أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
لست باشكاتبا ولا أحمل آلة حاسبة!

بقلم : رشاد أبوشاور ... 5.12.07

ليس هذا ردّي وحدي، ولكنه رّد آخرين غيري، فمن يستفزّون بآرائهم غير المنحازة، ومن لا ترضي كتاباتهم، ومواقفهم، المتعصبين والتابعين لهم، لا تهزّهم التهم، ومحاولات الابتزاز، والكليشيهات الجوفاء، التي لا تنشئ حوارا، ولكنها تنّم عن فقر وسطحيّة الطروحات السياسيّة، وانغلاق أصحابها، وفقر مخيلتهم، وجهلهم بمسيرة الشعب الذي يدّعون الانتماء له، والقضية التي يتشدّقون بقدسيتها وحرصهم عليها.
أحدهم يكتب تعليقا علي مقالة سابقة: لماذا لم نقرأ لك عن أحداث غزّة؟!
وآخر يسأل: ألم تر التظاهرات الحاشدة في ذكري رحيل (أبو عمّار)؟! وبعد يومين يسأل آخر بفخر ولهجة انتصار: أرأيت مظاهرتهم المتواضعة، ويضيف: إنه استفتاء!
طرفان لا يتعلمان، هذا ما أرّد به علي هذه الأسئلة وغيرها، التي لا تنطلق من الهّم الوطني، ومن ألم ومعاناة شعبنا، ولكنها تتباهي بعدد المتظاهرين، دون أن تتفحّص أسباب تظاهرهم، وانشغالاتهم، وجوهر غضبهم، ولذا يتعامل كّل طرف مع المتظاهرين كأرقام يجيّرها لنفسه ليبرر أحقيته بالقيادة، مسقطا معاناة الشعب، ومأزق القضيّة، لأن هيمنة (التنظيم)، أو الفصيل، وإمساكه بالسلطة، فوق كل اعتبار.
نقطة دم فلسطينيّة واحدة تنزف خارج الصراع مع العدو، هي عندي مأساة، بل كارثة، لما تعنيه من انعدام احترام لأخوّة ورفقة السلاح، والانتماء لشعب وقضيّة، فما بالك ودم كثير يلوّن شوارع المدن الفلسطينيّة، وخوف كثير من المداهمات، وخسارات لا تقدّر تلحق بقضيتنا، وتعيق مسيرتنا؟!
انخدع من فازوا في الانتخابات بالرسالة، فمضوا دون استشارة من انتخبوهم، ومن ترافقوا معهم في الميدان، ومن رفعوا أصواتهم رافضين الفساد، والانحراف، والعربدة.
ولم يحاسب من خسروا، أنفسهم، ولم يراجعوا حساباتهم، وها هم من جديد يقعون في نفس الخطأ: الوهم بأن الجماهير خرجت تأييداً لهم، وسحب الورقة التي عليها توقيعها علي بياض ومنحها لهم، من جديد !
هؤلاء جميعا يتعاملون مع جماهيرنا بتعال، ينظرون إلي شعبنا كما لو أنه (دهماء) كلمة تأخذه وكلمة تعيده، يمكن التلاعب به، وسوقه في دروب ومسارات يقررها من منحهم توكيله المؤقّت، وثبت أنهم غير الأهل للثقة، سابقين ولاحقين!
أعجبني تصريح الدكتور ناصر الشاعر، الذي نقلته صحيفة الحياة الجديدة، والذي قال فيه جملة مفصلية تحذيريّة للطرفين المتصارعين: ليس أمام الفصيلين الكبيرين ـ فتح وحماس ـ سوي الحوار، ولا شيء سوي الحوار، وإلاّ فإن الشعب ربّما يقرّر في حال استمرار الأزمة البحث عن البدائل!
فما هي البدائل، أو تحديدا: ما البديل عن صراع الفصيلين الكبيرين، وتدميرهما لقضيتنا؟!
سأحكي لكم حكايةً سمعتها في مسلسل عن زعيم (كندي)، بدأ حياته في خدمة الكنيسة، ثمّ تخلّي عن منصبه الكنسي، وخرج إلي الناس، موقظا فيهم الثقة بأنفسهم بالقدرة علي التغيير، والمواجهة.
أولئك الناس قتلهم في حقولهم رصاص وحدات من الجيش حرّكها إقطاعيون جشعون، مستهترون بحياة وأرواح وجوع الفقراء الذي يزرعون، ويحصدون و..ينهب تعبهم وشقاءهم مصاصو الدماء الأقوياء بسلطات يوظفونها لمصالحهم.
وقف رجل الدين الذي بات قائدا للجموع المظلومة، وروي لهم حكاية القطط والفئران، تاركا لهم أن يستخلصوا منها العظة، والحكمة.
خاطب ذلك الزعيم الخارج من صفوف الشعب، والمؤمن بالعدل، حشود الفقراء المستضعفين: سأحكي لكم حكاية الفئران والقطط البيضاء و..القطط السوداء: لمّا رأت القطط البيضاء والسوداء أن الفئران تفكّر في التمرد قررت إقامة انتخابات ديمقراطيّة، المرشحون فيها من القطط البيضاء والسوداء. توجهت الفئران إلي صناديق الاقتراع، وانتخبت القطط البيضاء، والتي شكّلت وزارة، وضعت قوانين تكفل مصالحها وحدها، وتضمن لها التفرّد بالتهام الفئران وحقوقها!
في المرّة الثانية انتخبت جموع الفئران القطط السوداء، فبدّلت القوانين، وصاغتها بحيث تستأثر وحدها بالتهام الفئران.
