أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الدين والعلـمانية والهوية الفلسطينية !

بقلم : د. خالد الحروب* ... 9.1.08

على جوانب الصراع السياسي بين "فتح" و"حماس" يتطور صراع فكري هوياتي من نوع آخر على مستوى القواعد ويعبر عن نفسه في وسائل الإعلام الحزبية ومنتديات الإنترنت التابعة لهذا الفريق أو ذاك.
يتنافس الصراعان، السياسي والفكري، بين الطرفين في مقدار البؤس الذي يقدمانه، بسبب الـمناخ الـمدمر الذي يلف الجميع. أهم معالـم ذلك البؤس هو أن "العدو الـمشترك ــ إسرائيل" بالكاد يظهر في السجالات الراهنة ومتعالية الدوي. فالتوتر الآيل إلى التصاعد أكثر من ميله للخفوت، والتحزب الطاغي الذي نافس في عصبويته التحزب القبلي والعشائري، ومراكمة الأحقاد، والتربص الدائم، وإطلاق الاتهامات التخوينية أو التكفيرية بالسهولة التي يتم بها تنفس الهواء، كل ذلك ينفث سموماً هائلة تتقزم إلى جوارها السموم "الاعتيادية"! في مناخ كهذا يصبح إقحام جدل الدين والعلـمانية وإثارة النقاش حولهما في فلسطين عملية عبثية تهدف التجييش وتعبئة ذخيرة جديدة أكثر من استهدافها إثارة جدل فكري معقول.
لكن ذلك على مرارته يجب ألا يحول دون مقاربة هذا الـموضوع ومحاولة استدعاء نقاش هادئ رغم السجال الطاحن والدم الـمراق. فهذا النقاش في واقع الأمر ليس جديدا وهو سابق على أحداث الصراع الأخيرة، وهو مطروح بحدة خلال السنوات القليلة الـماضية في الساحة الفلسطينية، كما في الساحات العربية الأخرى. وربما كان السؤال الـمدخلي في هكذا نقاش هو "ما هي الهوية الفلسطينية بالضبط"؟ ثم ما هي مكوناتها؟ وبماذا تتعرف تلك الهوية؟ وعلى ماذا تتأسس؟ وكيف تطورت سيرورتها؟ وأين وظيفتها في سياق النضال التاريخي لاسترجاع حقوق الفلسطينيين التي سلبها الـمشروع الصهيوني في فلسطين؟
ما يهمنا في اللحظة الراهنة ليس مداولة الإجابات الأكاديمية والتأريخية لهذا السؤال وتفريعاته، فذلك أمر تقصر الإحاطة به في هذه العجالة، لكن ما يمكن التركيز عليه هو التقاط الخيط الـمركزي الذي يكاد يجمع بين معظم محاولات تقديم إجابات عن سؤال الهوية الفلسطينية. هذا الخط الـمركزي هو أن هذه الهوية تخلّقت في رحم الصراع مع الـمشروع الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين، وقد يجوز القول إن إرهاصاتها البعيدة بدأت مع وعي القلة القليلة لخطر الصهيونية الـمتعاظم في فلسطين مع أواخر القرن التاسع عشر، وتطورت على أساس النقيض الـموضوعي لذلك الـمشروع. عكست تلك الهوية تشبث ناس فلسطين بأرضهم وانتمائهم لها وإصرارهم على العودة إليها بعد الحروب وما نتج عنها من طرد وتهجير. وبسبب هذه الطبيعة الـمختلفة وارتباطها مع الـمحتل الأجنبي فإن هذه الهوية غير تقليدية، وهي لا تزال كذلك.
وتوسيعا وتأطيراً لتلك السمة "غير التقليدية" لنا أن نقول إن "الهوية" عموماً تستبطن، شئنا أم أبينا، التمايز عن "آخر" و"آخرين" بالتعريف. وهذا التمايز يصيرها الأداة التي بها وعبرها يدركنا ويعينا ذلك "الآخر"، تماما كما تصير "هوية" ذلك "الآخر" هي الـمدرك الـمترسخ في اللاوعي الجماعي "عندنا" وبها "نتعرف" عليه و"نعرّفه". ولأنها كذلك، أي الأداة الـمُعرّفة، فإن العالـم يعرف الفلسطينين بهويتهم النضالية التائقة لتحرير أرضهم وإرجاع حقوقهم، ضد مشروع احتلالي تعارضه الشرائع الدولية والعدلية وقبلها وبعدها الضمائر الحية.
على ذلك ليست "الهوية الفلسطينية"، وعبر هذا التعريف الـموجز وربما الـمُخل، مسألة حيادية، أو يصح التماحك بها وإخراجها عن السكة الـمُعرّفة بها. فهي هوية ذات وظيفة: وظيفتها إبقاء تعريف الفلسطيني، الـمُسالـم او الـمُقاوم، في إطار قضية التحرر والتحرير إلى أن يُنجزا. هذا التعريف ظل واضح القسمات منذ سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين وحتى الآن.
