بقلم : د. هيفاء بيطار* ... 04.12.2012
ما الذي يوقظها من عزِّ النوم سوى هذا الإحساس الأصم الثقيل المؤكد: اليأس؟! أجل اليأس. حاولت أن تغّش نفسها وتبحث عن تعبير أخف وطأة، لكنها أدركت في تلك الليلة حين أفاقت في الرابعة فجراً، واليأس متربصٌ بها كاشفٌ عن وجهه العريض بعينين رماديتين مطفأتين دون بياض، وأنف عريض كالجدار، وفم عبارة عن شق دون شفاه، أدركت أنه لامجال للالتباس، فهذا وجه اليأس. تذكرت نصائح الطبيب النفساني الذي لجأت إليه في الشهرين الأخيرين.
منذ سنوات وهي تفكر باستشارة طبيب نفساني، لكنها كانت تخشى من نظرة الناس، سيقولون عنها مجنونة، في سرها كانت تصرخ بهم: النفس تتعب كالجسد، بل أكثر منه وتحتاج لمن يريحُها، حسمت أمرها أخيراً باستشارة طبيب نفساني لسبب وحيد كون عيادة هذا الطبيب العائد حديثاً من ألمانيا تقع في مبنى ضخم كل طابق فيه يزيد عن عشرة مكاتب، وكما يقولون (الطاسة ضايعة) تعبير عاميّ تحبه، يعني أن لا أحد يعرف أي مكتب تقصد. ما طمأنها كون محل مزين شعر للسيدات في طابق عيادة الدكتور النفساني، وكانت تتعمد أن يكون شعرها مُسَّرحاً بعناية حين تقصد الطبيب ولا تنسى أن تضع في حقيبتها بخاخ تثبيت الشعر الذي يذيع أنها كانت لدى مزين الشعر، فيما لو صادفت أحداً من أقاربها أو أصحابها. كانت بعد كل جلسة لدى الطبيب النفساني تتعمد أن تدخل الحمّام، تبخ بكثافة رذاذ مثبت الشعر على رأسها، ثم تخرج من عيادته بثقة.
الرابعة فجراً، سكون الخلق الأول، لم تبدأ بعد العمليات اللامجدية للبشر، عالم الضجيج لم يستأنف دوامته، أعدت القهوة، وهي تتذكر أن وصية الطبيب النفساني الأول أن تمتنع عن القهوة كلياً، وكل أنواع المنبهات، سمح لها بعد إلحاح منها أن تشرب فنجان قهوة وحيد في الصباح، ووصف لها دواءً للقلق، تبتلع منه حبة كل مساء. ولكن ولعها بالقهوة جعلها تتمرد على نصائح الطبيب. قالت له:
- القهوة صديقة قديمة.
ضحك متسائلاً: صديقة؟
قالت: طبعاً، أليست القهوة مشروب الأحزان، ومحطات السفر، ولقاء الأصدقاء إنها صديقة الانتظار.
أعجبه تعبيرها الأخير "القهوة صديقة الانتظار" حكى لها أنه حين كان يدرس في برلين، أحبَّ امرأة تسكن في ضاحية بعيدة، وكان يشرب عدة فناجين من القهوة وهو ينتظرها.
أقنعها أن أهم خطة لنجاح علاج أرقها المزمن هو الامتناع عن المنبهات، وحاول تعزيتها بأن تشرب نوعاً مستورداً من القهوة بدون كافئين، لكنها لم تستسغه، قالت له في الجلسة التالية: القهوة لاتقبل الغش، مانصحتني به هو سراب القهوة.
ابتسم قائلاً: سنتعاون معاً لمحاربة أرقك المزمن، والشديد في الواقع، لا أريدك أن تسقطي ضحية إدمان المنومات، يجب أن تلتزمي بخطة للعلاج، أساسها ركيزتان أساسيتان: العلاج الرؤيوي، والامتناع عن المُنبهات، الموضوع الأول مهمتي، والثاني مهمتك، أريد منكِ وعداً بالانقطاع عن المنبهات ، وعدته هي شاربة القهوة والضجر بامتياز حكت له أن صلب وظيفتها يعتمد على شرب القهوة، ذُهل حين قالت له إن عدد فناجين القهوة يتجاوز السبعة في ساعات الصباح الأولى.
سألها: أهذا معقول؟
قالت: يادكتور كيف سنقضي ثماني ساعات عمل دون قهوة، خاصة أن عملنا الفعلي لايتجاوز النصف ساعة.
