بقلم : ميسون أسدي ... 20.1.08
-أأسرق؟! ماذا سيكون عقابي لو اكتشفوا أنني سرقت؟! أنا لم أسرق من قبل، ولن أسرق من بعد، ستكون سرقة واحدة لا غير..
رأت "زينب" والدها يترك لوالدتها بعضًا من النقود لتشتري بها لوازم البيت، قبل أن يذهب إلى عمله، وعلى الفور، فكرت بأخذ المال، فاليوم تقيم المدرسة احتفالا بعيد "الاستقلال"، وستشتري الكثير من الأشياء اللذيذة التي تحبها وتأكلها أثناء الاحتفال.. لم يطل تفكيرها.. مدت يدها الصغيرة خلسة إلى المال، وبلمحة البصر، دسته في جيب لباسها الداخلي الأزرق، ذو الجيب الداخلية العميقة، وركضت مسرعة إلى دكان "أبو كايد" وطلبت منه عدة حبات "راحة حلقوم" وكمية من حبات الجوز وبعض أنواع الكعك بطعم الكاكاو والعسل المفضل لديها.. فسألها "أبو كايد": "لمين هاي الأغراض كلها ولي"؟
-ليش بتقول لي ولي؟ إذا قلت لي ولي، سأذهب إلى دكان "محمد علي" واشتري من عنده ومش من عندك..
-من أين لك هذا المال يا بنت يا "سودا"؟!
-وفرته من السنة الماضية لعيد الاستقلال..
- هيا خذي وانقلعي من هنا..
خبأت ما اشترته في حقيبتها المدرسية.. وقررت بأن لا تتناول شيء مما اشترته حتى ابتداء الاحتفال.. كم تمنت أن تقضم نصف كعكة، أو تكسر حبة جوز، أو حتى تلحس ولو لحسه واحدة السكر من على حبات الحلقوم، قالت لنفسها: بعد انتهاء فقرة الإنشاد ستبدأ فقرة مسرحية وعندها سأجلس على المدرج، أشاهد المسرحية، وأبدأ بانتشال وابتلاع ما في حقيبتي.
ليس صدفة، بأن تقوم زينب بسرقة بعض المال لعيد "الاستقلال"، فهذا العيد يختلف عن كل الأعياد وله طعم خاص لدى الأطفال الذين لا يعلمون سبب الاحتفال به، بل يشاهدون النتيجة واختلافه عن باقي الأعياد، حيث ترغم المؤسسات وخاصة المدارس على الاحتفال وتنظيم برامج فنية متنوعة مثل المسرحيات وعروض الغناء والدبكة والعزف وغيرها، بتمويل من الحكومة على عكس الأعياد الدينية العادية التي يتصرف بها الأهل والمجتمع حسب قدراتهم المادية.
في وسط ساحة المدرسة، تم نصب منصة كبيرة، اعتلاها المدير "أستاذ صلاح"، بنظـّاراته الكبيرة، وعيونه التي تتلاعب شمالا ويمنيا، عله يضبط معلما واحدًا غير راضٍ وغير مؤيد لهذه الاحتفالات، ليشي به للمسؤولين، ويتم فصله من سلك التعليم، وربما يزج به في السجن.
ألقى المدير خطبة قصيرة عن أهمية العيد لدولتنا "دولة إسرائيل"- على حد تعبيره- ثم أعلن عن بدء البرنامج الفني، صعدت زينب مع باقي الأطفال إلى المنصة ينشدون أغنية "عيد استقلال بلادي" وكان صوتها بارزا على الطلبة بحدته وعلوه، وعيونها تراقب حقيبتها التي تركتها على الكرسي:
عيد استقلال بلادي عيد العشرين
سمعت الدنيا بتنادي طول السنين
سمعت الدنيا بتنادي مبروك مبروك
غمرت قلبي السعادة ألفين مبروك
انتهت الفقرة الغنائية فقفزت زينب.. إلى كرسيها واحتضنت حقيبتها، منتظرة بداية فقرة المسرح وفيما هي تبتلع ريقها، شعرت بشيء غريب، وكأن أحدا يراقبها، نظرت إلى الوراء فرأت أختها الكبرى، "زهر" تنظر إليها بعيون مرتابة فيها شيء من التهديد..! أحكمت زينب يديها على الحقيبة وقررت الانتقال من مكانها المختار إلى مكان بعيد عن عيون أختها "زهر".. وما أن استقرت واطمأنت، وإذ بأختها تلحق بها من جديد وترمقها بنفس النظرات فخافت ونظرت إلى الجهة الأخرى فشاهدت ابنة خالتها "صفاء"، تنظر إليها بنظرات مشابهة.. فدق ناقوس الخطر، وفهمت ما يجري حولها، وقررت الهروب من الاحتفال الذي طالما انتظرته، والاستغناء عن المسرحية، ففي هذه الظروف المستجدة، يكفيها أن تأكل ما اشترته وأن لا يعرف والداها بأنها سرقت.. قفزت مسرعة تجري خائفة تحتضن حقيبتها بكلتا يديها، وأختها وابنة خالتها وراءها راكضتين، لم تفلح الصغيرة زينب من الإفلات من قبضة أختها التي انتزعت منها الحقيبة أمسكتها مع ابنة خالتها من يديها وجرتاها إلى البيت وهي تبكي وتصيح: اتركوني، سأتقاسم الحلوى معكم..
