بقلم : د.خالد الحروب ... 05.11.2012
في بحث مسهب ومهم بعنوان "الدين والدولة في زمن الثورات: المنظور النهضوي ومطالبه" يقوض رضوان السيد أحد أهم المرتكزات الأساسية لحركات الإسلام السياسي وهي الزعم بأن الإسلام دين ودولة، محرراً الدين والشريعة من احتكار الأحزاب، ومحرراً السياسة من سيطرة الدين أو التفسيرات الضيقة له. ويتسم بحث السيد هذا، كما بقية أعماله، بالعمق التأصيلي المُتأسس على أرضية إسلامية والمنطلق من فكرة أن الأمة هي الأصل وهي الحاضنة الطبيعية للدين والشريعة، وهما لا يحتاجان دولة أو حكومة أو حركة سياسية حتى تحتكرهما بدعوى الدفاع عنهما أو النطق باسمهما. التورط النظري ثم العملي الفادح في الزعم بالحكم باسم الإسلام من قبل هذا الحزب أو تلك الحركة معناه زج الدين في معارك سياسية لا تنتهي ولا يمكن إلا أن تُنتج دماراً وتشويهاً لبعض جوانبه على أقل تقدير، وفي ذات الوقت تعيق السياسة الناجعة واشتغالها عن خدمة الناس.
يضع السيد إصبعه على أحد أهم الاختلالات النظرية التي حرفت العقلية الجمعية العربية والإسلامية منذ نهايات القرن التاسع عشر على أقل تقدير، والتي تطورت وتعمقت على أيدي منظري حركات الإسلام السياسي لاحقاً، وهي التي نقلت التفكير من "كيف نتقدم" إلى "من نحن"، أي من ميدان العمل النهضوي والعلمي وتحدي التخلف، إلى ميدان الهوية والغرق في الذات والتراث والتاريخ. وقد تطور الهم المصطنع والافتعالي ليصبح أيديولوجيات طاحنة وقاسية لا هم لها إلا الجدل النظري والسقيم المتمحور حول الهوية والدفاع عنها وإضاعة الوقت والجهد في قضايا وهمية ومتخيلة بدل التمترس في وجه السؤال الحقيقي والصعب وهو كيف ننهض وننتهي من التخلف. وسيقول كثيرون هنا إن مسألة الهوية جاءت من خلال محاولة الإسلاميين الإجابة على سؤال كيف ننهض؟ حيث كانت مقاربتهم تقول إن الطريق الوحيد هو العودة إلى الدين الصحيح وسوى ذلك. ولكن من ناحية عملية وبعد ما يقرب من قرن من تلك المقاربة فإن النتيجة هي المزيد من الغرق في مسائل الهوية والماضي والسلفية، ونقلها من إحداثياتها الماضوية ليس إلى الحاضر فحسب بل ولتتربع فوق أعلى مراتب السياسة والتأثير وتسيير الحياة الاجتماعية للبشر: أي لتتسلم سدة الحكم!