أحرجته، لم يجب. قال طاوياً النقاش: المهم استبدلي بالقهوة عصيراً طازجاً أو زهورات أو نعناعاً.
جلست ترشف القهوة وهي تتخيّل نظرة العتب في عيني الطبيب الجميلتين، فكّرت: إنه شاب جميل حقاً، وممتلئ حماسة، لكن حزناً عميقاً ينفلتُ من عينيه مباغتاً لكليهما وهو يتحدث إليها، ترى ماسرُّ حزن العينين الجميلتين؟ فكّرت وهي ترشف قهوتها أنه ألهاها حقاً عن المشكلة ولم يحّلها لها. أكثر من عشر جلسات، تستغرق كل جلسة نصف ساعة، يحدثها عن العلاج الرؤيوي. بهرها حقاً في الجلسات الأولى، لدرجة أنها ظلت أياماً تحس بنشوة لاتعرف مصدرها. ترّجع صدى صوته في ذهنها: المهم أن نغيّر نظرتنا للواقع، فالراتب الحقير لن يزيد إذا اكتأبنا، والضجيج اللعين المنطلق من المذياع والتلفاز، وزئير السيارات وآلات النجار والحداد، والباعة المتجولين الذين طوّروا طريقتهم في البيع باستخدام مُكبرات الصوت، كل هذا الجعير كما تسميه والذي يدّمر الأعصاب ببطء مامن سبيل للخلاص منه سوى بتعويد أنفسنا ألا نعتبره كارثة.
حتى الضجر نفسه الذي يدفعها للبكاء، من شدة وطأته، والذي تغذيه تفاهة الناس، وانعدام النشاطات الثقافية في المدينة، وموت السينما والمسرح يمكن التحايل عليه بخلق أهداف جديدة، تغير نظرتنا إلى الواقع.
نشوة الجلسات الأولى وحماستها لطاعة الطبيب تلاشت، بدأت بذرة شك تنبتُ في روحها، إنه يُلهيها ولا يُعالجها، هذا ماتحسه، منذ سنوات وهي تعاني من أرق ينهك أعصابها، تحس بنعاس شديد، تنام ساعتين، لتستيقظ، كأن أحداً لكزها في كتفها وأمرها أن تقوم من فراشها، تنصاع للصحو، وتجلس في وحدة الليل وقد تماهت مع وحدتها تصغي للصمت الذي تفتنها موسيقاه أكثر من كل موسيقى، تقلّب حياتها أمامها سنة بعد سنة، ياللمرارة! يا للحقيقة القاسية، تنبسط أمامها سنوات حياتها طويلة تدرك كم أن الألم طاغ، ويترك وشماً بحجم الذاكرة، أما الفرح فليس سوى رشّات صغيرة من غبار رائحته ذكية، لكنه سرعان مايطير دون أن يترك أثراً سوى صور باهتة في الذاكرة.
تذكّرت كم عانت مع والدها الذي أصابه الشلل بعد حادث سيارة، سبع سنوات وهي تصحو على وجه أحبّ إنسان إلى قلبها وقد كوّمه العجز، كتلة من العذاب المتواصل، كان يناديها لتهش ذبابة حطّت على وجهه لأنه عاجز عن هذا الفعل، أنهكتها السنوات السبع، شلل والدها جعل روحها تنشّل تماماً، فقدت قدرة توليد أي أمل، انصبّت على دراستها لتتفوق في الجامعة، وتغدو مهندسة بامتياز، لكن الوظيفة براتبها الشحيح والبطالة غير المقنعة جعلتها تهوي في هوّة يأس له طعم مختلف عن طعم يأسها بعد شلل والدها. ابتسمت وهي تتذكر قصة حبها لشقيق صديقتها. هل أحبته فعلاً أم أمرت نفسها أن تحبه متعمّدة خلق شعور جميل في حياتها؟ تعاهدا على الزواج، سافر إلى السعودية ليعمل على أمل أن تلحقه، لكنه سرعان ما سقط في الإغواء، وتزوج أرملة ثرية.
