بقلم : نبال شمس ... 25.12.07
الأشياء متناثرة من حولي, الناس, الطلاب ونباتات الحديقة. الشيء الذي كان متماسكا هو التيه والرهبة, رغم انه لم يتواجد أحدا في المكان. خفت أن يميز أحدا تناثري ونصي الذي هرب مني بعد أن قضيت ساعات طويلة في لملمة أشلائه واستجماع كلماته من سراديب روحي, هو ماثل أمامي, حروفه جميلة , مقروءة وواضحة, كلماته جاهزة تنتظر عيوني لتقرأها وأناملي لتلمسها لكني لا أرى نصا ولا حروفا ولا كلماتا.
هي الرهبة نعم الرهبة التي تفقدنا طعم الأشياء وهو الخوف, فان تملكتنا أفقدنا طعم الأشياء. حتى لون حبري لم أختره أنا , بل هو الذي اختار حروفي والسبب والمسبب هما واحد, فحزني كان كبيرا على نص تاه مني , تركني شاردة الفكر وفكرة من كلمتين تطحن في داخلي وتمضغ حنينا للعودة بضعة أيام إلى الخلف لأعود أحاول اقتناصها من بين ضجر الأيام.
أكتب بحبر غارق, اسود اللون, فعدا عن سواده إلا انه بلل لي الصفحات التي تلي الصفحة المفتوحة كي لا استطيع متابعة الخربشة عليها, فالحبر الغارق ليس اقتصاديا وكم أنا بحاجة لاقتصد الأوراق والكلمات, فبعد أن تبعثرت الفكرة التي أجلت نقشها على الورق تاهت مني بدون أجنحة. بحثت عنها كثيرا في شظايا روحي, كتبي, دفاتري وأوراقي حتى على قشور علب الشوكولاطة وقشور الحلويات التي بحقيبتي, على طاولة الحاسوب. سألت نفسي فيما إذا كنت قد كتبتها على رواية غاردر التي كنت أقرأها.
هل أخبركم عن تلك الرواية؟
لن أخبركم لئلا تصبحون فلاسفة وترمون بنصي في سلة المهملات. ظننت أني خربشتها هناك سهوا, لكني لم أجد شيئا فبحثي عنها ذهب أدراج الرياح كطائر يبحث عن تكملة السماء, فكيف سأكتب نصي وصاحبة النص تاهت وتركتني أنازع الفقد والغربة.
هذا كان نتيجة تبعثري ودوراني حول نفسي دون الاعتراف أني سوف افقد شيئا غاليا وقطعة كبيرة من قلبي الذي حملها, هذا كان التيه وعملية البحث المضنية , فأنا هنا معلقة ما بين السماء والأرض , أعاقر الحبر, أجدف في محيط عميق, ابحث عن لا شيء واكتب اعترافي بأني لاشيء.
عبث لن تعود, فانا اعرفها, صخرة من صخور الجليل, من الصعب أن تتجمع بعد أن تتفتت, فلم يبقى لي الآن سوى بضعة هرطقات أواسي بها حالي وأعزي هذه السطور المتماسكة كإخراج فيديو كليب فاشل, فكل ما أذكره من فكرتي هي جملة واحدة: (المرحلة الثالثة).
مرحلة! و ثالثة! فأية مرحلة وأية ثالثة تجعلني أنسى العالم تجعلني أتوه في عملية بحث والجلوس والكتابة بقلم حبر غارق لا يعرف التقشف.
أعترف أن نصي هذا مفتعلا, لكن الفكرة الهاربة ليست مفتعلة هي الفكرة التي أحيتني ثم قتلتني وجعلتني أعانق الأيام الضائعة, فمن الصعب ترك الامور في غائلة ذاتي دون تقمص الحبر.
حاولت أن أتذكر المرحلة الأولى والثانية لكن عبث فالمراحل التي سبقت كانت متمازجة ومنصهرة ومن الصعب الفصل بينها, فكلتا المرحلتين هما تعاكسا للأشياء لأشياء متعاكسة لا استطيع تحديدها أو تعريفها, الموت الذي يسبق الولادة أو الولادة التي تلي الموت, فالمرحلة الأولى والثانية بمثابة الآتي الذي سبق الغابر, والغد الذي سبق ألامس , هكذا كان فعل تلك المراحل قبل أن اجلس وأحني هذه الصفحات.
هل جاءت المرحلة الثالثة لتجمع الأقطاب المتعاكسة أم لتجمع ما بين الثلج والنار والحبر والورق واللقاء والفراق؟ لم أعرف إذا كان هذا تناثرا أم تماسكا ؟
لاين سيأخذني القلم الذي يأبى التوقف عن نثر حبره وجنونه دون نص ودون فكرة واضحة, يأبى الاعتراف بالوصول للمرحلة الثالثة , فهل سأبقي نصي هكذا أو انه يريد البقاء في الفراغ دون نهاية؟
الوقت يمشي بثبات دون توقف يقتنص الساعات ويحرقها وأنا أحاول لملمة ما تبقى من الفكرة وجمع المراحل لكنها تبقى الأجمل بتمازجها وتبعثرها وعدم الوصول إليها. ليس فشلا أو هزيمة إنما اعترافا بتبعثري وتشتتي وعدم سيطرتي على الأشياء فمن الصعب أحيانا أن نشعر بلذة الأشياء أو قيمتها ونحن نمتلكها, من الصعب السير في أقانيم شفافيتها ونحن نتشرب هذه الشفافية فكيف لي أن أشعر الفكرة وقد تقمصتني وأثملتني بجمالها. فالمرحلة الثالثة هي الصفحات التي سأكتب عليها نصي الآتي.
جمعت ذاتي وحبري وأوراقي وفناجين قهوتي لكني تناسيت ورقة بيضاء واحدة ذيلت بجملة واضحة التعبير شفافة الحبر غير مرئية: لم يكن شيئا تائها سوى أنا.