لكن وضوح تلك القسمات صارت تقترب منه دوائر الغموض في السنوات الأخيرة. فجدل الإسلاموية والعلـمانية، وتأثيراته على معنى الهوية الفلسطينية، بما في ذلك تقابلية وتداخلية مفاهيم "أسلـمة الهوية الفلسطينية" أو "فلسطنة التيار الإسلامي في فلسطين" صار يثير أسئلة وغبارا كثيرا، قد يطمر في نهاية الـمطاف خط السكة الواضح التي تعودت أن تسير عليها الهوية الفلسطينية تاريخيا. مرتبط بذلك أيضا ما تطور من مدخلات على "الـمشروع الوطني الفلسطيني" اقتحمت مسار تلك السكة، وصارت تعرض بدائل عن التشبث بها.
وأهم اقتحامين أربكا ذلك الـمشروع وتحرشا بمضمون الهوية الفلسطينية ووظيفتها هما "مشروع أوسلو" لحركة فتح، و"مشروع الرؤية الإسلامية" لحركة حماس. الأول حرق وظيفة الهوية قبل إنجاز الـمهمة، فقبل تحقيق الحقوق صار يُنظر للفلسطيني والفلسطينيين على أنهم أصحاب سلطة ودولة، ويتناكفون مع سلطة ودولة أخرى (إسرائيل) كما هو الشأن في أكثر من بقعة في العالـم. واهتزت فكرة التحرير وإنجاز الحقوق من حول "الهوية" النضالية الـمعروفة. ووقع كثير من أنصار الفلسطينيين في العالـم في الـمأزق الـمحرج، إذ يدركون من ناحية أن الـمشروع لـم ينته وأن الاحتلال ما زال قائماً، لكنهم يرون من ناحية ثانية أن القيادة التاريخية للـمشروع هي التي قررت هذا القطع الـمفاجئ للـمعنى الظرفي للهوية الفلسطينية (أي ارتباطها بإنجاز التحرير وتحصيل الحقوق).
أما "الرؤية الإسلامية" التي تطرحها حركة حماس إزاء فلسطين والصراع مع الـمشروع الصهيوني وإزاء الهوية الفلسطينية، ورغم كونها ضبابية جدا إلا أنها كانت هي الأخرى كافية لخلق تأثيرات عكسية لا تقل ضررا عن مشروع أوسلو على "الهوية الفلسطينية التحررية". فهذه الرؤية تُقحم على الهوية الفلسطينية أجندات غامضة تضيف على الاهتزاز الذي حدث أصلا مع أوسلو. ومن ذلك مقاربات "أسلـمة الهوية الفلسطينية"، أو "أسلـمة الصراع"، أو "أسلـمة الـمجمتع الفلسطيني"؟ فالـمعنى الأقصر لهذه "الأسلـمات"، وعلى ما فيها من افتراضات صارمة بشأن "حال" الـمجتمع الفلسطيني أو الهوية الفلسطينية، هو زيادة حمولة تلك الهوية بأثقال لا طاقة لها بها، وإرباك تواجدها في الـمربع التحريري الذي عرفت وتعرف به.
تحتاج الهوية الفلسطينية بهذا الـمعنى إلى الـمحافظة على رمزيتها التحريرية وطبيعتها غير الـمؤدلجة، أي صفتها العلـمانية، والتي بها تمكنت من التواصل مع العالـم وشعوبه. وحشر تلك الهوية في بوتقة إسلامية لا يعمل سوى جمع الافتعال الشعاراتي إلى قصر النظر البراغماتي. وهو قصر نظر تفادته الحركة الوطنية الفلسطينية عبر تاريخها الطويل، إذ ليس بالأمر العابر أن تحرص شخصية قيادية كبيرة وذات ثقل ديني كبير مثل الـمفتي أمين الحسيني في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الـماضي على الإبقاء على الصفة الوطنية العامة للهوية الفلسطينية والنضال الفلسطيني، من دون إبداء الهوس بأسلـمته وأسلـمة كل ما يمت له بصلة.
فمن ناحية مبدئية ورغم الـمناخ الطاغي في البلدان العربية والإسلامية حيث الخطاب الديني صار يتحكم في الوجهات العامة للرأي العام، فإن فكرة "أسلـمة" كل شيء حولنا هي فكرة حزبية وتفترض "لا إسلامية" الـمجتمعات وهوياتها وشعوبها. وهي فكرة لا تاريخية تتجاهل تجربة الاجتماع العربي والإسلامي لقرون طويلة، وهي تجربة يبتعد غناها وتنوعها وتركيبها كل البعد عن التصور الطوباوي الإسلاموي الراهن في تخيل "النموذج الإسلامي" وتسطحه الـمفترض. وهو نموذج يبدأ بإقحام الدين في قلب السياسة، ومنها يصل إلى بقية مفاصل الـمجتمع والحياة العامة، "أسلـمة الهوية الفلسطينية" لأنها علـمانية لن يعمل إلا على تدميرها.
أما من ناحية مصلحية بحتة، وحتى إن كانت تلك "الأسلـمة" تستهدف حشد نصرة العرب والـمسلـمين وراء قضية فلسطين، فهؤلاء لا يحتاجون إلى مثل هذه الجراحة في الهوية لضمان تأييدهم. فهم بالتعريف مؤيدون لها وبكل طاقتهم. لكن الحاجة كانت وما زالت ملحة لاختراق فضاءات أبعد من فضاءات الـمجتمعات العربية والـمسلـمة بحثا عن التأييد. وفي تلك الفضاءات فإن كون الهوية وطنية ونضالية وتحريرية أقوى تأثيرا وأقل تنفيرا مما لو حُشرت في النظرة الحزبية الإسلامية. حديث يطول في مساحة قصرت، لكن بأمل أن تكون الفكرة وصلت.

.* أكاديمي فلسطيني