تحولت غنيمتها، التي كانت مصدر سعادتها، إلى مصدر خوف ورعب من العقاب الذي ينتظرها، هذا الشعور أفقدها حس الشهية.. فهي الآن مستعدة للتنازل عن جميع حلوياتها لتعود وتشاهد المسرحية، فقط بدون عقاب!
عندما رأتها والدتها، أشفقت عليها، رغم جريمتها ولكنها لم تدعها تشعر بذلك وقالت لـ"زهر" و"صفاء": عودا إلى المدرسة وتعالي يا زينب.. لماذا أخذت مالا ليس لك؟
-اشتريت ما أحب للعيد يا أمي..
-لكنك اشتريت ما يكفي لعشرة أولاد!! هل تعرفين ماذا سيفعل بك والدك عندما يعود؟
-ماذا؟
-سوف يكويك بالمكواة..
خافت زينب من العقاب وبدأت تشرح لوالدتها ما حدث، وتعتذر منها، وكيف أنها لم تتذوق شيئا مما اشترته.. محاولة أن تستدر عطفها قائلة: أعدك يا أمي لن اكرر فعلتي؟
-حسنا سنرى ما يقوله والدك..
-سأعيد لك المال، من مصروفي ومن مدخراتي للعيد الكبير..
-لن تفلتي من العقاب سيكويك والدك بالمكواة..
عاد والدها من العمل، وكعادته يستحم وتفرش له الوالدة فرشة على الشرفة الطويلة الضيقة، وتضع أمامه الطعام وتجلس العائلة من حوله.. لم تقترب زينب منهم، لم تتكلم وهي كثيرة الكلام، كانت حزينة، حتى أنها لم تتناول أي طعام وسأل والدها: ما بها؟ فغمزته الوالدة بطرف عينها.. فقال الوالد متغاضيا عنها: اليوم سنذهب إلى المستوطنة لنرى احتفالات عيد "الاستقلال".. فرحت زينب لهذا الخبر، ونسيت فعلتها.
سارت العائلة في مركز الاحتفالات بين المسارح الكبيرة في المستوطنة، ومن على كل منصة كانت حلقات من الرقص الشعبي اليهودي، النساء والرجال يقومون بنفس الحركة بدون أخطاء، يلبسون ذات اللباس، يقفزون في الهواء وتتطاير تنانير النساء وتظهر ملابسهم الداخلية ولا يأبهون.. بينما ينظر إليها والدها ويقول لها: يا (عيبو)!! ولكن زينب لم تضحك له! فهي حائرة وممزقة بين القرية والمستوطنة.. جلست لوحدها قريبا من المنصة، وكان المحتفلون يداعبونها ويحيونها بابتسامة وأحيانا يتحدثون إليها والبعض يقدم لها الحلوى، وما تراه من مشاهد يزيد من بؤسها وبلبلتها، فهنا عند الأغراب تعطى الحلوى وفي بيتهم يأخذون منها الحلوى، هنا يضحكون معها ويهتمون لأمرها ووالدها في البيت سيكويها بالمكواة، هنا المسرح والرقص والتمثيليات أحلى من مدرسة "الأستاذ صلاح".. نظرت إلى المفرقعات النارية الملونة التي تملأ السماء وقالت في نفسها: عندما أكبر سأصبح يهودية، سأكون حرة، سأعيش في بلدة فيها كهرباء، وسأتعامل مع الصغار بلطف وحنان وسأوزع عليهم الحلوى.
