أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
زمن الخيول البيضاء !

بقلم :  د. خالد الحروب ... 27.12.07

كما يليق بكل البدايات الجميلة تنتهي سلسلة "الملهاة الفلسطينية" للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله بذروه إبداعية بالغة الشفافية، هي روايته الأخيرة والطويلة "زمن الخيول البيضاء". على مدار أزيد من خمسة عقود، من نهايات القرن التاسع عشر وتحكم الاستبداد التركي بأهل قرية "الهادية"، مسرح الرواية، وبقية قرى فلسطين، وحتى هبوط ليل النكبة الكبير، ومروراً بالاستبداد البريطاني، نلاحق في هذه الرواية التاريخية الصراع اليائس ضد حصار المرارات والهزيمة القادمة. لا النوايا الطيبات، ولا قصص الحب العفوي، ولا بهاءات جمال الخيول البيضاء التي سحرت فلاحي فلسطين استطاعت وقف زحف هبوب الحرائق الكبيرة التي سودت لون تراب القرى ولون أسنان الخيول.
"زمن الخيول البيضاء" أكثر بكثير من رواية، وأكبر بكثير من أن تكون سجلاً جانبيا لوقائع زمن "متشائل". هي رصد الخيل الراكضة بلا توقف لزمن كثيف الأحداث، أطرافه دول وأمبرطوريات، ومشروعاته أكبر من بساطة ناس القرى وسذاجتهم... وبطولتهم. هي تصوير لذلك التمزق بين مقاومة المستبد التركي، والدير الارثوذكسي الذي حط على رابية القرية ثم استولى على أراضيها، ثم مقاومة المستعمر البريطاني، وخليفته المستوطن الذي سرق أرض القرية وأقام مستعمرته عليها... وأيضا مقاومة خيانات مختار القرية وتواطئه مع كل اولئك الغرباء، وكشف تخاذل الأفندية ومنافي الأنجليز في يافا والقدس. لا يُعطي هذا الابتسار المخل الرواية حقها، لأن ما هو أهم من تركيبة الأحداث فيها هو براعة التصوير، والجو النابض بدقات القلب فيها. قراءتها تجوال في دروب القرى الصغيرة، ومجالسة أهلها، ومرافقتهم في أسفارهم القصيرة إلى يافا والقدس، بحثا عن محام يدافع عن قضية استلاب أرضهم، أو عن قسيس وطني يساندهم في وجه الدير الغاصب. وهي أيضا، الرواية، خاتمة سداسية قلّبت صور "الملهاة" من "تحت شمس الضحى"، إلى "أعراس آمنة"، إلى "زيتون الشوارع"، ثم "طيور الحذر"، وصولاً إلى "طفل الممحاة". في كل تلك الصور التي قدمتها روايات إبراهيم نصر الله هناك "الحالم" الصغير: ولد، أو شاب، أو شيخ، عاشقة صامتة، أو أم كليمة، أو ... عصفور حذر، ثم (هنا) خيل بيضاء تنقب عن صاحبها في بيادر على مد البصر، أولها كعب الفرس وآخرها عين الشمس. ستة أعمال ومازال الحالم يحلم، ينتهي برواية اسمها وحده سيثير أشجانا لا أمد لها عند أهل ذلك الزمن. يحضنون الحلم كأنه قوة جبروت لا تُقهر. يخبئونه تحت جناحي عصفور حذر أو في جفني خيل أبيض: هو ناتج "الريح" و"التراب" و"البشر".
لكن ما قصة الروائي مع العصافير والخيول والغزلان التي تطير أو تركض أو تقفز في رواياته؟ "الخيول البيضاء" في عمله الأخير هي آيات الجمال التي تصهل مع الريح في بيادر الفلاحين، تغازلهم وتدندن معهم أغانيهم. يميل إليها اليافعون الفائرون فتوة، فلا يرون فيها إلا العاشقات المشتهيات، فيهمسون في آذانها شيئا ما يصير رابطة السحر بين العاشق والمعشوق. فخالد بطل الرواية ظل متسمراً في الأرض لحظة وقوع بصره على الفرس الأبيض الاصيلة التي ضلت طريقها ووجدت نفسها في قرية "الهادية". من لحظتها خالد صار خالد و "الحمامة" زوجاً واحدا، يناديها بصوته فتصهل مجيبة. بعد زمن قصير يأتي أصحاب "الحمامة" الأصليون يطالبون بفرسهم. تسيل دموع عند الفراق، لكن الناس الأصائل يلحظون علاقة العشق الجديدة، فيقطعون العهد على أن يرسلوا "حمامة" أخرى للشاب العاشق، من سلالة "الحمامة" الأم - هنا تتناسل الخيول وأصحابها منذ فجر الخلق.
عندما تأتي "الحمامة" الأخرى ويتواصل عهد العشق يلحظ خالد في بيدر ما "ياسمين"، فتاة طالعة من حيث يُصنع الجمال فتبهره. يلف عنق فرسه ويتجه إليها نحو عين الماء. يرجوها أن تخبره باسمها ليطلبها من أهلها. لا تتباطأ في مشيتها لكن تمنحه ابتسامة فيها براءة ومكر وخفر وتحد. تشير بيدها نحو الفرس البيضاء وتقول له "هذه أنا... أسألها". تعلق منديلها في جبهة "الحمامة" وتمضي بابتسامتها الغامضة. يظل المنديل رفيق خالد حتى لحظة اختراق الرصاص اللئيم جسده.
