بقلم : د.فيصل القاسم ... 16.12.07
أشعر أحياناً برغبة شديدة بالقهقهة، وأحياناً ينتابني شعور بالغثيان وأنا أتصفح بعض المواقع الالكترونية التي ما زالت ترفع شعار الماركسية أو الاشتراكية أو اليسارية أو العلمانية. ليس العيب طبعاً في الفكر الاشتراكي أو العلماني، ففي الأمر قولان. لكن المثير للقرف والسخرية في آن معاً أن تلك المواقع تتستر بالماركسية والأفكار اليسارية المحترمة لتبث أعتى المفاهيم الليبرالية والفاشية والعنصرية والإمبريالية والعولمية والاستئصالية المتوحشة التي يمثلها المحافظون الجدد في أمريكا.
فمن المعلوم أن بعض محافظي أمريكا كانوا في الماضي يساريي الهوى، لكنهم كفروا بأفكارهم السابقة، وتحولوا إلى استعماريين متطرفين وليبراليين متوحشين علناً على رؤوس، وراحوا ينادون بهيمنة أمريكا على العالم و فرض قيمها على البشرية بقوة السلاح. أما اليساريون العرب أصحاب بعض المواقع الالكترونية المسماة "يسارية" زوراً وبهتاناً فهم يسيرون على هدي المحافظين الجدد في أمريكا، لكن تحت يافطات مزيفة، لا بل يزايدون عليهم في تطرفهم واعتناقهم للمذهب الليبرالي المتوحش، بيد أنهم ما زالوا يتشدقون في الآن ذاته بالماركسية واللينينية والاشتراكية والعلمانية، فيما الفكر اليساري منهم براء. فلو نظرت إلى النماذج التي تكتب في تلك المواقع لوجدت أنها نماذج مريضة فكرياً وأخلاقياً وربما نفسياً، مما يجعل القارئ يبصق على هكذا يسارية أو اشتراكية أو علمانية مزعومة، مع الاعتراف طبعاً أن اليسار بريء من هذه المواقع براءة الذئب من دم يوسف. فشتان بين أن تكون يسارياً حقيقياً وأن تتاجر باليسار والاشتراكية.
لا أدري ما علاقة اليسارية والاشتراكية واللينينية والماركسية والتروتسكية بنوعية الكتاب والكاتبات اللواتي تحتضنونهم في مواقعكم "اليساراوية" الصفراء؟ فهناك أنواع غريبة عجيبة من الكتبة والكويتيين الذين يكبون نفاياتهم "الأصولية" "الليبرالاوية" في مواقعكم. فكتبتكم يتراوحون بين كاره لقومه ودينه وذاته، أو مسبّح بحمد البيت الأبيض وحضارة جورج بوش، أو كافر بثقافته وحضارته العربية والإسلامية، أو منسلخ من هويته، أو عنصري فاشي متطرف، أو مشوش فكرياً وعقائدياً لا يعرف "كوعو من بوعو"، أو من أتباع المدرسة الفوضوية التي لا تؤمن بشيء. أما بعض الأقلام القليلة المحترمة التي تستضيفونها فهي لمجرد ذر الرماد في العيون، وإعطاء الانطباع بأنكم يساريون فعلاً. ولو كنت مكان بعض الكتاب المحترمين لنأيت بنفسي بعيداً عن تلك المواقع "العلمانجية والليبرالجية" التي شوهت وجه العلمانية والليبرالية والاشتراكية الجديرة بكل الاحترام والتقدير.
لا أدري كيف يمكن لموقع الكتروني يزعم الدفاع عن العمال والفلاحين والمسحوقين في العالم يحتضن كاتباً أو كاتبة لا هم لها إلا التسبيح ليل نهار بحمد ما كان يسميه اليساريون القدامى بـ"الامبريالية الأمريكية" ؟ فلو اطلعت على كتابات بعض زبائن تلك المواقع "اليساراوية" لوجدت أنهم على يمين المحافظين الجدد الأمريكيين. وأتحدى أن يكتب بول وولفوتز أو ريتشارد بيرل أو وليام كريستول أو دوغلاس فايث عن عظمة أمريكا وتفوقها وغطرستها كما تكتب إحدى زبونات أو زبائن المواقع إياها.