عادت العائلة إلى البيت بعد الاحتفال وطلب الوالد من أبنائه الخلود إلى النوم وذهب مع الوالدة لزيارة أحد الأقارب.. لم تستطع زينب الخلود إلى النوم مبكرا كباقي أخوتها الصغار، حكت عدة قصص لإخوتها الصغار والكبار، لكن الجميع ناموا، وباءت محاولاتها بالفشل لإبقائهم ساهرين معها، فقررت أن تلحق بوالديها، حيث كانا.. بحثت عنهما في بيوت العائلة، دقت بابا بابا، حتى وجدتهما وانضمت إلى سهرتهما.. استاء الوالدان من تصرفها لكنهما لم يظهرا ذلك، وحال عودتهم إلى البيت قام والدها بتوبيخها وفرك أذنها بشدة، حتى لا تعيد الكرة.. تألمت وبكت واختارت زاوية تقع في طرف الشرفة التي تحيط بمنزلهم من جوانبه الأربعة، اعتادت أن تجلس عليها كلما حزنت، ومن هناك كانت تنظر نحو المستوطنة القابعة على التل مقابل بلدتهم، حيث أضواء الكهرباء تسطع من كل مكان وخطوط إضاءة منتظمة على أطراف الشوارع لا نهاية لها، وخلال فركها لعينيها، أمسكت شعاعًا من الضوء بلون الذهب، يربط بين عينيها الدامعتين وأضواء المستوطنة فاستمتعت بهذا الضوء والاتصال به من خلال دموع عينيها، واستمرت بإصدار الأصوات وحشرجة البكاء وكأنها تتسلى بلعبة جديدة للتو اكتشفتها.. وتحاور نفسها بصوت مسموع: لماذا لم أولد يهودية؟ آه لو كنت يهودية؟ لو ولدت يهودية كنت سأسكن فوق هذا التل الجميل، حيث الكهرباء تضيء الطرقات حتى الصباح، وأسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، لكان هناك نور في بيتنا، سأشاهد أي برنامج تلفزيوني، ولن يقرر أبي متى أنام.. لو كنت يهودية لما ضربني والدي، ولن أبذر ما أدخره من مال على إخوتي في ساعات المساء ليوافقوا على الاستماع لقصصي المختلقة السخيفة حتى يسهروا معي.. لا أريد أن أكون عربية ولا أريد أن يكون أبي أبي، وأنا لا أحبه عندما يفرك أذني ويؤلمني.. أريد أن أسهر.. سألحق بهما كلما خرجا للسهر.. وهكذا دواليك.. استمرت في فرك عينيها والبحث عن الخيط الذهبي الذي يتواصل من دموع عينيها إلى أضواء المستوطنة، وتبكي بكاء مصطنعا وتحادث ذاتها حتى تعبت وخلدت إلى النوم.
***
بعد عشرين عامًا، تحقق حلم زينب، وسكنت في المستوطنة على رأس التل، التي تشرف على القرية مباشرة.. وفي بيتها الجديد كانت كل وسائل الراحة، وكانت تذهب إلى النادي مرتين في الأسبوع لتشارك في الرقص على أنواعه، وكلما رقصت واستمتعت بالرقص، تشعر بنظرات زينب الطفلة داخلها، ما زالت ترمق الراقصين بعيون طفولية حاسدة، لتزداد زينب تألقا ورونقا واستمتاعا بالرقص. وكانت حقيبتها مملوءة بالسكاكر والحلويات، توزعها على الصغار كلما زارت أهلها في القرية.
***
لم تعلم زينب انه في نفس الوقت الذي تنفست به الصعداء في بيتها الجميل على رأس التل، كانت هناك في الجهة الأخرى في القرية، طفلة تدعى حليمة تقف على شرفة بيتها.. تبكي وتقول: لو ولدت يهودية كنت سأسكن فوق ذاك التل الجميل، حيث الكهرباء تضيء الطرقات حتى الصباح، كنت سأسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، لكان هناك نور في بيتنا، ولن يقرر أبي متى أنام.. ولن أكوى بالمكواة إذا أخطأت... وطفلة أخرى على شرفة أخرى تمنت أمنية مشابه، وأطفال على شرفات أخرى قالوا: لو..!!
حيفا
**********
(*)"زرعنا لو، طلع يا ريت"- مثل شعبي فلسطيني