بقلم : د.هيفاء بيطار ... 25.12.2012
تدور صينية القهوة على المعزين، ينتظر دوره، عن يمينه صالون النسوة الباكيات، تساءل وهو يتناول فنجان قهوته: لماذا لا يبكي الرجال مثل النساء؟ وهل البكاء صفة من صفات النساء وحدهن؟ وتخيل الرجال يبكون بالطريقة ذاتها التي تبكي بها النساء، فضحك في سره، ورشف قهوته متذكراً أن عليه أن يزور بيتين آخرين ليعزي. حدث نفسه:
اليوم ضربت الرقم القياسي في التعازي. الحمد لله انه يوم إجازة، الوقت فيه طويل وفضفاض.
مزق الصمت صوت امرأة تولول: لم تعش حياتك يا حبيبي، وعلت موسيقى البكاء الجماعي ثم تخافتت بعد دقائق. غاص قلبه وهو يردد صدى تلك الجملة: لم تعش حياتك، وبدت له شديدة الوضوح لدرجة السخف، وشديدة الغموض لدرجة التعقيد في الوقت ذاته، لكنه وافق المرأة بأن الشاب المتوفى لم يعيش حياته بالمعنى الزمني، ولكن كيف يعيش الإنسان حياته؟ تساءل بقلق، فيما أتاه صوت ساخر أحسه يخرج من فوهة مزهرية سوداء مزينة برسوم ذهبية قبالته، يأكل ويشرب وينام، كان الصوت ساخراً لدرجة أزعجته حقاً..
وها هو رجل على أعتاب سن التقاعد، ترى كيف عاش حياته، وتخيل نفسه في كل مراحل حياته مهموماً بدرجات متفاوتة، وبدت له لحظات السعادة قصيرة وعابرة، تترك أثراً طفيفاً كالأثر الذي يتركه اصبع في العجين سرعان ما يزول. وبدت له لحظات الألم عميقة ومديدة تترك وشماً في روحه وذاكرته لا يزول.
وهمس جاره في أذنه: المسكين مات فقعاً وهو لم يتجاوز الثانية والثلاثين..
نظر إلى محدثه، كان رجلاً كهلاً، تغضن وجهه بطريقة أثارت قرفه، وتأمله من مسافة القبلة، ابتلع ريقه محدثاً نفسه: ما أبشع النهاية... لكنه أحسه كهلاً سعيداً لأنه لا يزال حياً، لكأن السنوات التي انقصفت من عمر الشاب قد أضيفت إلى عمره..
قال الكهل: المسكين كان كالحصان، لكنه خسر خسارة هائلة بالتجارة، أوشك على الإفلاس، فمات. وجد نفسه يرد بآلية: لقد ارتاح.
ترى لماذا نقول كلمات لا نعنيها، ولا نؤمن بها، هكذا تساءل حين همس الكهل مجدداً في أذنه: أتعرف، لقد أصبت مراراً بالسكتة القلبية، وفي كل مرة كان الله ينقذني، الله وليس الأطباء... وابتسم كاشفاً عن لثة عارية بنفسجية مهترئة، فأثار القرف عند مستمعه، واضطر أن يقول له مجاملاً: الحمد على سلامتك.
انتفض من مكانه هارباً من مكانه المقيت، متجهاً إلى بيت التعزية الثاني الذي ينتظره، وفي طريقه استوقفه عند منعطف الشارع صوت ملح يناديه، عبد المجيد، عبد المجيد، تلفت ليرى رجلاً أنيقاً يسرع باتجاهه، حياه الرجل باسماً فرد التحية محاولاً تذكر صاحب الوجه. إنه أليف، يشعر أنه يعرف صاحبه، لكن أين لقيه؟ ومتى؟ لم يتذكر، ابتسم الرجل الأنيق وقال ضاحكاً: لم تتذكرني، أليس كذلك؟
تمعن عبد المجيد في وجهه وقال متأسفاً: للأسف لم أتذكر أين التقينا؟
قال الرجل الأنيق: سأذكر، هل تمانع أن أدعوك لشرب كأس من البيرة في مقهى قريب.
