بقلم : رشاد أبوشاور ... 17.10.2012
هذا السؤال خطر ببالي كثيرا في الأشهر الأخيرة، لا سيما بعد أن وجهت التهمة لروسيا والصين بأنهما دولتان إمبرياليتان، بسبب دفاعهما عن سورية، وتصديهما للمؤامرة الأمريكية الرجعية العربية التي تهدف إلى تدمير سورية الوطن والشعب.
بعض أصحاب هذا الطرح ينتمون إلى اليسار بشكل عام، دون أن يكونوا منتمين لفصيل يساري بعينه، وهم كانوا في فترات سبقت الحراكات الشعبية الثورية العربية في صفوف المعارضة، وبعضهم زج به في سجون الأنظمة لسنوات، ومنها سورية. هؤلاء لا يمكن رميهم بتهمة (العمالة) للأنظمة الرجعية العربية التي تشتري يسارا ويمينا، وتركز على أصحاب الأقلام، والفكر، والرأي، لتستعين بهم في الترويج لدورها التخريبي، ولتضليل المواطنين العرب الذين يجهلون خلفيات هؤلاء، وما ينطوي عليه خطابهم من تضليل.
فقط لأن روسيا والصين تدعمان سورية دبلوماسيا في مجلس الأمن، وترفعان الفيتو في وجه التآمر الأمريكي البريطاني الفرنسي، يصل الحنق والغيظ بهؤلاء إلى حدود افتقاد المنطق في اتخاذ موقف عقلاني علمي موضوعي، فتراهم يشتمون سياسة الدولتين العظميين، روسيا والصين، ويغطون خطابهم بمصطلح لينيني بعد تجريده من فحواه.
يرى هؤلاء اليساريون أن روسيا والصين دولتان إمبرياليتان، فقط لموقفهما مع سورية!
لينين علم اليساريين الأوائل، أن الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار، ومقولته هذه التي برهن عليها في كراسة هامة بهذا العنوان: الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار..فضحت وحشية الدول الاستعمارية، وكانت في مقدمتهما آنذاك بريطانيا وفرنسا، والتي بلغت حدودا قصوى في سياسة النهب، ووحشية الممارسات في قهر الشعوب، وفي استخدام التقنيات العلمية التي سُخرت لاحتلال دول، وأوطان، في القارات التي كانت تشكو من التخلف، وتحديدا في آسيا وأفريقيا.
الإمبريالية تعني أن الدول الاستعمارية أباحت لنفسها الحق في الاحتلال، وسلب الحريات، ونهب الثروات، وحرمان الشعوب، والأمم، من الحرية، ومن العلم والتقدم، ومن الاستقلال الوطني قبل كل شيء.
بريطانيا الإمبريالية، ما بعد الاستعمارية، طورت بحريتها لتصل هي الجزيرة المعزولة، إلى أبعد حدود الأرض، لا لنشر الحرية والعدالة، ولكن لنهب ثروات الشعوب. ومن أجل ضمان الهيمنة، فالسفن، والبوارج وحدها لا تكفي، ولذا كان لا بد من صناعة أسلحة متطورة، من المدافع إلى الطائرات، إلى البنادق سريعة الطلقات.. لزوم إرهاب الشعوب، وتدمير ثوراتها التحررية، ودفعها لليأس من المقاومة بسبب الخسائر الفادحة التي تلحقها (رسولة الديمقراطية والتنوير)!.
تجاربنا المرّة في الوطن العربي منحتنا عمليا معرفة ماهية الإمبريالية، تحديدا البريطانية والفرنسية ـ اللتين أفلت شمسهما في حرب العدوان الثلاثي على مصر الناصرية عام 1956، والتي شارك فيها الكيان الصهيوني_ ومن بعد الإمبريالية الأمريكية التي وضعت يدها على ممتلكاتهما في آسيا وأفريقيا، وفي الوطن العربي.
الإمبريالية في تجربتنا العربية هي: الاحتلال، والنهب ـ النفط تحديدا ـ ومنح فلسطين للحركة الصهيونية، وتقسيم الوطن العربي إلى دويلات إقليمية تقف حاجزا في طريق تحقيق الوحدة العربية، وتنصيب حكام تابعين منبتين عن الأمة، معادين لتحررها، ونهوضها.
انهار الاتحاد السوفييتي، وتشظى إلى دول، وفتح يلتسين الأبواب للفاسدين والفساد، على طريقة السادات مؤسس حقبة الانفتاح، التي وسعها الوريث مبارك بحيث تم نهب مصر وإفقارها، واستتباعها، وتغييبها عربيا وعالميا بعد أن خف وزنها.
انهارت روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي اقتصاديا، وخف وزنها عالميا، وهيمنت أمريكا قطبا واحدا على العالم، وأخذت تلعب به على كيفها، فلا منافس يزجرها ويتحدى سطوتها، والصين كانت صاعدة اقتصاديا، ولكنها ضعيفة سياسيا وعسكريا..كانت!
قيادة بوتين نهضت بروسيا، وساعده أن أسعار النفط ارتفعت، ولأنه كان صاحب مشروع قومي فقد وظف مال النفط لخدمة قوة بلاده داخليا وخارجيا.
