بقلم : ايناس البدران ... 28.11.07
الحياة محفة انتظارنا ، مرورنا فيها تزجية للوقت ، جدرانها اقفاص تتناسل تنعي بحبر الريح حياة لم تعاش . تدور رحى الايام فينا مخلفة شواهد لدوائر مقطوعة الانفاس ، البدايات فيها منتهى في مدن تلتهمها ذاكرة النيران .
ولأني ادركت ان بعض الرجال لايفزعهم شيء قدر الحقيقة وانهم فضلوا ذهب الصمت على فضة الكلام ، لذت بصمتي طويلا .. حتى بات كابوسا يحاصرني يفزع الخوف المزروع اشواكا بين اضلعي .
في الف ليلة مسهدة قرأت الاسفار احزانا تتصابى بأرض ، المرايا فيها انكسار والاماني احتضار والسبايا قرابين لأصنام بلا فم .
حين طال صمتها تناهى اليها صوته الرخيم متسائلا :
اين مسرور الليلة ؟
من خلف الاستار انبثق صوت اجش التمع فحيحه في الارجاء كنصل اعمى
انا هنا يامولاي
اسكته بأشارة من يده .. ثم اتجه بكليته صوبها ليقول :
شهرزاد : ارو لي حكاية لم اسمع بمثلها من قبل ، ثم كأنما استذكر شيئا
ولكن ليس قبل ان تخبريني بما آل اليه حال ذات الخال .
مالت الصبية بدلال ، بين وسائد الحرير والديباج ، فشع من بين اردانها عطر يدير الرؤوس .. جابت بعينيها النجلاوين ارجاء المخدع الوثير متأملة الطنافس والرياش الموزعة بين اعمدة الرخام حتى وقعت عيناها على مسرور فأشاحت بوجهها كأنما لايهمها من امره شيء .. وبصوت عذب كالشهد قالت :
بلغني ايها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ان ذات الخال كانت قينة مليحة الوجه والصوت اشتهرت بخال كحبة عنبر على صفحة خد كالبلور حتى صارت تنادى به بعد ان نسي الناس اسمها ، وكان الخليفة الجديد الذي آل مصيرها اليه ضمن ميراث له من اخيه المغدور ، قد وعدها ان يجيئها ليلة لسماع غنائها ، واذا بجارية تقطع عليه الطريق وتنتزعه منها قبل ان يبلغ مخدعها فقضى ليلته معها ، وحين علمت ذات الخال اتقدت نيران الغيرة في صدرها ، فقامت بقطع الخال الذي اشتهرت به والذي طالما فتن الخليفة حتى صار يتغزل فيه شعرا .
اعتدل شهريار في جلسته كأنما استفزه ما حدث وقال متعجبا :
أ لم يكن في مقدورها الصبر حتى تلقاه ليلة اخرى .
عدلت شهرزاد عصابتها حيث ارخت سالفتين علقت في طرف كل منهما ياقوتة لتترك باقي شعرها منسابا فوق ظهرها كشلال ليل على محيا كالبدر المنير ، وهي تحرك بكفها الرخصة مروحة كتب عليها بماء الذهب :
واني لأهواه مسيئا ومحسنا واقضي على قلبي له بالذي يقضي
ثم همست بحياء :
مولاي .. كن اكثر من ثلاثمائة جارية فلا يقع لأحداهن الا يوم في الاقل كل دورة شمس .
قال باسما :
وتجيدين الحساب ايضا !
هزت رأسها وقالت :
الحزن افضل معلم يامولاي .. ثم اكملت في سرها
والظلم ينطق الحجر .
سحبها صوته اذ قال :
هه .. وماذا فعل الخليفة حينها ؟
عندما علم الخليفة بما حدث ، ترك ما هو عليه من انس وراح يؤنبها ، وانصرف غضبان آسفا ، ثم طلب من احد شعرائه ان ينظم شعرا فيه ،
فقال :
تخلصت ممن لم يكن ذا حفيظة وملت الى من لايغيره حال
فان كان قطع الخال لما تعطفت على غيرها نفس فقد ظلم الخال
بعد هنيهة صمت تنهد شهريار وهو يمسد اطراف لحيته المشذبة بعناية وقال :
اسمعيني حكاية عن بلاد السند والهند .
هزت رأسها كأنما كانت تنتظر هذا الطلب منه ، وسرحت ببصرها تتابع طواويس خضراء تزهو بريشاتها المبرقشة الفاقعة وتتمايل تيها حول البركة الرائقة .
من بعيد تضيء ذؤابات المشاعل الراعشة .. لتذوب في ظلمات الخوف وتختلط بعويل ريح تخترق الروح لتغرق بالدمع عيونا لم تزل تحلم بفجر طال انتظاره .
بلغني ايها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد انه في بلاد بعيدة تركب فيها الافيال ، و حظر على البنات السير اذ تحبس اقدامهن في قوالب قدت من حديد حتى اعتادت الجدران صوت انينهن .