استغرب عبد المجيد من لسانه الذي دار للحال في فمه قائلاً: لا أمانع.
عجباً ليس من عادته الإذعان بهذا الاستسلام التام للآخرين، خاصة للغرباء، كيف وافق هذا الغريب قبل أن يتذكره. سارا متلاصقين، يتضارب كتفاهما قال الرجل: ستتذكرني من تلقاء نفسك في الحال، هل تذكر رحلة الطائرة بين دمشق والقاهرة سنة 1972.
ومضت ذكرى بعيدة وقوية في ذهن عبد المجيد: تلك الرحلة التي توفي فيها شاب في الأربعين بسكتة قلبية ولم يستطع أحد إنقاذه.
ضحك الرجل الأنيق قائلاً: جيد، ذاكرتك ممتازة، وأنت كنت في الطائرة أليس كذلك؟
وحاولت تهدئة المسافرين وإداخال الإطمئنان إلى قلوبهم.
ربت الرجل على كتف عبد المجيد قائلاً: ذاكرتك ممتازة يا عبد المجيد.
قال عبد المجيد: وهل تنسى تلك الرحلة، رجل يموت في الفضاء.
قال الرجل: وماذا في ذلك الموت هو الموت.
-لكن ما أبشع أن يموت الإنسان في طائرة، كم سبب ذلك من أذى ورعب للمسافرين.
ابتسم الرجل: الناس دوماً يخشون الموت، على الرغم من أن حياتهم قد تكون موتاً أكثر من الموت.
وصلا إلى مقهى رصيف قريب، جلسا متقابلين، سأله عبد المجيد: لكن اعذرني لم أتذكر اسمك بعد.
قال الرجل: اسمي منقذ.
ابتسم عبد المجيد: منقذ اسم ظريف، ترى من أطلقه عليك أمك أم أبوك؟
ضحك منقذ متهرباً من الجواب وقال: أخبرني، هل وفقت بمساعيك يومها.
تساءل عبد المجيد: أية مساع؟
قال منقذ: هل نسيت أنك حكيت لي ونحن في الطائرة، أنك ذاهب للتوفيق بين ابنتك وزجها، لأن المشاكل بينهما أوصلتهما إلى حد الطلاق.
أصيب عبد المجيد بذهول وتساءل: أنا حكيت لك كل ذلك.
قال منقذ: معك حق، الحديث عمره أكثر من خسمة عشر عاماً.
قال عبد المجيد وكأنه يحدث نفسه: لكن كيف أبوح بتلك الأسرار الشخصية لغريب؟
قال منقذ: ليس أسهل من البوح بالأسرار أمام الغرباء، والعابرين، لأننا لا نخشاهم، فهم يتركوننا احرار من تدخلاتهم وتقييماتهم.
-معك حق.
اقترب منهم النادل، طلب منقذ زجاجتي بيرة وبطاطا مقلية، قال لعبد المجيد: أحس بجوع.
سأله عبد المجيد: ماذا أنت فاعل هنا، أين...؟
قاطعه منقذ: في الواقع أتيت لمهمة محددة، وصلت منذ ثلاثة أيام وسأغادر غداً.
-هل أنت تاجر؟ اعذرني نسيت مهنتك، هل سألتك ونحن في الطائرة عن عملك؟
رد منقذ: لا، لم تسألني، كنت تتحدث عن نفسك فقط، كنت.ممتعضاً بشدة من خلافات ابنتك مع زوجها، ولكن قل لي هل أثمرت مساعيك في إعادة الوفاق بينهما.
-إطلاقاً، لقد حصل الطلاق في أثناء وجودي في القاهرة.
رد منقذ مازحاً: لعلك أسرعت في طلاقهما؟
قال عبد المجيد: ربما، لا أعرف، لكن ذاكرتك مدهشة فعلاً، كيف تتذكر كل تلك التفاصيل، كيف وكأن فكرة ومضت فجأة في ذهن عبد المجيد: كيف عرفتني في الطريق وناديتني بعد كل تلك السنوات؟ هل رأيت وجهي؟ أم عرفتني من ظهري...
