بقلم : رشاد أبوشاور ... 7.2.08
إنه القحط والجفاف والظمأ!
هذا ما أيأسنا من شتاء هذا العام، الذي لم يجد علينا سوي بالصقيع والبرد الذي ينخر العظام، ويكبّد الفقراء مزيداً من الأعباء للتدفئة، وكأنما لا تكفيهم الفاقة، والغلاء، والبطالة.
ثمّ كأنما لاختبار صبر الفقراء العرب، تسقط الثلوج علي (الرياض) ، وتمتلئ شوارع (دبي) بسيول لا تحتاجها، هي التي تباهي بنظافتها، وأناقتها، و(حداثة) مبانيها، والتي لم تستعدّ لاكتساح السيول لشوارعها التي أعدّت لأحدث السيّارات، لنري علي الهواء مباشرة غرقها في مياه تحسّرنا علي أنها ذهبت إلي حيث لا يحتاجها الناس هناك.. اللهم لا اعتراض .
وإذ نفد أمل الناس وصبرهم، وقنطوا، فرجت ـ وحسبناها لا تفرج ـ فسقط ثلج غير متوقّع، وصارت الأرض بيضاء من غير سوء، وتكللت المباني، فقيرة متداعية، وفخيمة مقرمدة مداخنها تشّق الفضاء المتلبّد بالغيوم، وندف الثلج الكثيف، مّما يشي براحة البال، والدفء، والتنعّم بلذائذ الحياة في كل الفصول !
فرح الصغار بتراكم الثلج في الطرقات، وعلي الأسطحة، والعتبات، والأشجار، وتراشقوا كرات الثلج، متناسين البرد، وإذ تراكضوا عائدين بعد حفل استقبالهم للثلج، ارتجفوا، وبحثوا عن مدافيء (صوبيات) الكاز و.. وجم آباؤهم وأمهاتهم، فالكاز غال، وسعره في ارتفاع، وهم لا يملكون المال للطعام، ودفاتر المدرسة، فمن أين يأتون بنفقات شتاء بدايته صقيع، وخاتمته ثلوج كثيفة داهمة؟!.
حال المواطن العربي الفقير، وأغلبية المواطنين العرب فقراء ، كالعيس ـ الجمال ـ التي قال فيها الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
المواطن العربي الفقير، جائع، بردان، مهزول، مبدد القدرات، مهمل، وحاله كأرضه العربيّة: فهو مستباح تماما...
قرأت مرارا عن عبثية ما كان يحدث في صحراء العلمين بين المتحاربين في الحرب العالمية الثانية، أولئك الذين كان النفط هاجسهم، في حين كانوا يخوضون معاركهم الضارية فوق حقول وآبار النفط الثاوية تحت جنازير دبابتهم الظامئة للبنزين والديزل!
المواطنون العرب، في البلاد غير النفطية، مستوردة النفط، علي مقربة من آبار النفط ، يسمعون عن ارتفاع الأسعار الجنوني، والأرباح التي بالمليارات التي تكنز في بنوك الغرب، وصفقات الأسلحة التي لا لزوم لها ، والتي هي تدوير أرباح، وهم يرتجفون بردا، وغيظا، وغلاً .
لماذا رئيس فنزويلا شافيز يصدّر نفط بلاده إلي دول أمريكا اللاتينيّة بأسعار تفضيليّة، بينما نحن نرتجف بردا، ونحن أخوة وجيران، ولا تفضيل لنا علي الأجنبي البعيد؟ لماذا شافيز يصدّر البنزين لفقراء أمريكا انطلاقا من أخوّة إنسانيّة، بأسعار تفضيليّة، لكسب ودّهم، وإحراج إدارة بوش المعنيّة بالحروب، لا بالسود، واللاتينيين، والفقراء البيض؟!
المتفرّجون علي غزّة، لم يحرّك قطع الكهرباء عن مستشفياتها، والحليب عن أطفالها، ضمائرهم، فهم يعيشون بلهنيّة، صم بكم عمي.. يستمتعون بالمال سائلاً بين أيديهم، وأرقاما في بنوك أمريكيّة، سويسريّة، أوربية.
غزّة التي حطمّت الجدران واقتحمت الحدود، لأن للصبر حدودا أيضا ، لم تصدم رؤوسهم وعيونهم وضمائرهم منذرةً بانفجارات شعبيّة عربيّة قادمة لا ريب فيها!
شعار الستينات الناصري، ناصر العظيم الذي سيتذكّره ملايين العرب، لا بمناسبة تسعين عاما علي ولادته، بل بعد مئات السنين: بترول العرب للعرب، لم يكن شعارا خشبيّا، فهو حيّ يرزق، يتغذّي من الغضب، لا من الحسد، فالسفاهة في تبديده وحرمان ملايين العرب الفقراء منه، تراكم الغضب في النفوس طبقات فوق طبقات، وعند الانفجار لات ساعة مندم.. ولكم في انفجار غزّة عبرةً يا أولي الألباب.