سأل متعجبا :
ولم ذاك ؟
كيما تظل اقدامهن صغيرة .. لتعجب السادة .
تمتم قائلا :
- أكملي .
كانت احداهن وتدعى زهرة الخوخ قد بيعت الى سيدها بصك مختوم وحملت كقطعة اثاث الى بيت الشاي الذي يملكه ، حيث تدرب الفتيات على الحديث والغناء ترفيها للسادة ، وغالبا ما كن يسقين الافيون .. قاطعها مستفسرا :
ولم ذاك ؟
ردت بحياء :
كي لايحرج السادة المسنين .
آه .. أكملي .
كانت زهرة الخوخ تدعى للغناء كل ليلة ، فأذا ما تأخرت لمرض او ما شابه ، عمد سيدها الى السوط بقصد تأديبها ، فكانت دموعها تنهمر كما اللؤلؤ على خدها الاسيل .
ذات يوم رآها أبن احد السادة وشغف بها لدرجة انه دعاها للهرب معه بقصد الزواج ، وحين علم سيدها عمد الى السوط فضربها به حتى فارقت الحياة .. ثم حمل جثمانها في صندوق مزركش ودفنت في صمت يشيعها ضوء القمر وحفيف الشجر .. وقيل ان السوط دفن معها ، وانه اورق شجرة وارفة سرعان ما امتدت اغصانها لتظلل القبر الذي استحال مزارا للعشاق وفراشات الليل .
قال شهريار كمن يحدث نفسه :
يالها من ميتة .
بل يالها من حياة يامولاي يهون معها الموت .
بعد هنيهة صمت قطعه صوت تثاؤب مسرور ، الذي انتصب متحفزا بعد ان رمقه سيده بنظرة غضب . التفت اليها وقال :
شهرزاد .. قص علي شيئا مما سوف يأتي في آخر العصر والأوان .
شهرزاد بكبرياء :
لا استطيع يا مولاي .
مسرور يتنبه رافعا سيفه متحفزا.
شهريار بصوت آمر :
ماذا ؟ .. ماذا قلت ؟
لا أستطيع ، لا أرى شيئا .
أنظري في مرآتك
مرآتي رملية .. لاشيء تعكسه غير غبار واصداء بعيدة لايقاع سنين صامت صاخب في زمن يكرر نفسه كلعنة .. ترقص الحمائم فيه على رنين اصفادها بعد ان تعلو الزغاريد .. آه يا مولاي ، كم يغري التسامح بالتمادي مثلما تغري دقة الاعناق شفار المقصلة .. ليستيقظ الكابوس مؤرقا الجفون .. فأخبرني بربك كيف نزهر في العذاب ؟
صوت شهريار يعلو وقد تبدى فيه القلق :
شهرزاد .. كفى ..
شهرزاد بصوت متهدج وسط دموعها وبأنفاس متقطعة :
- دعن أهذي بهذا الصدق يا مولاي ، للمرة الاخيرة قبل ان تسدل الستارة للأبد .
مسرور يبدو مسرورا لأول مرة منذ ألف ليلة ، وقد أطار تطور الاحداث النوم من عينيه وهو يرى رأسها متدحرجا كورقة صفراء ممددا بهدوء فوق العشب البليل ، ونظراتها حائمة تصطاد سماء قصية تنوء تحت وطأة صمت يغلفه انبهار ترصده نجوم مطفأة .
ها هو البدر يرتمي في احضان بحيرة اللازورد مضرجا بالدهشة في لحظة تمر حفاء كحلم ليلة صيف فوق ضباب صخور عاجية .
الصوت البعيد يقترب من لحظة ودت لو انها لا تنطفيء ، ينبض باللهفة .
مولاتي .. اين رحلت عني ؟
حركت رأسها كأنما أفاقت من كابوس بغيض ، ونظرت اليه بوله ثم همست بصوت واهن :
بحثا عن بعضي يا مولاي كيما أعود اليك كلي .
شهريار وهو يحتضنها :
كلك معي ها هنا ، قالها بحنو وهو يضع كفها موضع قلبه .
مولاي .. لا ادري ما اقول
قولي احبك
نظرت في عينيه وهمست
سأقول .. ولكن
رمق شهريار مسرور شزرا وبصوت آمر صرخ فيه :
أخرج
المارد ينظر اليه ببلاهة غير مصدق .
شهريار وقد استبد به الغضب
أخرج وخذ سيفك معك ، واذا ما وقع بصري عليك يوما .. اقسم اني سأطيح رأسك به .
عاشت شهرزاد بعدها العديد من الدورات الشمسية ، وهي ترفل بحب توأم روحها ، وتنعم بدعوات الرعية ، حتى وافتها المنية بين ابنائها واحفادها وهي راضية مرضية .
ملحوظة :
واحدة من حفيداتها اخذت عنها سر الشفاء بالحب وهي الاخرى تحب ان تروي الحكايا ، وترفض النهايات الحزينة .. مثلها .