بقلم : د. خالد الحروب ... 2.1.08
ضرورة مركزية دور مصر في المسألة الفلسطينية أمر لا جدال فيه. فمصر ليست كأية دولة عربية كبرى عند الحديث عن فلسطين. فلا الجغرافيا المتواصلة مع فلسطين ولا التاريخ الوثيق بالقضية، ولا وطأة الوجدان المصري وتعاطف الشعب هناك مع الفلسطينيين يسمح بترف التخلي أو تخفيف الإنخراط المصري في المسألة الفلسطينية. كما لا يسمح أيضا بأن تكون مصر «وسيطاً غير منحاز» بين إسرائيل والفلسطينيين. وقبل ذلك فإن ثقل مصر ودورها يُفترض أن يُترجم في واقع السياسة الإقليمية عبر مواقف وسياسات قوية وريادية، قيادية وليست مُقادة. والدور السياسي الإقليمي في أي بقعة من بقاع عالم اليوم هو مسؤوليات ومبادرات قبل أن يكون أقاويل أو إدعاءات. وينبني على الدور الإقليمي الفعّال في أحايين عديدة التمسك برؤية معينة والدفاع عنها، بل وفرضها على الأطراف الأخرى. وفي حالة مصر فإن باروميتر قوة أو ضعف دورها الإقليمي تظهر بإزاء المواقف الإسرائيلية والأمريكية تجاه ملفات المنطقة، خاصة الملف الفلسطيني والملف العراقي في الوقت الراهن.
لكن إضافة إلى ما يترتب عليه دور مصر كدولة محورية وذات دور إقليمي يُراد له أن يكون فعالاً ومؤثرا إزاء القضية العربية الأهم، أي الفلسطينية، فإن ما يحدث في فلسطين له علاقة عضوية وبالغة التأثير في الأمن القومي المصري. وقد تضاعف هذا التأثير بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية ثم سيطرتها اللاحقة على قطاع غزة، وما تلاه من سياسة إسرائيلية ودولية وإقليمية خنقت القطاع وسكانه بشكل متوحش ونازي. وهذه النقطة هي الآن الأكثر إلحاحاً على صانع السياسة المصري: إلى أي حد يتمشى خنق القطاع وسكانه مع الدور الإقليمي المصري، حتى لا نقول مع الوجدان والضمير المصري الشعبي الجارف؟.
بعض التقارير الصحفية، قبل وبعد زيارة إيهود باراك إلى القاهرة، تناقلت أفكارا يتم تداولها بشأن الوضع في قطاع غزة، منها الاتفاق على هدنة بين حماس وإسرائيل تقوم مصر برعايتها. ومن خلال هذه الهدنة تتوقف من صواريخ الفصائل الفلسطينية التي تستهدف المستوطنات والمدن الإسرائيلية، مقابل إيقاف إسرائيل ضرباتها العسكرية للقطاع إلغاء فكرة اجتياح القطاع عسكرياً. ومن ضمن تفاصيل الأفكار هناك شروط تريد تل أبيب وواشنطن فرضها على القاهرة أكثرها استفزازاً موافقة مصر على قدوم قوات امريكية من وحدات الهندسة في الجيش الأمريكي لتقوم بمراقبة كامل المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر. ويأتي هذا الشرط على خلفية تصاعد الإتهامات الإسرائيلية والأمريكية للطرف المصري بأنه لا يراقب عمليات التهريب عبر الحدود ومن خلال شبكة الإنفاق الى قطاع غزة. مصر هي أول من يعلم أن تلك الأنفاق في الوقت الحالي صارت شريان الحياة شبه الوحيد الذي يمد سكان القطاع بالكثير من الأساسيات المعيشية. ولئن كان خنق القطاع برمته يمثل وصمة عار كبيرة في جبين العالم اليوم، فإن استكمال خنقه لا يعني سوى الوصول إلى أعلى مراتب توحش السياسة وانحطاطها. بماذا يمكن أن يُوصف تجويع مليون ونصف مليون فلسطيني وتدمير حياتهم الاقتصادية ومعيشتهم وتعزيز كل مظاهر التوتر والتطرف بين ظهرانيهم، وفي أي مصلحة إقليمية يصب؟
