بقلم : رجاء بكريّة ... 15.2.08
*هي تأتي من هناك، والشّوق يأتي من هناكها أيضا. كم هناك لصوتها لا أعرف! لكنّه صوتها يكتب في مفكّرة القلب عن كلّ هناك حكاية، وأنا امرأة متورّطة مثلها أو أقلّ بشوق الحكاية.
"ظلّت النّساء محورا للحكايا الّتي أنبشها ، وأخبّئها في صوتي حتّى يحين الوقت" ، قالت لي وابتسمت ابتسامتها المحيّرة الّتي لا تستقرّ على رغبة واحدة . ابتساماتها كحكاياها محيّرة. تستطيع أن تتأمّلها دون أن تعلّق ، لأنّك لا تعرف تماما أيّ رغبة تريد، وهي تحدّثك، أن تستولي عليها.
أردت أن أقول لها حين التقينا أنّني كلّ أسبوع أعلّق أغنياتها في خزانة الملابس كي يعطّرها النّعنع، أحبّ هذه النّبتة لأنّها تذكّرني بطفولتي في القرية. كانت أمّي تكثر من هذه الأغنية وهي تطبخ، ولسبب ما لم أفهم جيّدا لماذا تغنّيها بكثير من الألق والود. أذكر أنّها بعد أن تنتهي من فرم البندورة والبصل ترسلني بصوت يضجّ خضرة ويفوح عطرا إلى بيت عمّي، لقطف بعض النّعنع كي تطيّب به صلصلتها. ولا أذكر أنّني مرّة واحدة توقّفت عن الإحتجاج على النّبتة الّتي لا تكبر أمام الدّرج، درج بيتنا. كانت أمّي تضحك أو تغضب وفق مزاجها ونعناعها في ذلك اليوم، "دار عمّك زارعينها تحت الحنفيّة، كلّ المي بتنزل عليها" تعلّق وتسترسل لأغنيتها. أثيرها حين أصرّ أنّ عليها أن تنقلها كما فعلوا دار عمّي تحت الحنفيّة مباشرة، وأضيف أنّ بيت عمّي ليس أحسن من بيتنا أو حنفيّتنا. هذه هي حكايتي مع النّعنع البلدي قديمة لكنّها لا تزال فوّاحة، وبكثير من السّهولة تعيدني إلى الأحواض الخضراء أمام الدّرج.
لكنّ لنعناع أمل حكايا كثيرة. لم أخبرها بما فكّرت به تماما، بل ادّعيت على لسان مخيّلتي الجامحة دائما أنّ الأشواق المنتظرة في خزانة ملابسي كانت تنتظر أغان كأغنياتها ترشّها بالعطر ! ضحكت يومها، كأنّني استطعت بتلقائيتي الغريبة أن أخترع ضربا جديدا من الكذب الأبيض الّذي يعجب الأصدقاء حين يلجأون إلى المناورة. فاجأتني حين اكتشفت كذبي، أنت لا تشبهين الفلّاحين، ومن المستبعد يا عزيزتي أن ترشّي شالك بالنّعنع، بل بماركة ربّما ليست متداولة في اللّغة الفلّاحيّة. ناكفتها، يخيّل إليك فقط. بين إصراري ولسعها تراشق كلامها، لكنّك امرأة تمتهن كتابة العطر، تعالي نتّفق، "أنتِ تكتبينه وأنا أغنّيه"، بهذه الجملة الصّبيانيّة أعادتني إلى صوتها.