كانت ترفض الاستسلام لمطبات اليأس، قوة الشباب وحدها كانت تجعل كفة الأمل ترجح، انتهت مرحلة الآلام الأولى، توفي الأب وطوت صفحة الحبيب الخائن وتعوّدت ذل الوظيفة، بدأت عهداً جديداً. تزوجت شاباً مناسباً يملك شقة ودخله يضمن لها ألا يجوعا يوماً، لكنها لم تستطع الاستمرار معه، لأنه كان موهوباً بعجن الساعات بالنَكَد، لايكف لحظة عن انتقادها، نبهها إلى أن أفظع وسيلة لتعذيب إنسان لإنسان هي الكلام. لو كان طبخها مالحاً قليلاً لايكف عن انتقادها أسبوعاً يريدها أن تحب مايحبه، وتكره مايكرهه، يفهم المرأة كظلّ لزوجها، يدهشه أن للزوجة رأياً خاصاً، إنها يجب أن تكون السجادة التي تطؤها الأسرة: الزوج والأولاد والأهل.
طلقته غير آسفة، وبعدها ابتدأ الأرق، كانت تحسد الناس الذين يغفون بسرعة، لديها صديقة تشرب عدة فناجين من القهوة، ثم تغفو، لكم تغبطها، كانت لا تزال راغبة بشرب فنجان آخر من القهوة، وهي تنصت لصمت الليل، نظرت إلى ساعتها. الرابعة والنصف صباحاً، قامت تحضّر القهوة مبتسمة بسخرية من صورة الطبيب، المسكين، لم ينجح في علاجه الرؤيوي معي، هذا ماقالته لنفسها وهي تلحق فكرة: أي سخف أن يقنعني أن أغيّر نظرتي للراتب الحقير، إنه حقير لأنه يذلني ويشعرني أنني مسخة، فأي وهم هذا العلاج الرؤيوي، قررت أنها ستعترف له بسخف نظريته وبأنه يستحيل علاج المشكلة إن لم تستأصل من جذورها، إن لم يتغير الواقع جذرياً، أما أن يطلب من فقير تعيس أن يغدو سعيداً وهو منقوع في فقره، فهذا دجل ووهم.
أجل ستكون جلستها الأخيرة معه، لكنها تعترف في الواقع أنها ارتاحت له، وبأنها كانت تنتظر موعد الجلسات معه بشغف، لعلها بحاجة لصديق ينقذها من صقيع العلاقات البشرية. كانت ترشف القهوة بتلذذ وعيناها ثابتتان دون تركيز على نبتة في زاوية الصالون، تتدلى أغصانها الخضراء من الأصيص حتى تلامس الأرض. أغصان جميلة مفصصة عبارة عن أوراق متلاصقة، في تدليها غنج ودلال، وفي نهاية الأوراق تتفتّح زهور أرجوانية، شعرت أنها تبصر هذه النبتة للمرة الأولى، انتبهت: إن الرؤية تعني الإدراك، منذ سنوات وأمها تعتني بالنباتات وهي لاتبالي بوجودها، بل كانت تسخر من أمها قائلة: النباتات ليست جميلة إلا وسط الطبيعة.
لكن إحساسها بهذه النبتة مختلف تماماً في هذه اللحظة، بينهما لغة خاصة، انحناء الأغصان يذكرها بانحنائها تجاه زمنها الظالم، كلاهما ينحني ويرزح تحت ذلّ المعاناة، لكن النبتة تتفتّح على زهور أرجوانية ساحرة، إنها رغم ذلّ الزمان تبدع زهرات متفائلة.
ارتعش قلبها للحقيقة التي شعّت من روحها، مذيبة وجه اليأس الرمادي الكئيب بومضة، إنها هي كالنبتة محنية ومذلولة أمام زمن عاهر، لكنها تملك جمالها الخاص وزهور روحها تفوق زهور النبتة جمالاً، أمكنها أن تسمع في صمت الليل الجليل صوت الطبيب يقول لها: برافو، أهنئك، هذا هو العلاج الرؤيوي، أن ننظر بعمق إلى حقيقة نفوسنا، وأن نكتشف الكنز فيها، ولا نترك لصدأ الأيام أن يتراكم فوقه، وألا ننكسر للظروف المحيطة مهما كانت قاسية.
دمعت عيناها تأثراً، قالت وهي ترمق صورته المرتسمة بوضوح في خيالها بامتنان وحنان، وترشف آخر قطرة من قهوتها: لكن القهوة يادكتور، أليست صديقة الانتظار؟ كان اللون الأرجواني للزهور يشع دفئاً، يغزو قلبها مباشرة فكّرت: إن نبتة صامتة ومُهملة منذ سنوات يمكن أن تكون صديقتها في معركة الحياة الصامتة المستمرة.