ضحك منقذ مردداً عبارة زميله الطريفة: عرفتني من ظهري، قائلاً: معك حق، الظهر يدل على الشخص كالوجه تماماً، في الواقع يا عزيزي، أنا كنت أقصدك.
وضع النادل زجاجتي البيرة على الطاولة مع كأسين كبيرتين، وخاطب منقذ قائلاً:
-بعد دقائق ستكون البطاطا المقلية جاهزة.
شربا البيرة، بعد أن رفعا كأسيهما عالياً وقال كل واحد للآخر في صحتك.
تساءل عبد المجيد: أتقصدني أنا!
ابتسم منقذ وقال: أقصدك شخصياً يا عزيزي عبد المجيد.
-خير، هل تريد مساعدتي بأمر ما؟.
قال منقذ: لا أبداً لا أريد منك شيئاً، بل أتيت لأصطحبك إلى العالم الآخر...
أحس عبد المجيد بامتعاض شديد وقال بلهجة موبخة: لا أحب هذا الحديث، حتى لو كان مزاحاً. تابع منقذ باللهجة المرحة نفسها: أنا لا أمزح صدقني، هذه مهمتي تحديداً يا عبد المجيد، أنقل الناس إلى العالم الآخر، أساعدهم في العبور.
قال عبد المجيد ساخطاً وقد هم بالقيام: لا أستظرف حديثك أبداً يا سيد منقذ، ولفظ اسمه بطريقة أقرب للسخرية والاحتقار.
-مهلاً، مهلاً يا عزيزي، لا تغضب، لا تغادر الدنيا غاضباً، والله الشاب الفلاني الذي كنت تعزي به منذ لحظات سلمني روحه ببساطه تامة، قال لي: ارحني من عذاب هذه الدنيا الذي لا يطاق، والمرأة المسكينة التي كنت تقصد بيت ابنها لتعزيه بها، سلمتني روحها ببساطة أيضاً، رغم أنها كانت شديدة الولع بحفيدها.
أحس عبد المجيد بالشلل، وآمن أن رجليه لن تقويا على حمله لو حاول القيام، وما عاد باستطاعته رشف البيرة ولا الكلام، نظر في عيني منقذ، أذهله أنه للمرة الأولى يتأمل عينيه جيداً. إنهما عينان بلا بياض، مجرد سواد، سواد فاحم، أحس برعشة، وأخذ يرتعد، إنه يحس بأعماقه لاواعياً أنه في حضرة الموت، لكن هل خطر له أن يأتيه الموت بصورة رجل أنيق يشرب البيرة.
تابع منقذ كلامه بلهجة بسيطة مرحة وهو يرشف البيرة: عبد المجيد، أنا مجرد موظف، أوصل الناس، الذين تقدم لي أسماؤهم كل يوم إلى العالم الآخر.
تحامل عبد المجيد على نفسه وتساءل قلقاً: تقدم لك أسماؤهم؟!!
قال منقذ: أجل، كل يوم، يطلب إلي أحضر فلاناً، طفلاً، شاباً، كهلاً، مريضاً، صحيحاً معافى، أوه لا أدقق، المهم أن أوصل تلك الأرواح إلى العالم الآخر.
أخذت أسنان عبد المجيد تصطك مصدرة صوتاً كالقرقعة، لقد سيطر عليه منقذ، إنه يشعر أنه في حضرة الموت، الذي يدعوه لشرب كأسٍ من البيرة قبل أن يغادر، أعمل تفكيره وخطر له لو يستطيع أن يتملص منه، أن يرشوه، آه، ليت الموت يقبل الرشوة، هكذا كان يحدث نفسه، حين أجبر على السيطرة على اصطكاك أسنانه وارتعاد جسده سأل منقذ:
-منقذ، أمهلني فرصة، سأودع أسرتي، بل أمهلني بضع سنوات أخرى أرجوك.
ابتسم منقذ قائلاً: أنا عبد مأمور يا عبد المجيد، صدقني أنا مجرد وسيط.
اقترب منه عبد المجيد، وركز نظرته في سواد عينيه الشديد وقال: اطلب مني ما تشاء، سوف أعطيك مهما طلبت...
