أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
غزارة في الإنتاج المعرفي وسوء في الاستهلاك !

بقلم : د. فيصل القاسم ... 4.2.08

كان الإنسان يشتكي في الماضي من قلة مصادر المعرفة وصعوبة الحصول عليها مادياً ولوجستياً. وبالتالي كان يعزو حالة الجهل المطبق في المجتمعات إلى شح المعلومات. وطالما عزا المؤرخون الثورة المعرفية في العقود الستة الماضية إلى اختراع غوتنبيرغ للمطبعة، وما نتج عن ذلك من ثورة معلوماتية. لكن السؤال الذي لا يسأله الكثيرون: هل كان طلب العلم والمعرفة يتوقف فعلاً على توافر مصادرهما ووسائلهما، أو صعوبة الوصول إليهما، أم يتوقف على رغبة الإنسان في الحصول على المعرفة والثقافة؟ فما فائدة أن يكون لديك معروض معرفي وثقافي وعلمي هائل، بينما الطلب الإنساني عليه هزيل للغاية؟
لقد كنا في الماضي نعزو جهلنا وبؤسنا الثقافي إلى الفقر الذي لا يسمح لنا بشراء جريدة أو كتاب. فإذا كنت تسأل الناس لماذا لا تتثقفون: كانوا ينحون باللائمة فوراً على أوضاعهم المادية البائسة، على اعتبار أن هناك، برأيهم، تناسباً طردياً بين الفقر والتحصيل المعرفي. ربما قد ينطبق هذا الوضع على البعض، لكن الإنسان الذي يريد أن يتثقف ويحصل على العلم فعلاً يستطيع أن يناله حتى لو كان بعيد المنال، بدليل أن الكثير من الكتاب والأدباء العظام كانوا معدمين مادياً، ولم يكن بإمكانهم شراء رواية. لكنهم انتصروا على واقعهم المزري بالتثقف، وأصبحوا منارات أدبية وثقافية عظيمة. فقد كان بعضهم يأتي يومياً إلى أكشاك بيع الصحف والكتب، ويقرأ واقفاً تحت أشعة الشمس الحارقة ما يتيسر له، نظراً لعدم قدرته على شرائها. وكم سمعنا عن هذا الأديب أو ذاك الذي كان يجوب الشوارع والأرصفة كي يقرأ المعروض من الصحف والمجلات والكتب خلسة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العلة ليست في انعدام وسائل المعروفة ومصادرها، بل في الرغبة الإنسانية في التنور.
الكثيرون اعتبروا مثلاً أن الثورة المعلوماتية الحديثة بما انتجته من عولمة ثقافية هائلة ستقضي على الأمية الثقافية المرعبة التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية غرباً وشرقاً. لكن هل تحقق هذا الحلم؟ بالطبع لا. فبالرغم من أن شبكة الانترنت تعتبر أعظم فتح ثقافي وإعلامي في التاريخ، إلا أنها لم تساهم كثيراً في رفع مستوى البشرية ثقافياً ومعرفياً. لكن ليس لعلة فيها، بل لأن البشر غير متحمسين كثيراً للتحصيل المعرفي والثقافة، حتى لو أقحمتها على نواظرهم ومسامعهم ليل نهار، وحتى لو وفرتها لهم برخص التراب.
لنأخذ المجتمع الأمريكي مثلاً، فهو أكثر مجتمع في العالم يتمتع بأكبر قدر من وسائل المعرفة، ففي أمريكا مئات القنوات التلفزيونية والإذاعية، ناهيك عن ألوف الصحف والمجلات، ودور النشر والتوزيع. وحدث ولا حرج عن شبكة الانترنت، فحسب الإحصائيات العالمية تزيد نسبة الأمريكيين الذين يدخلون إلى الشبكة العنكبوتية يومياً على خمسة وسبعين بالمائة من السكان، وهي أكبر نسبة في العالم. لكن مع ذلك تجد أن الأمريكيين هم من أكثر شعوب المعمورة جهلاً بأبسط الأمور، إلى حد أن الكثير منهم لا يعرف جغرافية بلدهم. وفي آخر مرة سألت قناة تلفزيونية عدداً من الأمريكيين أين تقع صحراء (نيفادا)، فلم يعرف أي منهم الجواب الصحيح، ناهيك عن أن بعضهم ظن أنها خارج أمريكا، بينما هي صحراء أمريكية كفطيرة التفاح، وتجرى فيها التجارب النووية. وقد زاد الأمر كوميدية عندما قال أحد الأمريكيين إن مصدر الإرهاب في العالم هي إيطاليا.
