعمق، بعيداً عن الشكل الديمقراطي والليبرالي الفعال للاجتماع السياسي، وبالتالي إضاعة عدة عقود أخرى على العرب وبلدانهم حتى نعود مرة ثانية ليس فقط للاقتناع بما كان قد اقتنع به رواد النهضة في أواخر القرن التاسع عشر بل وتطبيقه بانزياح نحو المستقبل هذه المرة وليس نحو الماضي.

كاتب وجامعي فلسطيني