أجريت انتخابات جديدة، فقررت الفئران أن تنتخب نصفا من القطط البيض، ونصفا من القطط السود.. فماذا كانت النتيجة؟
وزارة القطط الإئتلافيّة، وزارة الوحدة الوطنيّة القططيّة، صاغت قوانين جديدة تكفل مناصفة الحزبين الكبيرين في..التهام الفئران!
اقترح رجل الدين الذي غادر الكنيسة، وانحاز للمساكين المقهورين، أن لا تنتخب الفئران أيّا من حزبي القطط لأنهما في كل حال سيصوغان قوانين تكفل التهام الفئران، وحرّض الفئران علي أن تنتخب من صفوفها وزارتها التي تقودها للتحرر من أكلها، ومطاردتها، واقتسامها، واستغلال طيبة قلوبها !
ذلك الرجل صار رئيس وزراء كندا فعلاً، بعد أن تشكّل حزب من الفلاحين البسطاء المنتجين المستغلّين، وغيّر هو والحزب الذي عمل علي تشكيله (اللعبة) السياسيّة في بلده، وفرض مع من ساروا معه معادلةً جديدة، وكان هذا هو الخيار المنقذ من وزارات القطط البيضاء والسوداء.
ذلك الرجل اتهّم بأنه (شيوعي) تصوروا؟ رغم أنه لم يتخلّ عن إيمانه بالكنيسة، ولم يكن ملحدا، ولم يرفع شعار: يا عمال العالم اتحدوا، وكّل ذنبه أنه أخلص للفقراء في بلده.
التهم دائما جاهزة، وخاصة لدعاة الخروج من هيمنة مستغلّي العصبويّة، وتحويلها إلي نهج، هؤلاء الذين يضللون أتباعهم، ومحازبيهم، ويبرمجون تفكيرهم ليكونوا هراوات للقمع، ـ رأيتم ما جري في غزّة، ورام الله، والخليل ـ وأيد تضغط علي أزندة البنادق لتقتل الأخ، والرفيق، والجار، وابن البلد، وابن الشهيد...
شعبنا ليس شعبا من (الفئران)، وهو تعلّم كثيرا من تجارب مدفوعة الثمن، ولذا فأنا واثق بأنه سيلفظ القطط البيضاء والسوداء، ويخرج من بين صفوفه من يمضي به علي الطريق، سائرا أمامه، مضحيّا، لامثريا من دمه وبيع قضيته.
لست أحمل آلة حاسبة تجمع أعداد المشاركين في هذه المسيرة أو تلك، ولا أنا باشكاتب مهمتي أن أدبّج كلاما يعجب هذا الفريق أو ذاك، فأنا مواطن ينتمي لوطن وشعب وأمّة، رأسه بين كتفيه، لا يطرب للهتافات الفارغة التحريضيّة التي تؤرث الأحقاد علي الأهل، بدلاً من رفع الأصوات في وجه الأعداء.
يبدو أن من شروط الانتماء للفصائل الفلسطينيّة أن يكون الولاء للفصيل فوق، وقبل، الولاء لفلسطين، ومحبة القادة ـ الفالصو ـ فوق محبة الشعب.
القطط البيضاء و..السوداء، ليست قدرنا، إنها تموء، ولا تلتفت للأفعي ذات الأجراس التي تلتّف علي عنق القدس، وتضرب في نابلس، وتنفث سمّها في خانيونس، وتسمّم حياة أطفالنا في جنين وطولكرم، وتحاصر غزّة...
من يكتب لفلسطين لا يكتب برّد فعل، لا يكتب بالقطعة، لا يكتب ليرضي أحدا، أو جهة، لا ينطلق من (الشخصنة)، ولذا فهو كما في المثل الفلسطيني يقول للأعور أعور في عينه، وجها لوجه دون خشية من العواقب مهما كانت، وإلا: فلماذا نكتب، وما جدوي كتابتنا؟!
إني أري مذبحة تحيق بقطاع غزّة، بمدنه، وقراه، ومخيماته، وإني سمعت تحريضا في (أنابوليس)، وإني أري أن حماقة ما جري هناك في القطاع ورفض التراجع عنه، ودور السلطة في تضييق الخناق علي أهلنا في القطاع، هي لعبة دموية جهنميّة، ضحيتها مليون ونصف من أهلنا، وهؤلاء ليسوا أرقاما، هؤلاء تصاعد قتلهم اليومي مع انفضاض (أنابوليس)، ويشتّد الحصار عليهم، يقطع عنهم الوقود، والدواء، والغذاء، والكهرباء، وتتهددهم الأوبئة.. والطرفان سادارن في لعبتهما السياسيّة العبثيّة المدمّرة!
أحد رموز الفساد في القطاع يصرّح: نتفاهم مع (إسرائيل) ولا نتفاهم مع (حماس)، ورمز حمساوي يصرّح: إذا انسحبت (إسرائيل) من رام الله سنصلي في المقاطعة!
سيسألني بعضهم: أتساوي بين الطرفين؟ أجيب: أري الكارثة الداهمة، ما يعّد لغزّة وأهلها حملة شعلة فلسطين، الذين تأخذونهم إلي المذبحة و.. معهم قضيتنا، وشعبنا.. والطرفان مسؤولان، ولايهم حجم مسؤولية كل طرف، فهما شريكان في (النكبة) القادمة إذا لم يبادرا لإخراج شعبنا، وقضيتنا، من هذا المأزق الخانق، وإنقاذه من المذبحة التي يتلمّظ باراك والقتلة الصهاينة لتنفيذها...