كيف نفسر هذه الوفرة المعلوماتية الهائلة في أمريكا المقرونة بنسبة أمية ثقافية ومعلوماتية عز نظيرها في العالم؟ ببساطة، فإن السواد الأعظم من الأمريكيين يدخل إلى مواقع الكترونية إما للتسلية أو للمحادثة، بدليل أن أكثر المواقع شعبية هي مواقع موسيقية أو ترفيهية أو رياضية أو للثرثرة وتضييع الوقت. وكذلك الأمر بالنسبة للقنوات التلفزيونية، فأكثر القنوات متابعة هي أيضاً قنوات مسلسلات ومتعة.
وأتذكر كلاماً مهماً قاله إعلامي عربي يعيش في أمريكا رداً على أحد الذين كان يتوقع اختراق المجتمع الأمريكي من خلال إطلاق بعض الفضائيات العربية الإخبارية الناطقة بالانجليزية. فأجابه الإعلامي بأن الأمريكيين لا يتابعون قنواتهم الإخبارية المحلية، فكيف تريد منهم أن يتابعوا بشغف قنوات إخبارية أجنبية. وبرهن الإعلامي على ذلك بقوله إن متابعة الاخبار لا تشكل سوى خمسة بالمائة من مشاهدة الأمريكي العادي للتلفزيون. وهذا الكلام يذكرني بمحاولات بعض الإسلاميين اليائسة جعل الغربيين يدخلون في الدين الإسلامي متناسين أن الغربيين هجروا دينهم المسيحي، فكيف تتوقع منهم أن يدخلوا ديناً آخر؟
وما ينطبق على أمريكا ينسحب على المجتمعات العربية، فهل أصبحت بلداننا أكثر وعياً وثقافة وتنوراً مع بزوغ عصر العولمة والثورة المعلوماتية؟ بالطبع لا. قد يجادل البعض بإن وسائل المعرفة ومصادرها ليست متوافرة للعرب بنفس القدرة المتوافرة للأمريكيين، وبالتالي فالمقارنة ظالمة هنا. وحتى لو سلمنا بهذه الملاحظة، فإن العرب الذين توفرت لهم وسائل العلم والتنوير الحديثة كالانترنت والفضائيات لم يشذوا عن القاعدة، فالغالبية العظمى من العرب تشاهد فضائيات الترفيه والتسلية. وحدث ولا حرج عن الإقبال العربي الرهيب على القنوات التي تبث أفلاماً ومسلسلات أمريكية. أما قنوات التنوير والثقافة فمصيرها الإهمال والموت البطيء وأحياناً السريع جداً.
ولو نظرت إلى المواقع الالكترونية التي يرتادها العرب لوجدت أنها أيضاً من النوع الذي يتابعه الأمريكيون، فالمواقع العشرة الأولى تكاد تكون في معظمها مواقع إما دينية أو ترفيهية أو موسيقية أو فنية أو رياضية. وكم ضحكت حينما سألت شاباً ذات مرة عن المواقع التي يزورها، فقال إنه يستخدم الانترنت للمحادثة والدردشة وإرسال الرسائل الالكترونية فقط لا غير، مع العلم أنه يحمل شهادة ثانوية. وهكذا دواليك!!.
باختصار ليست المشكلة في توافر مصادر المعرفة، بل في استمراء الجهل من قبل الغالبية الساحقة من سكان المعمورة، لا بل الاستمتاع في الغوص في بحر الظلمات!.