من ناحية مبدئية لا يمكن سوى القول إن مجرد التفكير باستقدام قوات أمريكية لحراسة الحدود مع قطاع غزة يمثل انتهاكاً فاضحاً للسيادة المصرية، وإهانة للدور الإقليمي المصري. وعلى مصر أن ترفضه جملة وتفصيلا. واشنطن ليست الآن في وارد أو موقع فرض إرادتها على القاهرة في مسألة تخص قلب الأمن القومي المصري. ماذا سيكون دور الولايات المتحدة عندما ينفجر القطاع تحت مطارق الجوع والغضب والحرمان والتطرف وتتبلور فيه جماعات «قاعدية» و«بن لادنية» توجه ضرباتها في كل الاتجاهات، وأولها وأقربها الاتجاه المصري؟ بماذا ستعوض الولايات المتحدة مصر إن خسرت هذه الأخيرة قطاع غزة كلياً، وانتهى الوضع به إلى حالة شبية بالحالة العراقية، حيث تنتهي السيطرة المركزية لحماس؟ وهنا يمكن هجاء ما فعلته حماس عبر الحسم العسكري كما يحلو الهجاء، وكثيره محق، لكن أبجديات الرياضيات السياسية تقول إن وجود حماس قوية هو الذي سد الطريق حتى الآن على بروز أية جماعات متطرفة تعمل من دون بوصلة سياسية. حماس حركة براغماتية تدرك حيوية دور مصر، وتدرك ضرورة المحافظة بل والدفاع عن المصالح الأمنية المصرية، ويدرك المصريون عن قرب كيف تفكر حماس. وحماس هي الوحيدة في هذه الانعطافة الزمنية الحادة في الوقت الراهن القادرة على ابعاد شبح «القاعدة» عن الشمال الشرقي المصري. ولا تحتاج مصر إلى تفجيرات جديدة في منتجعات دهب وشرم الشيخ، وبعض خيوطها التي اشارت التحقيقات إلى أنها جاءت من قطاع غزة، لتوقن حقيقة الخطر «القاعدي». ووجود قوات أمريكية على الجانب المصري للحدود مع قطاع غزة هو الإغراء الأكبر لمجموعات «القاعدة» كي تتسارع في التشكل هناك، بل ربما يكون الجائزة التي تنتظرها تلك المجموعات من زمن ليس بالقليل.
وفي ذات السياق فإن تهديدات الكونغرس بربط جزء من المعونة الأمريكية لمصر بالموافقة على شرط استقدام قوات الهندسة الأمريكية للمرابطة على الحدود، أو حتى ربطها بـ «إصدار شهادة حسن سلوك» على أداء مصر في استكمال خنق قطاع غزة، يجب أن تكون فرصة لمصر لتثبيت دورها الإقليمي عبر رفضها لذلك التهديد وعدم الانصياع له. وما قيل عن أن مائة مليون دولار من تلك المعونة سوف تحجب ويتم ربطها بالأداء المصري في تلك المنطقة هو مناسبة كي تقول مصر إن دورها الإقليمي وأمنها القومي أهم من المائة مليون دولار. هذه الأموال هي جزء بسيط من خسارة شهر سياحة واحد في مصر في حال انفجر موقف هنا أو هناك، سواء في سيناء أو شرم الشيخ، ناتج عن الاختناق الغزاوي القاتل.
ومن جهة أخرى تدرك مصر أن الدرس الإيراني الراهن في تعزيز الموقف الإقليمي ليس محط إعجاب الشعوب في المنطقة وحسب، بل ومحط تقدير أكثر خصوم إيران في العالم. لا أحد يطالب بصوغ إعلانات وتصريحات فجة كالتي دأب على إطلاقها الرئيس الإيراني، لكن ليس بالامكان إلا الاعتراف بأن سياسة الإصرار على الموقف وإدراك مناحي الضعف وقلة الخيارات عند واشنطن وحتى إسرائيل أثمرت الشيء الكثير لطهران. وليس من المطلوب، ولا حتى من الصالح المصري، أن تتبنى القاهرة سياسة عدائية تجاه واشنطن وتناكفها في كل سياساتها الإقليمية. لكن هناك هوامش مهمة توفر للسياسة المصرية الشيء الكثير الذي مازال دون الاستثمار السياسي الحقيقي. الولايات المتحدة هي التي تحتاج مصر في الشرق الأوسط، وليس العكس. وعلى القاهرة أن تفرض على الولايات المتحدة احترام مصالحها الأمنية والسياسية والموقعية في المنطقة. تراجع دور مصر «والسعودية» الإقليمي، خاصة في فلسطين والعراق، هو الذي يتيح لإيران أن تتمدد وتصبح هي العنوان الذي تنظر إليه الشعوب العربية، وتنظيماتها وأحزابها المعتدل فيها والمتطرف.