بقلم : د. خالد الحروب ... 27.3.08
ربما "أشفق" البعض مؤخراً على موظفي البروتوكول في رئاسة الوزراء الإسرائيلية ووزارة الخارجية وسائر المحطات الإسرائيلية التي يقصدها قادة "العالم الحر" الذين يتوافدون على تل أبيب هذه الأيام. فخلال أسبوع واحد تقريباً تتابع على تل أبيب المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل ثم المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية جون مكين ثم ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه. الأولى لا نعرف "حكمة" توقيت زيارتها الحصرية وإهمالها العنصري لفلسطين والفلسطينيين وكأنهم غير موجودين اصلاً. والثاني جاء مُبشراً بعهد جمهوري، في حال فوزه، لن يكون أفضل إن لم يكن أسوأ من عهد جورج بوش، مزايداً على ليكودية الليكود ويمينية اليمين إن في مسألة "القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل" أو ترقية "أمن إسرائيل" لمرتبة "المقدس" أو غير ذلك من أقانيم التسيس اليميني الإسرائيلي. أما ديك تشيني فهو الآخر مر بـ "العتبات المقدسة" ليؤكد لنا أن واشنطن لا تفكر ولن تفكر بالضغط على إسرائيل في شؤون تراها هذه الأخيرة ذات علاقة بأمنها. وفي هذا بطبيعة الحال ضوء أخضر مدهش يمنح تل أبيب حرية تصنيف "الشؤون والقضايا" وإدراجها كلها أو معظم ما تشاء منها تحت بند "الأمن". ويتوقع كثيرون أن تشهد الأسابيع القادمة زيارات باراك أوباما وهيلاري كلنتون أيضاً لإسرائيل إمعاناً في التأكيد على أن الطريق إلى البيت الأبيض تمر بتل أبيب.
سيُقال إنّ من حق أي مسؤولٍ كان غربيا أم غير غربي أن يزور إسرائيل وفي الوقت الذي يشاء، فهذه علاقات دبلوماسية بين دول ذات سيادة. لكن مقولة سمجة كهذع تفترض أن إسرائيل دولة عادية مثلها مثل فنلندا، وليس بينها وبين الشعوب والدول المجاورة لها صراعات وعداوات وحروب. وتفترض أن ليس هناك شعب اسمه الشعب الفلسطيني ما يزال تحت الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي ومقطوعة به السبل عن صوغ مستقبله بحرية واستقلال بسبب ذلك الاحتلال. والتظاهر الغربي بـ "عادية" تبادل الزيارات مع إسرائيل خاصة في توقيتات بالغة السوء والإهانة للعرب والفلسطينيين هو تظاهر لا يعكس غباءً ولا سذاجة، بل احتقاراً وعنصرية للعرب والفلسطينين. وعندما يهب هؤلاء المسؤولون الثلاثة متنافحين دفاعاً عن "أمن إسرائيل" وهي التي تهدد أمن كل جيرانها مجتمعين، ولا يظهرون عشر معشار ذلك التنافح إزاء أمن ملايين الفلسطينيين فلا يكون هناك أي تفسير لذلك سوى العنصرية.
وهنا فإننا نريد أن نعرف وبوضوح كامل كفلسطينيين وكعرب وكبشر عاديين قبل هذا وذاك إن كان دم الفلسطيني مساوياً في الأهمية والاعتبار لدم الإسرائيلي. ولعله من المفيد تقديم مشروع باسم أي مجموعة من الدول التي تؤمن بالمساواة بين البشر في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناقشة هذه القضية "المعقدة": هل دم الفلسطيني وأمنه يساوي دم الإسرائيلي وأمنه، أم نصفه، أم رُبع، أم عُشره؟ هل ألوف الضحايا الفلسطينيين من تاريخ الانتفاضة الثانية على الأقل يتمتعون بقيمة وأهمية تساوي مئات الضحايا الإسرائيليين؟ ولماذا تتم ترقية الضحية الإسرائيلي إلى مراتب عليائية بينما لا يحفل أحد بالضحية الفلسطيني؟ صحيح أن مثل هذا الجدل في قيمة الدماء وقيمة الضحايا ينحدر بإنسانيتنا جميعاً، وفيه من القسوة والبلادة البشرية ما فيه، لكن هذا الانحدار هو انعكاس للانحطاط الأخلاقي الفاضح للسياسات الغربية إزاء فلسطين، وإزاء تأييدها الأعمى لإسرائيل.