ترافق "الحمامة"، ثم ابنتها، خالد في كل مقاوماته ضد الأتراك، ثم الأنجليز، ثم المستوطنين اليهود. في كل غيباته مع رفاقه في الجبال كانت الحمامة أمه وأخته وحبيبته. تعرف الطريق إلى "الهادية" فتروح وتجيء، به أو وحدها، تبحث عنه إن جرح، وتحمله على أكف الحب وتعيده إلى دفء امه في القرية التي كانت غربان العملاء والغزاة تطبق عليها الحصار شيئا فشيئا. خالد، صار الحاج أبو محمود، كبر لكن همته ظلت شابة. هو ورفاق الرصاص القليل ظلوا ممسكين على أعقاب بنادق قديمة. كانت المدافع الرشاشة في يد أعدائهم تهزأ بسلاحهم. كانوا يبعثون الرسل والرسائل إلى القاوقجي وقوات الجامعة العربية التي تكدس السلاح وتجمعه، يرجونها العون والمساعدة، فيأتي الرد سلموا أسلحتكم واتركوا القتال لجيوش العرب التي ستأتي. يسقط الحاج أبو محمود شهيدا ولا تأتي الجيوش. ويسيل دمع الحمامة سخياً، وتختفي. في زمن الخيول البيضاء كان الحاج محمود و"الهادية" و"الحمامة" و"الغزالة" التي تستجير به وتلتف حول ساقيه طالبة الحماية، والحمام الزاجل الذي يطير برسائل الثوار بين بعضهم وبعض، كائنات مخلوقة من حب أبيض. كانوا عجين "الريح والتراب والبشر"، وجذوع الشجر وجذورها من لحظة أن صار في الكون سنابل تنمو وخيول تصهل.
ليست "الحمامة" هي الخيل الوحيد التي تذرع الأرض عشقا وانطلاقا عندما يمتطيها الحاج محمود. كان هناك "فضة" و"الأدهم" و"الشهباء". لكل منها عاشق أو عاشقة. هذه الكائنات الأصيلة تفهم لغة أبناء الأرض. لا الغرباء ولا العملاء يستطيعون الهمس إليها أو الحديث معها. كان "الأدهم" خيلا عملاقاً، جبلا من الكبرياء لا يرتقيه إلا صاحبه. يجندل الصاغرين والعابثين، ويبحث عن العشاق الذي في عيونهم برق مصوب نحو قلب الأفق. يحنو على "ريحانة" وزوجها ويبادلانه الحنو. ويوم خطف "الهباب" أحد كبار العملاء في المنطقة ومن نشروا الرعب في قلوب أهل القرى "ريحانة" وقتل زوجها أمامها لم يستطع أحد مواجهته. فكما كان الأتراك حماته القدامى صار الإنجليز حماته الجدد. يوم الخطف استجمعت "ريحانة" كل شجاعتها، وهي التي شتمت أهل القرية وغياب رجالها وجبنهم وقالت "للهباب" الوحش، تستطيع التمكن مني لأنك الأقوى، لكني أمنحك نفسي طواعية إن استطعت ركوب "الأدهم". كانت "ريحانة" قد خلت بـ"الأدهم" يوم خُطفت فأحنى لها رأسه، وهمست في أذنه طلبا صغيرا - "ما الذي يمكن أن تقوله امرأة لحصان تختلي به؟" هاج الأدهم وماج وقلب "الهباب" عن ظهره - لا تدعه يركبك، كان همسها! مرت سنوات و"الهباب" المطعون في رجولته لا يستطيع الاقتراب من "ريحانه" بسبب "الأدهم". يوم تفاقمت سورة غضب "الهباب" وقتل "الأدهم" بالرصاص مات هو الآخر.
يحاصر الضابط الأنجليزي اللئيم بيترسون قرية "الهادية" باحثا عن السلاح والمقاومين، ويفشل في العثور على شيء فيأمر بتلغيم القرية ونسفها. يومها لم يسمح لهم بإخراج شيء من القرية. لكن أهلها رجوه أن يخرجوا الخيول - الخيول فقط. كان بيترسون يتقهقر أمام نظرات الخيل الأصيلة، نقطة ضعفه الوحيدة، فسمح بإخراجها. ما دامت الخيول تركض في بيادر ما، فإنها تنتزع زمنها الخاص بها من الشمس. لكن كان على أهل القرية أن يتعلموا الدرس القاسي والمتأخر. كان عليهم أن يخسروا القرية وبقية القرى، ويكتشفوا عمالة العميل، ونذالة النذل، قبل أن يتعلموا الدرس. قال لهم المحامي اليافاوي يوم أخذ إلى محكمة المستعمر قضية الأراضي التي سرقها الدير الأرثوذكسي منهم لأنهم أودعوا ملكيات أراضيهم عنده: "المشكلة الكبرى التي تهدد هذه البلاد أنكم طيبون إلى حد مميت". لعلها جرعة "ملهاة" المرارات الأخيرة التي تسقينا إياها يا إبراهيم؟