ويتابع رضوان السيد سيرورات تحكم الهم "الهوياتي" المُفتعل في مناهج التكوين السياسي للإسلاميين ثم تحكمه في حركاتهم وأحزابهم وبالتالي اختزال الإسلام بسبب ذلك في مقولات الحكم بالشريعة أو ضرورة التنصيص عليها في الدستور، بل وإخضاع الدستور لها في كل حيثياته ومبادئه. وقادت هذه السيرورة وتقود إلى سحب الشريعة من الأمة وإيداعها السلطة، وكأن الشريعة والدين دخيلان وخارجيان ويتسمان بالهشاشة والاغتراب عن المجتمع بحيث يحتاجان إلى تدخل دستوري من العيار الثقيل لحمايتهما. وهذا التدخل يقود إلى الكثير من الانحرافات المدمرة التي تعطل الوظائف الجوهرية للسياسة الفعالة من ناحية، ويشوه دور الأمة في احتضان الشريعة بشكلها العفوي ويعمل على تسييسها وتقسيمها. وعندما يتدخل الدستور والسلطة والدولة والحكومة وكل الأشكال السياسية الحديثة التي تطورت من أجل "الخدمة العامة" بطرق شفافة وفعالة إلى أدوات متوترة لـ"تطبيق الشريعة والدين" فإن ما يضيع في ميدان التطبيق هو اكتمال الخدمة العامة وانشغال الناس فيها، وترسخ معايير وآليات المراقبة والمحاسبة بناءً على كفاءة الأداء في الخدمة العامة. وينحرف النقاش وتنحرف الممارسة إلى الغرق الدائم في نصوص الدستور والقوانين وتلاؤمها مع الدين ومقدار حمايتها له، ثم كيف تطبق على الأرض، ثم كيف يراها كل حزب وكل مجموعة وكل مفتٍ وشيخ دين أو حركي. وهذا بطبيعة الحال سوف يقود المجتمع كله إلى كارثة من نوع جديد محورها "أي دين وأي شريعة" وكل من أولئك له فهم خاص بالدين أو الشريعة. ومعنى ذلك أن تعددية تفسير الدين والشريعة كما عرفها التاريخ الإسلامي وتطورت عنها المذاهب الإسلامية والمدارس الفكرية سوف تتحول في سياق الشكل الحديث للدولة إلى أحادية صلبة تعبر عنها نصوص دستورية وسلطوية فوقية ستعمل تدريجياً على محاربة التعددية والتنوع، لأن النص الدستوري يحتاج إلى تفسير كي يتحول إلى قانون يطبق بقوة السلطة، وفي كل حالة يتم فيها ذلك فإن مساحة من التعددية الاجتماعية والتاريخية والممارساتية ستتم التضحية بها على مذبح تطبيق الشريعة والحفاظ عليها.
إن المعنى العميق والغني لما يدعو إليه رضوان السيد يكمن في الدفاع عن التعددية التاريخية والفكرية لحقيقة أن الأمة هي حاضنة الشريعة وليست الدولة وليس الدستور وليست الحكومة. وهذه الأشكال الثلاثة هدفها هو خدمة الناس عبر السياسة، والسياسة بالتعريف خلافية ورمادية ومنشئة للخلاف والصراع الذي من المؤمل أن يتحول إلى صراع سلمي في حقبة ما بعد الثورات. أي أن السياسة والصراع والتنافس توائم لا تنفصل عن بعضها بعضاً، والتنافس بينها، وكثير منه تنافس كريه وغير شريف، هو سمة لا يمكن التخلص منها ويجب الإقرار بها، والوسيلة الوحيدة لتدجينه تكمن في الآليات الديمقراطية. ويتنافس السياسيون عبر برامج سياسية تخلط النيات الصادقة، ببعض الوعود الممكن تحقيقها مع وعود كاذبة لا يمكن تحقيقها، وتقوم على تحالفات آنية ومتغيرة هدفها تحقيق مصلحة حزب ما، أو قائد حزب، ويقوم ذلك كله على قاعدة التنافس لخدمة الوطن وخدمة الناس. وبكلمة أخرى تختلط الغايات مع الوسائل، الجيد الحقيقي منها مع السيئ والكاذب، وتراقب الأحزاب بعضها بعضاً مستخدمة آليات دستورية والكل يحتكم في آخر المطاف لبرلمان ديمقراطي مُنتخب.
ماذا نتوقع أن يحدث عندما نُقحم الدين في خضم صراع سياسي يومي كهذا؟ سوف يقع الدين في قلب التوظيف السياسي والاتهام والزعم بالنطق باسمه، ويتعرض لمآزق لا تنتهي من ناحية مفهومية بحتة، فالدين أي دين مناطه القيم المطلقة فيما السياسة قائمة على النسبية والمساومات. كيف سيعمل إسلاميو الحكومات على افتعال علاقة لا يمكن أن تقوم بين مبادئ الدين المطلقة وآليات السياسة النسبية؟ ولماذا يجب أن يحدث أصلًا بشكل يدمر الاثنين؟