صعدت روسيا والصين في عقد واحد، وبدأتا في مواجهة السيطرة الأمريكية الجشعة التوسعية، وهما حاليا في الموضوع السوري تخوضان حربا سياسية ودبلوماسية..نعم لمصلحتهما، ولكنها أبدا لا تتشابه ومصلحة أمريكا والدول التابعة، وبخاصة بريطانيا وفرنسا.
روسيا ما زالت في حالة دفاع عن النفس، فهي تعاني من الطوق الذي تضربه أمريكا حولها، ومن (المؤامرة) التي تعمل على تنفيذها في داخل حدودها، بتحريك (الإسلام) السياسي هناك، في حال تحقق انتصار مخططها التآمري على سورية، اعتمادا على أدواتها المحليين العرب، الممولين والمُسلحين، والذين يخوضون حربا سياسية، ودبلوماسية، ويرشون دولاً، وأشخاصا، ويوظفون وسائل إعلام افتضح أمرها بعد أن ضللت وموهت في فترة خلت.
روسيا والصين لهما طموحات وطنية قبل كل شيء، فهما تدافعان عن حدودهما، ولا تتوسعان خارجها.
الصين عينها على الصين الوطنية (فورموزا) لتستكمل وحدتها، وروسيا عينها على حدودها المستهدفة، وعلى جاراتها السوفيتيات السابقة اللواتي بتن موئلاً للقواعد الأمريكية، فهما إذا ليستا في وارد التوسع، وفرض بضائعهما على الشعوب بقوة الاحتلال.
إذا كانت روسيا والصين ما زالتا في داخل حدودهما، فكيف تتهمان بأنهما إمبرياليتان، وهما ليستا استعماريتين، فلا مستعمرات لهما وراء البحار، وبضائعهما تعرض في الأسواق لمن يشتري بكامل حريته، وهي أرخص كثيرا من البضائع الأوربية، والأمريكية؟!
من يصفون روسيا والصين بأنهما إمبرياليتان يهدفون إلى تغطية مواقفهم النظرية المنحرفة التي لا تستند إلى التحليل، وتعجز عن تقديم البراهين العملية المادية الملموسة، وهم يضعون خطابهم هذا في خدمة قوى الرجعية العربية المتآمرة على سورية الوطن والشعب، والتي لا تأبه إن دمرت سورية، لأن همها أن تحاصر إيران، وتمهد للاستفراد بحزب الله. هل ننسى جريمتهم في العراق، وتمويلهم لعمليات الناتو في ليبيا؟!
يؤسفني أن بعض (الرفاق) الذين احترمهم قد فقدوا اتزانهم بهذا التنظير المرتجل، والسبب أنهم يكرهون نظام الحكم في سورية، ولا يهمهم، ولا يوقفهم ليفكروا قليلاً، أن سورية نفسها باتت مستهدفة، وأن تنظيراتهم تصب في خدمة الأخوان المسلمين، والقاعدة، ومصرة الشام، وفي الجوهر: في خدمة الإمبريالية الأمريكية الأكثر بشاعة في تخريب حياتنا كعرب، والأكثر دعما ورعاية لنظم الحكم المجرمة التي ثارت عليها الجماهير العربية..وراعية الكيان الصهيوني سلاحا، ومالاً، وإشهار فيتوات تحميه من الإدانة!
وحتى لا يحرّف أحد الكلام عن وجهته، أود أن أكرر موقفي: أنا مع الحراك الشعبي في سورية، ومع مطالب الشعب السوري في التغيير، في الحرية والعدالة الاجتماعية..وبالتأكيد لست مع تدمير سورية، ولا يمكن أن أكون مع التدخل الخارجي الذي يهدف لتدمير سورية العربية، وأدين تماما من يمول ويسلح، أي من حرف الحراك الشعبي السوري وأخذه إلى خيار السلاح، وأرى أن العسكرة سرقت وحرفت الحراك الشعبي الذي اختفى تماما مفسحا المجال لقعقعة السلاح، وللتفجيرات التي تحصد أرواح السوريين الأبرياء.
الرفاق المنظرون لإمبريالية روسيا والصين يتقاطعون مع أعداء الشعب السوري، والثورات العربية، ويوظفون خطابهم التضليلي المنحرف في خدمة الإمبريالية الأمريكية.. فهل يجهلون ما يفعلون؟! ( هؤلاء لم يقرأوا كتاب لينين: مرض الطفولة ـ يعني الولدنة ـ اليساري)..وهنا نذكّر بأن أقصى اليسار يلتقي مع أقصى اليمين دائما!
قبل أيام صرحت هيلاري كلينتون: التحول الديمقراطي في العالم العربي ضرورة إستراتيجية أمريكية ..فمن يصدق هذا الكلام؟!
هل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، والممولان السعودي والقطري، مع الديمقراطية، وروسيا والصين ضد الديمقراطية للعرب؟!
باستذكار نكباتنا كعرب، يمكن التمييز بين العدو الصديق.
وبقليل من التفكير، وبنزاهة الضمير الذي لايغيبه عمى البصيرة، أو الرشوة، يمكن التمييز بين أمريكا التي لم تكن يوما صديقة، وروسيا والصين الصديقتين.. يا إخوان!