أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
خبز الطابون في فلسطين عبق الماضي الذي يستذكره الأبناء ويتحسر عليه الآباء!!

بقلم : مهند صلاحات ... 20.9.08

تتحسر المرأة الريفية السبعينية «الحاجة أم ياسين» على أيام زمان، وخبز وقهوة زمان قائلة: «يا حسرة على أيام زمان، وأيام الطابون لما كنا نلتم كل نسوان الحارة لحتى نخبز للحارة كلها، وفي آخر النهار نعمل صواني لحم ودجاج، ونعمل بسيسة وقراص زعتر وسبانخ، بس هاي الأيام نسوان اليوم بدهن كل إشي على الجاهز».
وتضيف أم ياسين «زمان لما كنت تحكي ما في حد بينام بلا عشا كنت بتقولها بثم مليان، بس اليوم يا حسرة، والله أيام الاجتياحات ومنع التجول في ناس كانت تقعد يومين بلا أكل، ولما نشوف على التلفزيون شو بيعملو في غزة وكيف محاصرينها وما بيدخلولها لا غاز ولا كاز، بقول بس لو نسوان غزة يرجعن يخبزن ويطبخن على الطابون، بيقهرنهم!. أصلا شو إللى نكسنا وقهرنا غير إنو إحنا تخلينا عن الإشي الأصيل إللى كنا نعمله زمان أول، وتركنا الأرض وبطلنا نزرعها!».
تساؤلات الحاجة أم ياسين المرأة الريفية البسيطة تفجر ألف تساؤل واقعي، سياسي، فكري، ولكن حديثها المملوء بالأسى والحسرة على أيام زمان ربما لا يناسب ربات البيوت الفلسطينيات هذه الأيام، فالسيدة الفلسطينية الريفية اليوم لم يبق من ريفيتها سوى أنها تعيش في الريف بأدوات المدينة، فطقوس الريف صارت اليوم ضمن فلكلور وذاكرة شفهية لم يعد لها مكان إلا في بعض الكتب التراثية والجزء الأكبر منها ضاع وتلاشى دون تدوين.
الله يرحم أيام الطابون
والطابون الذي تتحسر عليه أم ياسين هو عبارة عن فرن يصنع يدوياً من الفخار، ويوضع في داخل الأرض ليصنع فيه الخبز وشواء الخضار واللحوم، وفي بعض مناطق من ريف فلسطين يُسمى التنور، وهو إرث فلسطيني ورثوه منذ آلاف السنين عن أجدادهم الكنعانيين وحافظ عليه الريفيون منهم حتى نهايات القرن الماضي، لكنه تلاشى بشكل شبه كلي في بدايات الألفية الجديدة.
تقول أم مراد (63 عاماً من قرية طلوزة شمال نابلس): «يحتاج صنع الطابون، لتربة خاصة كنا نحضرها من مناطق مختلفة، وخاصة منطقة واد الباذان (شرق نابلس 4 كيلومترات)، وهي ذات التربة التي تُستخدم لصنع الفخار، لكون هذه التربة تحتمل درجات حرارة عالية، تصنعه نساء مختصات، حيث تجتمع مجموعة من النسوة ويحضرن تلك التربة لإحداهن التي تتقن صنعه»، وتضيف أم مراد أن جدتها «شمسة» كانت إحدى تلك النساء اللواتي يتقن صنع الطابون، ولا تزال تذكر حين كانت طفلة كيف كانت تشاهد جدتها تخلط التربة الخاصة بالماء وتقوم بصنعه بطريقة أشبه بطريقة صانع الأواني الفخارية لكن باليد ولا تستخدم أي شيء آخر مساعد.
يجري صنع الطابون -بحسب أم مراد- على عدة مراحل حيث تبدأ بصنع القاعدة وتنتظر يوما لتجف، ومن ثم تستكمل في كل يوم صنع جزء منه، وقد يستمر صنعه أحياناً من أسبوعين إلى شهر حسب حجمه، كما أن النساء كن يتباهين في ذلك الوقت بمن تصنع طابوناً أكبر وأفضل، وتنتقي له حجارة أفضل. والحجارة كما تقول الحاجة أم مراد هي التي توضع في أرضية الطابون ليوضع عليها الخبز، وهي أيضاً حجارة خاصة تكون من نوعية معينة لا تتأثر بالحرارة العالية ولا تتكسر وتسمى «الرذف».
تشير أم مراد أنه كان للطابون طقوس خاصة ومواعيد يجب التقيد بها، سواء في تجهيزه أو في الدور في استخدامه، فالنساء اللواتي اشتركن في صنعه، يقمن بطمره ليكون تحت مستوى الأرض، ومن ثم يقمن بعمل بناء بحجم غرفة صغيرة من اللِبْن حوله، وبقي أيضاً يُصنع من اللِبْن حتى بعد دخول الإسمنت وصناعة الطوب للقرى الفلسطينية لكونه أكثر تحملاً لدرجات الحرارة العالية ولا يتأثر بالدخان الكثيف المتصاعد.
تحدد النساء أدوارهن، حيث تقوم كل يوم اثنتان منهن بتجهيز الطابون وإشعاله قبل وقت يتجاوز الساعتين لأربع ساعات لاستخدامه مرتين في اليوم، مرةً في الفجر ومرة أخرى عند العصر. وتقول أم مراد أيضاً إن تجهيزه وإشعاله هي أصعب المهمات، حيث كان يجري إشعاله باستخدام التبن وجفت الزيتون وخشب الشجر وغيره من مواد، وهي مهمة تقوم بها إحدى النساء على الدور إما صباحاً أو مساءً لتقوم هي والأخريات بالإعداد للخبز.