قاطعه منقذ ضاحكاً: حقاً أنت ظريف، لكن لا مجال للتراجع يا عبد المجيد، ثم انفجر ضاحكاً، ثم ما هذه الرشوة؟! في عالمنا هذه الكلمة ليس لها وجود.
ردد عبد المجيد مرتعباً: في عالمكم، تقصد الموت، كيف هو؟
أخذ منقذ يلتهم البطاطا بتلذذ، وهو ينفخ البخار الساخن من فمه ويقول:
عالمنا بسيط، لطيف، ومريح، ليس فيه شر.
-وماذا فيه إذاً؟
ابتسم منقذ وقال: سوف ترى.
أخذ عبد المجيد يحس بضيق يتعاظم في صدره، تمنى لو يتمكن من الهروب، لكنه عاجز، ثمة قوة تسمره في مكانه، حل صمت ثقيل قطعه عبد المجيد متسائلاً:
-على أية أسس تسلب الناس حياتهم؟
قطب منقذ حاجبيه ونظر بقسوة إلى عبد المجيد قائلاً: أنا لا أسلب الناس حياتهم، أنا لست لصاً، قلت لك أنا مجرد موظف، مجرد وسيط، أنقل الأرواح إلى العالم الآخر، أنقلها ولا أسلبها ما هذه المفردات البشعة في عالمكم..
قال عبد المجيد: لكنك تسبب الموت لهؤلاء المساكين.
-الموت، أجل في لغتكم اسمه الموت، لكنه هناك، في العالم الآخر، اسمه رقاد، سلام، راحة.
-لكن على أي أساس يتم اختيار هؤلاء الأشخاص، أقصد لماذا يموت طفل صغير بينما عجوز كهل يظل على قيد الحياة.
-والله لا أعرف، ثمة حكمة لا نستطيع فهمها.
-ولماذا لا يمكن فهمها؟ تساءل عبد المجيد بكل جوارحه: أريد حقاً أن أعرف هذه الحكمة.
قال منقذ: عبد المجيد، أرجوك أن تهدأ، الحياة مهما طالت أو قصرت ستنتهي ذات يوم.
-أجل أعرف، لكنني لا أريد أن أموت الآن، ثمة أشياء تنتظرني، واجبات، والتزامات أسرتي، تحتاج إلى، أرجوك يا منقذ أمهلني..
اختنق صوت عبد المجيد، فيما أشرف منقذ على التهام البطاطا المقلية كلها، قال: ما أصعب الجوع يا عبد المجيد، أنتم في هذا العالم تجوعون. الجوع يدفع لارتكاب الجرائم لكن هناك لا يوجد جوع ولا جرائم.
يبدو أن عبد المجيد لم يصغ لكلام منقذ، كان مهتاجاً يريد أن يفر من الموت، اقترب من منقذ وحطت راحته على كتفه، صعقته برودة ثلجية منبعثة من كتف منقذ، أحس برعشة الموت تسري من جسده، ورفع كفه في الحال، لكأن كهرباء سرت فيها، أحس أنه في حضرة الموت وجهاً لوجه.
قال عبد المجيد بصوت أخذ الرعب يملؤه: منقذ أرجوك، تظاهر أنك نسيتني، قل لهم لم أجده و...
انفجر منقذ بضحك هستيري وهو يفكر بسذاجة عبد المجيد، وقال بعد أن هدأت عاصفة ضحكه: وهل تظنني شرطياً أريد إبلاغك محضراً في المحكمة، لو تعرف الأساليب والوسائط المتوفرة لدي للوصول إلى البشر لذهلت، هل تذكر يوم كنا في طائرة، صرخ عبد المجيد: أنت من قتلت الرجل، أنت قتلته...
هم عبد المجيد بالفرار، دفع كأس البيرة بيده ساخطاً وقد بلغ انفعاله ذروته، وحين هم عبد المجيد بالفرار سقط جثة هامدة، تجمع الناس حوله خائفين يطلبون سيارة الإسعاف أو طبيباً بينما كان منقذ يدفع الحساب ببرود ويهمس بصوت لم تسمعه أذن بشرية: هيا يا عزيزي عبد المجيد تهيأ للرحلة إلى العالم الآخر.