هل أصبحت أمريكا رمز الاستغلال والنهب والعنصرية والجبروت الممقوت، كما كان يسميها الاشتراكيون القدامى، هل أصبحت أكثر حنواً وإنسانية مع العالم، أم إنها استشرست في امبرياليتها وعدوانيتها وسحقها لبروليتارية المعمورة من خلال عولمتها المتوحشة؟ ما الذي يجعل القائمين على المواقع الالكترونية المزعومة يحتفون بهذا الصنف من الكتاب والكاتبات اللواتي يستمتعن في إغداق المديح والثناء والتسبيح على عدوة الاشتراكيين الأولى تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً ألا وهي أمريكا؟ على من يضحك هؤلاء؟ لماذا لا يكونون بشجاعة أسيادهم ومعلميهم الروحيين المحافظين الجدد، ويعلنون أنهم ليسوا يساريين ولا اشتراكيين ولا بطيخ، وإنما متاجرون باليسار والاشتراكية كبعض خصومهم الإسلاميين الذي يتاجرون بالدين لأغراض دنيئة؟
إن موقف كتاب تلك المواقع "الاشتراكاوية" المزعومة أقرب إلى الفاشية والنازية منه إلى الاشتراكية عندما يتعلق الأمر بالإسلام والإسلاميين والقوميين مثلاً. ففي الوقت الذي يتغنى بعض الكتاب والكاتبات اليساريات المزعومات بـ"إلوهية" العم سام، نجدهم في الوقت نفسه يتفننون في شيطنة العرب والمسلمين أبناء جلدتهم بطريقة لا تبعث إلا على القرف والاشمئزاز. ولو فكر أحد المجني عليهم من العروبيين والإسلاميين أن يرد على هؤلاء "الفاشيين" في المواقع "اليساراوية" التي تدّعي المدنية والتسامح وقبول الآخر لظل ينتظر أعواماً بأكملها كي يتم نشر رده. فتلك المواقع "العلمانية" المزعومة لا تختلف عن المواقع الإسلامية المتطرفة إلا في الشكل فقط، أما في المضمون فالإثنان أقرب إلى الشوفينية منه إلى الإسلام أو الاشتراكية. وكنت قد تساءلت في الماضي:"هل نحن بحاجة لإرهابيين بوجود هكذا يساريين ليبراليين متوحشين"؟ فاليساريون العرب الجدد المجبولون على "الشتراوسية" الجديدة بزوا أقرانهم الأصوليين الإسلاميين في الانغلاق والتشدد والتطرف والمغالاة والتعصب والتخندق الإيديولوجي. آه ما أبشع اليساري العربي عندما يتوحش "ليبرالياً"! ألم يقل الشاعر: "لا تنه عن خلق وتأتي مثله...عار عليك إن فعلت عظيم"!
كيف تدعي التحضر والحوار ثم تتخندق فكرياً وتدخل في صراع "داحس والغبراء" مع من يختلفون معك عقائدياً؟ بالله عليكم أيها اليساريون العرب والمستعربون المزعومون في تلك المواقع الالكترونية الفاقعة في فاشيتها كيف تختلفون في تعصبكم عن تنظيم "القاعدة" الذي تشيطنوه من حيث العلاقة مع الآخر؟ لماذا تتهافتون على التحاور مع من كنتم تسمونها "الإمبريالية الأمريكية"، لا بل تحاكونها، بينما ترفضون رفضاً قاطعاً التحاور مع التيارات الأخرى على الساحتين العربية والإسلامية؟ هنا لا نستطيع انتقادكم أبداً، فأنتم في غاية "التمدن" في العلاقة مع "الآخر" الإمبريالي، الذي، على ما يبدو، اندمجتم فيه حتى الذوبان.
آه كم أنتم سريعو الذوبان أيها "الاشتراكاويون"! إنكم أسرع من حليب "النيدو".
آه كم كان الأديب السوري الشهير حنا مينا على صواب عندما وصف بعض اليساريين العرب بأنهم أشبه بـ"الفجل"، الذي لونه أحمر من الخارج ، لكنه في الداخل أبيض، ربما نسبةً إلى البيت الأبيض، والله أعلم؟