بقلم : د. فيصل القاسم ... 20.1.08
هرشت رأسي مرات ومرات كي أفهم سبب ذلك الاحتفاء العربي الأسطوري بجورج بوش أثناء جولته الأخيرة في المنطقة العربية، لكنني لم أجد سبباً وجيهاً واحداً يبرر ذلك. لا أريد هنا أن أتحدث عن تجاهل مستقبليه وتعاميهم عما فعله مغول العصر بالعراقيين، فقد أخذ هذا الجانب حقه في الكثير من التعليقات النارية، وخاصة على متن الانترنت. وربما نتفهم تصرف الذين استقبلوا بوش بالأفراح والليالي الملاح على أنها رسالة للعرب المنكوبين في العراق وفلسطين ولبنان والصومال كي يقلعوا شوكهم بأيديهم. وهذا أمر قابل للاستيعاب وربما الغفران، على اعتبار أن الانحطاط العربي الأخلاقي والإنساني قد وصل إلى الحضيض. لكن ما يجعل المرء يستغرب استقبال الرئيس الأمريكي بالأحضان، هو أن ذلك الزائر كان قد أساء للذين استقبلوه، وخذلهم، بقدر ما أساء لغيرهم من العرب. فهل يُعقل أن يقوموا بإكرام ضيف أضر بمصالحهم وسلامة بلدانهم وأمنهم الوطني بشهادة وسائل إعلامهم وإعلامييهم؟
تقول كاتبة محسوبة على الذين استقبلوا بوش على طريقة ألف ليلة وليلة: إن الحرب الأمريكية على العراق "ضمنت لملالي طهران نفوذاً ضخماً في العراق"، وإن القيادات العربية تلقت صفعة هائلة أيقظتها إلى "واقع الورطة التي قادتها إليها إدارة جورج بوش عندما نصبت الجمهورية الإسلامية في إيران دولة كبرى في منطقة الخليج والشرق الأوسط. فعلت ذلك بجربها في العراق فقدمته مُدجناً وضعيفاً و"شيعياً" إلى إيران بعدما كانت إدارة بوش قد انهمكت في التخلص من نظام طالبان - عدو إيران". وشهد شاهد من أهلهم.
وتماشياً مع الوقائع الماثلة أمام أعيننا، كنا نتوقع أن يطلق الإيرانيون، لا العرب، الأهازيج والزغاريد، وأن يقيموا المهرجانات الترحابية الطنانة احتفالاً بوطوء قدمي الرئيس الأمريكي تراب الشرق الأوسط، حتى لو لم يزر بلاد فارس. لكن بينما كان العرب يذبحون القرابين، ويفرشون الأرض بالورود تحت قدمي بوش، كان الإيرانيون يستقبلونه بالتصريحات النارية، ويستنكرون جولته في المنطقة، ويتهكمون عليه وعلى بلاده، مع العلم أن "الضيف الكبير" جعل "حلفاءه" العرب، بشهادة الكاتبة أعلاه، في وضع "كش مات" بلغة الشطرنج (الذي اخترعه الفرس) أمام الأحجار الإيرانية، بينما رفع عدوه المزعوم إيران إلى مصاف لم تكن تحلم بها أبداً. لقد قدم لها على طبق من ذهب ما فشلت في تحقيقه على مدى ثماني سنوات من حرب ضروس مع العراق التي، وللسخرية، مولت جزءاً كبيراً منها بعض الدول العربية التي احتفلت بالرئيس الأمريكي احتفالاً تاريخياً مشهوداً.