كما أن ذلك الانحطاط المذكور بالغ التعدي في نتائجه وما يخلق على الأرض من وقائع. فهو عملياً يشكل البنية التحتية الصلبة لكل ما ينشأ في المنطقة من تيارات تطرف. فكيف يُمكن، مثلاً، أن تُرى هذه الزيارات المتلاحقة المتنافسة في تأييد إسرائيل وإبداء الحرص على أمنها وجيشها كان قد ولغ مؤخراً في قطاع غزة فقتل ودمر وأباد؟ كيف يُراد لأجيال من الشبان العرب وغير الشبان أن يبلعوا الإهانة تلو الإهانة ويتحلوا بـ "الرشد والحكمة" وهم إذ يتطلعون حولهم فلا يشاهدون سوى احتلالات أجنبية تنافس احتلالات أجنبية أخرى لبلدانهم، وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي؟ وكيف في المنتهى يمكن لتيارات الاعتدال والوسطية أن تقف على أقدامها في أجواء مسمومة كهذه؟
إن الحقيقة الكبيرة التي لا يمكن تجاوزها في منطقتنا، سواء تغافل عنها من تغافل، أو همشها نظرياً من همشها، أو قدم عليها تفكيراً رغائبياً من قدم، هي أن المسألة الفلسطينية تظل جوهر الصراع والتوتر في المنطقة، وهي الجذر الأخطبوطي الذي يمد أذرعه هنا وهناك. هي السبب الحقيقي وراء نشوء اتجاهات سياسية، وقيام أحزاب وتنظيمات، وتبلور راديكاليات. وهي المسوغ الذرائعي لبقاء أنظمة وديكتاتوريات، وفشل مشاريع عالقة برسم التنفيذ في الحريات العامة والديمقراطيات وسوى ذلك. ليست فقط المشكِّل الأساسي والكبير لكل ما يتولد على الساحة الفلسطينية، بل قد استخدمت، وتُستخدم، لهذه الأجندة أو تلك، ماضياً وراهناً... ومستقبلاً. من صدام حسين إلى أحمدي نجادي إلى أسامة بن لادن وإلى كل "محرر للأمة" سوف يطلع علينا غداً أو بعد غد ستكون القضية الفلسطينية هي الراية الجاذبة، وستكون مواجهة الاحتلال الإسرائيلي هي كلمة السر التي ما عادت سراً لكن ما زالت شعوب المنطقة لا تريد إلا أن تقتنع بكل من يكررها ويتلفظ بها.
لا ينافس فجاجة السياسة الأمريكية والأوروبية الرسمية إزاء القضية الفلسطينية إلا تفاهة السؤال الاستغبائي: لماذا يكرهوننا، خاصة عندما يُصاغ بتساذج ممجوج. وهو التساذج الذي نقده وفككه كثير من النقاد المنصفين هنا في الغرب عندما كتبوا كتباً حملت عناوين "لماذا لا يكرهوننا؟". فما يحدث في هذه البقعة من العالم وتحديداً في المسألة الفلسطينية يُخرج عُتاة المعتدلين من اعتدالهم، ويرصف الطريق رصفاً لكل تيارات التطرف.
لا يعني كل ما سبق تبرير أي مظهر من مظاهر الجنون الراديكالي، وخاصة البنلادني أو الظواهري أو الزرقاوي، ما اقترب منه من الملف الفلسطيني أو ابتعد. فذلك الجنون هو الحليف الموضوعي لجنون السياسة الغربية والمساعد الأكبر لها والمسوغ لكل ما تفعله والمعزز لأقنوم الأمن الموهوم الذي صار "قدس الأقداس" في نظرة الغرب لإسرائيل. بل كل ما سبق عنوانه جنون السياسة الغربية وابتعداها المطبق ليس فقط عن أية منظومة قيمية أو معيارية في مقاربة مسألة فلسطين، بل وابتعادها أيضاً عن أي منظور مصلحي وبراغماتي وواقعي. فعوضاً عن مجابهة أُس مشكلة التطرف والعداء مع الغرب وهي قضية فلسطين لا يملك المرء سوى الشعور بخليط المرارة والسخرية عندما يُطالع "البرامج والمشروعات" الموسعة في طول وعرض المنطقة مما تدعمه الدول الأوروبية وحتى الولايات المتحدة التي تركز على "بناء المجتمع المدني" و"تعزيز ثقافة الديمقراطية والسلام" وسوى ذلك من أجندات. وسواء أكان هو الغباء أو الاستغباء، فإن التطرف سيظل الظافر الأكبر هنا إلى ما شاء الله.