هكذا تغنّي أمل بمثل ما تحكي، وتسحرك بحكايا جدّتها البعيدة. من أين نهضت هذه الجدّة غريبة الأطوار الّتي شكّلت ذاكرة أمل الطّقلة. أهي ككّل الجدّات اللّواتي نعرفهنّ؟ لن تفصح عن ذلك بتلك السّهولة، لكنّها تعلن دون تحفّظ أنّها تتناقل أدوار جدّاتها التّاريخيّات واحدة بعد الأخرى، كأنّ الذاكرة الجماعيّة لرتل طويل من الجدات يخرج هو الآخر من صوتها كي يصنع صورة ممكنة لتاريخنا الطّويل مع الحزن. نعم لصوتها حنجرة نادرة، لا تشبه ما سمعته عند مغنيات أخريات. لكلّ مغنية حنجرة. لكن خبرتها مع الرّوح ستحدّد تجربتها، وأنا شخصيّا أعتقد أنّ الحنجرة الّتي لا تملك تجربة مع أبعاد الرّوح لا يمكن أن ترسم فرادة أو تسجّل حالة استثنائيّة. ونحن في محيطنا الضيّق هنا نفتّش دائما عن هذه الحالة الإستثنائيّة، وسوف أشير بكثير من الثّقة إلى استثنائيّة الحنجرة لدى أمل، الّتي تستطيع أن تُبكي وتُضحك، تُحزِنُ وتُفرح. ويمكن لها أن تفتح سجلّ القلب على مصراعيه بحالات ألقه وانتكاسه.
تجربتي مع صوت أمل بدأت متأخّرة. ولأنّني لا أميل إلى المهادنة مع الألوان الفنيّة الّتي أذهب إليها أو تأتي إلي حاولت أن أكون موضوعيّة ما أمكن حين أُعلن أنّها ملكتني برائحة صوتها. لصوتها رائحة تتعبّأ القلب وكلّ جيب في جسدك فارغة من الذّاكرة. لم أملك وأنا أسمعها غير التحيّز لنعناعها وشفافيّة حسّها. مخزونها من الحسّ يعمي الرّوح، يضربها بيقظة قلب سريعة، لكن موجعة. هكذا تغنّي تماما بمثل ما يهلّل الشوق لحب غائب، ويعنّ الفراق خلف شوارع بلا ملامح. نحلها حينذاك لا يعرف كيف يصنع عسلا بل عوسجا في مرايا الدّمع.. هكذا تغنّي.. "والصبر يا مبتلي والصّبر يا أيّوب، والصّبر جبتو معي حتّى ينمحي المكتوب. والصبر جبتو معي من يوم هجرتنا، وحجارة الدّار، يا يُمّة، تبكي فرقتنا! ودمعي على خدّي شبه السّيل حابس، وشبه السّيل بالوديان حابس!
وأنا حين تقول لا أميّز مثل كثر يسمعونها أيُّ مكتوب سيمحو الصّبر! ولأنّني مثلهم أغنّي خلف صوتها معها، وأرسم خلف عيني شريط الهجر والهجران والفقد. بمثل ما أسترجع قصصي السّريعة والموجعة أعود إلى حكايا تاريخنا، قرانا ومدننا المجبولة بمفردات الحزن. لا تسألوني كم أغنية رَسَمْت، وكم وجه مَحَوْت. كم قطفت من نعناع الحقل الّذي يحتفظ بطراوته في حوض بيتنا، لكن من الممكن أن يسألني من يشاء كم أستطيع أن أقاوم وجهه الّذي ينبت دون سؤال خلف أكمة النّعناع الّتي تكبر إلى جانب صبّارته العالية. خلف أغياتها الحانية تتّسع حدود الذّاكرة وخفق القلب في ملاعب الشّوق، إنّها تصنع لألحانها مشاوير عبقة بوله الحكاية. قال لي الورق الّذي يعطّر القلب بالشّوق إلى الضّوء أنّ النّعناع حين يكبر سيبتلع حقول الجيران، فلا تقتربي لئلاّ يبتلعك أنت أيضا!
فكّرت طويلا بهذه الوشاية، ومعها حسبت تناسب الصّح مع الخطأ، ومع الصّحيح الكثير والخطأ الكثير أيضا اخترت المجازفة. لم أعرف أحدا ابتلعته نعنعة! وخضراء يانعة كالّتي يسقيها ذهاب أمل إلى الطّفولة!