العربي الفقير، المرتجف بردا في بيته الفقير، كأنه في غرفة تحقيق أمام جلاوزةً يمتهنونه ويتلفون روحه، وهو يكزّ علي أسنانه المصطكة، ولا يجد ما يدفئ به فلذات كبده ، يتساءل: لماذا نعيش في الوحل والجوع والبرد و.. قلّة تبدد ثروات الأمّة، وتحرمنا من البنزين في غزّة للمستشفيات، وتدفن أطفالنا في العتمة (الصهيونيّة) الفاجرة المتحدية للعالم كلّه؟ لماذا بفضل هؤلاء (العربان) لا نجد من يساعدنا سوي الحمير؟!.. بينما هم يتباهون بسيارات ليكسوس ، و..الطائرات الخّاصة الناقلة للمتع والملّذات ؟ لماذا أحدهم يوصي علي طائرة هي قلعة فيها مسبح ، وناد ليلي، و.. ما لذّ وطاب، تتكلّف عشرات الملايين؟!
يقتحم ثري نفطي السماء بقصره الطائر، بينما علي الأرض يقتحم فلسطينيو غزة الحدود ليتعانقوا مع أهلهم في مصر، ليعودوا بعلبة حليب، وجرّة غاز، وحبّات دواء، وكيس طحين!
لماذا غاز مصر المحروسة يضخّ للكيان الصهيوني، ويعبر من خاصرة غزّة ؟!
هل نحن أخوة حقّا؟! نعم، أخوة مع شعب مصر، وكل شعب عربي، لأنه ليست اللغة، والتاريخ، وأحلام المستقبل الذي لم يشرق بعد ، تجمعنا، فحسب، ولكن فوقها ظلم هكذا حكّام، وحكومات، وشرائح حاكمة عشائريّة، فالحقد عليهم يضيف عنصرا قويّا لعوامل وحدتنا، فهم في كل آن يذكروننا بأنهم العامل الرئيس في ضعفنا وبؤسنا!
عذرا للقرّاء، كنت ارغب في كتابة مقالة ساخرة، تنتزع الابتسامات منهم ، والابتسامات أقصي الطموح، فالإضحاك ليس مهنتي ـ يرحم الله الماغوط ـ ولكنني ما أن بدأت في الكتابة حتي تجهمت، وخيّل لي أنني أدلي بشهادتي أمام محكمة غير منظورة، وأنا ارتجف إذ أسوق أمامها بعض وقائع عذاب الإنسان العربي الغريب في وطنه، المسروق العمر، والحقوق، والذي يعطي ولا يأخذ، فكأنه في بلاد تديرها عصابات تشليح، لم تبق عليه كساء، ولا في عروقه عافية، فهو خائف من اليوم وبكره وبعده.
سقط الثلج فشكرا لله علي نعمته، وها هي الشمس تشرق لتدفئ عروقنا التي تجمّدت، فالثلج فرح في بلاد الآخرين الذين يصدّر لهم نفط (العرب).
الثلج موسم للتزلّج والبهجة والاحتفالات برأس السنة، والسنة عندنا لا رأس لها ولا ذنب، فهي سنة عربيّة مشوهة، لا زمنيّة، أيّام متشابهة حكمنا بها، نقضيها كالمحكومين بالإعدام ، فصولها فصل واحد لا مسرّة فيه ولا طمأنينة.
أشرقت الشمس، وذاب الثلج، فبدأ الدفء يدّب في العروق، فحمدنا الله علي تقديره، فنحن نعيش بعلاً، نسبة للإله الكنعاني (بعل)، الذي كان يرسل المطر، فيزرع الفلاّحون مواسمهم بعلاً، حسب ما يقدّره الغيب فلا تخطيط ولا تدبير، وهكذا فنحن نعيش (بعلاً) منذ أسلافنا الكنعانيين حتي يومنا هذا...
أما سمعتم فلاّحي بلادنا وهم يرددون بحسرة إذا ما سئلوا عن أحوالهم: نحن نعيش بعلاً!
في مسرح (العمّال) بدمشق، وأنا أسمع لذعات محمّد الماغوط الكاوية، بأداء دريد لحّام، في مسرحيّة (كاسك يا وطن)، وذلك النشيد الختامي المتفجّع القابض للنفس، لا بكلماته، ولكن بما خلف تلك الكلمات من لوعة علي وطن نحن غرباء في (ربوعه):
باكتب اسمك يا بلادي عالشمس المابتغيب
لا مالي ولا عيالي علي حبّك مالي حبيب
... ... ...
كازك يا وطن !
يا وطنا ينهب، يا وطنا خيره لغيره
يا وطنا يبدد السفهاء ثرواته
كازك.. ولك كازك يا وطن !