لا أفهم أبداً كيف للذين استماتوا في تكريم الرئيس الأمريكي أن يتناسوا أن سيد البيت الأبيض أصبح يتقاسم الآن منطقتهم استراتيجياً مع من أوهمهم بأنه يقاومه، ويصد تغلغله وتمدده في المنطقة بالتحالف معهم؟...ومما يجعل "ضبانات العقل" تطير من مكانها أن وسائل إعلام الذين استقبلوا بوش استقبال الأبطال والفاتحين ما لبثت تروج لما يُسمى بـ"العراق الجديد"، وتهلل لحكامه الجدد، وتطالب العرب أجمعين بدعمه، مع علمها التام بأن حكام العراق الجدد أدوات إيرانية بشهادة القاصي والداني. هل يستطيع أحد أن يفسر لنا هذه المعادلة العويصة جداً، من جهة نسمع الجميع يحذر من تأثير إيران المتنامي في المنطقة، خاصة بعد حصولها على التكنولوجيا النووية، ومن جهة أخرى نرى دعماً عربياً منقطع النظير لأزلام إيران وملاليها في العراق. هل فكر أحد الذين كانوا في استقبال بوش وإقامة الاحتفالات الضخمة على شرفه أن يهمس في أذنه ليسأله سؤالاً بسيطاً جداً: " ألا تظن يا سيادة الرئيس أنك بعتنا بقشرة بصل؟ ألا تعتقد أننا أصبحنا بفضل "سياساتكم الحكيمة" بين مطرقة اليانكي والسندان الإيراني؟ ألا تتفق معنا أن شعوبنا ستساءلنا، ولو في سرها، عن سر ولعنا بسيادتك والتهافت على الترحيب "بطلتك البهية" وأنت الذي خذلتنا، وناصرت خصومنا"؟
آه كم شعرت برغبة شديدة للقهقهة عندما قرأت كلاماً في غاية الكوميديا لرئيس تحرير عربي يعتبر فيه "الحفاوة في استقبال بوش... رسالة الى كل من إيران وسوريا مفادها "أيها الأعداء الأعزاء شكراً لكم فخطركم على المنطقة منحني الحفاوة.. وجعل الدول العربية حريصة على تدعيم التحالف مع القوة العظمى، وكذلك أوروبا". لا أدري لماذا تناسى رئيس التحرير الموقر أن الإدارة البوشية هي التي مكنت إيران في المنطقة بإطلاق يدها في العراق وحتى أفغانستان، بشهادة مسؤولين عرب وإيرانيين كبار. لذلك بدلاً من ذر الرماد في العيون وتحريف الحقائق كان حرياً بالذين ما زالوا يطبلون ويزمرون للرجل الذي، برأيهم، غير "مسار العلاقات الأمريكية ـ العربية، والتحالفات الاستراتيجية" إلى الأفضل، كان حرياً بهم أن يذرفوا دموع الندم على مشاركتهم واشنطن في تمكين إيران وجعلها القوة الإقليمية الأولى في المنطقة.
لكن أرجو أن لا يفهم أحد أن المقصود من الكلام أعلاه التحريض على إيران أو دق أسافين بينها وبين العرب. معاذ الله، فقد كان دخول العاهل السعودي الملك عبد الله إلى قاعة مؤتمر مجلس التعاون الخليجي الأخير في الدوحة وهو يشبك كفه بكف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من أجمل المناظر السياسية التي شاهدتها في السنوات القليلة الماضية، مع الاعتراف بإن إيران شاطرة، وألف حلال على الشاطر. وكم أتمنى أن نعبر من الآن فصاعداً إلى ضفة الشاطرين القريبة على جسور نبنيها بأيدينا، لا عبر الجسر الأمريكي الذي خسف بنا إلى أسفل السافلين، وهو ما بدأ يفعله عرب الاعتدال مشكورين ولو متأخرين.
لكن تلك الاستفاقة المتأخرة من وهم الاعتماد على الأمريكي في كل شيء يبقى مشكوكاً فيها؟ فلو كانت استفاقة حقيقية لما حظي ما أسماه كاتب خليجي بـ"مسيلمة العصر" بذلك الاستقبال الخرافي على أيدي مضيفيه العرب. فالخوف كل الخوف أن يكون أسمى ما يسعى إليه البعض هو أن يكون كاوبوي البيت الأبيض راضياً عنهم ومباركاً لهم بقاءهم على كراسيهم لا أكثر ولا أقل، دون أن يعلموا أن تلك الكراسي أصبحت تقف الآن على أرض أكثر اهتزازاً وأقل أماناً بعدما ازداد عدد المتناطحين على النفوذ في المنطقة العربية؟