وتتحسر أم مراد على أيام الطابون، الذي كان له مواعيد ويرتبط ببعض المواسم، فقد كانت النساء تخبز مرة واحدة أو مرتين فقط بالأسبوع، كما أنه يرتبط ببعض المواسم، فقد كان الفلاحون يفرحون بموسم قطاف الزيتون، وخاصة عند عصره، فليس هنالك ألذ من خبز الطابون مع زيت الزيتون الطازج، كما أن الطابون ليس للخبز فقط، فقد كنا كذلك نطهو فيه صواني الدجاج واللحم، ونشوي الخضار مثل الباذنجان لصنع «الباباغنوج».
وتختم حديثها قائلة: «استبدل الطابون بآخر يُصنع من الحديد، وهو لا يحتاج لغرفة خاصة ويسمى باللهجة العامية «الوكاد»، أو ما يصطلح على تسميته بالتنور، وهو يعمل بذات طريقة الطابون حيث الحجارة الخاصة التي يوضع عليها الخبز، لكنه لا يحتاج لتجهيز، بل يوضع فيه الحطب مباشرة وسهل الإشعال ولا يسبب رائحة كالطابون، وبعد ذلك دخل فرن الغاز، ومن ثم المخابز الآلية وصرنا مثل أهل المدن».
والطابون مرتبط بشكل أكبر بالخبز، فيقال في المثل الشعبي الفلسطيني «مثل خبز الطابون» أو «مثل ريحة خبز الطابون» للدلالة على اللذة والرائحة الذكية، لأن رائحة الخبز الساخن كما هو معروف من أكثر الروائح التي يحبها أنف الإنسان، كما تغزّل بتلك الرائحة العديد من الشعراء الفلسطينيين من أمثال محمود درويش في قصيدة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» حين قال: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردد أبريل، رائحة الخبز في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات إسخيليوس، أول الحب، عشب على حجر، أمهات تقفن على خيط ناي، وخوف الطغاة من الذكريات».
وهو ما تؤكده أيضاً السيدة دلال (35) عاماً، حيث تقول: «أكثر ما أذكره من الطابون هو رائحته، وخاصة رائحة الخبز، لقد كان له طقس مميز، وأذكر أنني كنت أحب الذهاب دوماً برفقة والدتي عند ذهابها لتخبز في الطابون وخاصة في فصل الشتاء، حيث لا زلت أذكر كيف كنت أعشق ذلك الدفء العجيب الممزوج برائحة أشعر أنها لا تزال عالقة بأنفي رغم مرور أكثر من ستة وعشرين عاماً».
بقيت دلال ترافق والدتها للطابون حتى سن التاسعة من عمرها، فالطابون لم يكن فقط مكاناً للخبز أو للطهي، بل إنه كان يشكل طقساً اجتماعياً فريداً، حيث تجتمع النساء سواء اللواتي خبزن أو اللواتي جئن فقط لاستكمال ذلك الطقس وهو ديوانيه باب الطابون. تصطحب النساء أولادهن ليلعبوا، بينما تجلس باقي النساء خارج الطابون للحديث في كل أمور الحياة، وهي عادة اجتماعية كانت سائدة ولم ينساها المثل الفلسطيني حيث يُقال للذين يجلسون للحديث مطولاً بأنهم «مثل النسوان باب الطابون».
تضيف دلال «كانت الحياة في تلك الأيام أبسط بكثير، وحتى أحاديث النساء لم تكن في ذلك الوقت تتعدى مواضيع تتعلق بالطبخ والغسل، وأحيانا بعض النميمة التي لا تفارق مجالس النساء، وكذلك حديث المواسم كموسم قطاف الزيتون، وأحياناً أحاديث حول تلك المسلسلات المعدودة التي كان يعرضها التلفزيون الأردني والتلفزيون السوري وهما الوحيدان اللذان كان يصل بثهما للضفة الغربية في ذلك الوقت، بعكس أحاديث نساء اليوم التي تأخذ منحى آخر حول الماكياج وقصات الشعر والموضات وبرامج الفضائيات الجديدة، وأغاني الفيديو كليب».
وتعتبر دلال أن طقس الطابون مثل بقية طقوس الريف كانت أكثر انفتاحا اجتماعيا من اليوم، حيث الصبيان والبنات يلعبون معا، والنساء يذهبن للطابون الذي في العادة يقع في أماكن قريبة من المناطق السكنية، بينما اليوم كل شيء تغير وأصبح هنالك حالة شبه فصل بين الفتيان والفتيات، ولم يتبق من الريف سوى مظهره السياحي.
دلال رغم ذلك العشق لذاكرتها القديمة والطابون تقول إنه لو كان هنالك اليوم طابون لخجلت من الذهاب إليه، وتضيف «لماذا أذهب ولدي اليوم فرن غاز في البيت، وأستطيع شراء الخبز من المخبز أو الدكان؟. نساء اليوم لم يعد لديهن القدرة كنساء زمان، فمن من نساء اليوم تستطيع الذهاب لجمع الحطب وتجهيز الطابون؟، لم يعد ذلك عادة اجتماعية مقبولة أبداً، ولا أعتقد أزواج اليوم يقبلون بأن تقوم نسائهم بذلك أو أن يقابل الرجل زوجته وهي تعبق برائحة الطابون والدخان».