بقلم : د.فيصل القاسم ... 7.4.08
ابتليت الساحة الإعلامية العربية بثلة من «المفكـّرجية» والمتفلسفين والمتسلقين والمنظــّرين والمتثاقفين العلاكين الذين لم يعد لهم هم هذه الأيام سوى محاربة الإعلام السياسي الجماهيري في السر والعلن، وشيطنته، وتسخيفه، والتحريض بطرق رخيصة ومكشوفة، على نجومه، وضيوفه وأساليبه، والدعوة إلى اقتلاعه من جذوره، كي تخلو لهم الساحة وحدهم دون غيرهم (قدّس الله سرّهم) ليتحفونا بنظرياتهم «الفلسفجية، الفكرجية» في السياسة والاجتماع و«البتاع». ولو نظرت إلى حجج ودعاوى هذا الرهط الحاقد والبائس من أعداء الإعلام الحقيقي لوجدتها واهية، وسخيفة، وكيدية، وصبيانية، ومدعية، وجاهلة بألف باء الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيرية.
إن أول تهمة يسوقها أحد «جهابذة» هذا التيار «الفلسفجي» الممجوج للإعلام السياسي الجماهيري هو أنه إعلام «شعبوي» جدير بالتصفية البارحة قبل اليوم. ولو درس هذا «المفكراتي» أو غيره من «بتوع الثقافاواتية والتفلسف الحنكليشي الشمشميشي البشاريشي» أبجديات الإعلام لواجهه مصطلح بسيط لا بد لكل من دخل المجال الإعلامي أن يعيه، ويفهمه، ويسير على هديه. إنه مصطلح الـ «Mass Communication» ، أي «الاتصال الجماهيري». بعبارة أخرى لا قيمة لوسائل الإعلام أياً كانت، إلا إذا حققت الغرض الأهم من وجودها، ألا وهو الوصول إلى أكبر شريحة من المشاهدين، والقراء، والمستمعين، وإلا لما كانت هناك حاجة بالأصل إلى إطلاقها والإنفاق عليها.
إن فلاسفة الإعلام الحقيقيين في الغرب الذي سبقنا في هذه المجال بعقود وعقود، يصرون على أن يتصل الإعلامي، ويؤثر بالسواد الأعظم من الناس، إذا كان إعلامياً ناجحاً فعلاً، وأن يبتعد عن النخبوية والتقعر والتفلسف السخيف، فلو كان الإعلام موجهاً للنخب من أساتذة فلسفة كانطية، ونيتشية، وسقراطية، وهيغلية، وماركسية، وفلهوية كلامنجية، لكانوا ببساطة أطلقوا عليه «الاتصال النخبوي»، أي «Elitest Communication»، لكنه ليس كذلك، بل هو موجه للعموم، أو بالأحرى لـ«الشعبوية» الذين لا يفقهون لغة الفلسفة المقيتة ومفرداتها «الانسخاطية» التي يتحفنا بها بعض أعداء الإعلام السياسي الجماهيري، الذين، وللأسف الشديد، بدأوا يجدون طريقهم إلى الإعلام العربي بطرقهم الملتوية القائمة على الدسيسة والكيدية والفوقية والعجرفة الفارغة، ولا عجب فليس أمامهم من وسيلة للظهور إلا عبر النيل من الذين يتقنون فن التواصل بالجماهير والتأثير بها والفوز بمحبتها وثنائها، والتحريض عليهم لعلهم يحظون بنزر بسيط من نجاحهم وجماهيريتهم وشعبيتهم.
أحياناً ينتابني شعور بالضحك المجلجل وأنا أرى أستاذ فلسفة لا يستطيع أن يؤدي دوره في قاعات المحاضرات بالجامعات لشدة بؤسه الأكاديمي وطريقته المملة، وفوقيته المقيتة، وجفاف أسلوبه، وخلوه من أي إحساس وروح، وهو يتفلسف علينا من على شاشات التلفزيون حول مختلف القضايا الفكرية، والسياسية، المحلية، والإسرائيلية، واللاتينية، والأمريكية، والبدوية، والهيغلية، والعسكرية، و«الشنكليشية».
بإمكانكم أيها «الفلاسفجية» أن تأخذوا الحصان إلى الماء، لكنكم لا تستطيعون أن تفرضوا عليه أن يشرب. وكذلك الاتصال الإعلامي بالجماهير، فبإمكانك أن تظهر على عشرات الفضائيات، وتتفلسف ليل نهار في كل المواضيع، وبإمكانك أن تكتب مئات المقالات في مئات الصحف والمجلات، وبإمكانك أن تلقي عشرات المحاضرات، وتدخل عشرات القصور الملكية والجمهورية، وتلعب على ألف حبل وحبل، لكنك ليس بإمكانك أن تحظى باهتمام عشرة أشخاص من القراء، والمستمعين، والمشاهدين. فهذه الحظوة لا يملكها سوى العارفين والقادرين على الاتصال بالجماهير بلغتهم الإعلامية البسيطة، وأفكارهم السلسة والصادقة، وحركاتهم الطبيعية، وحيويتهم العفوية، لا الفلسفية الممجوجة والمصطنعة والمتعالية.
وأتذكر أن إحدى القنوات البريطانية الشهيرة أرادت قبل فترة أن توظف سياسياً أمريكياً متفلسفاً ليقدم برنامجاً حوارياً على شاشتها، وأعطته راتباً دسماً ظناً منها أنه سيجذب ملايين المشاهدين، لكن عدد المشاهدين الذين شاهدوا برنامجه في الأسبوع الأول لم يتجاوز المائة ألف مشاهد، وفي الأسبوع الرابع انخفض العدد إلى أقل من عشرين ألفاً، مما حدا بالقناة إلى وقف البرنامج فوراً. فليست العبرة بأن تكون فلهوياً كي تصل إلى الناس، وتؤثر بهم، فما بالك إذا كنت مصاباً بالعنجهية الفلسفية! ليت هؤلاء المتفلسفون يعرفون فقط حقيقة إعلامية بسيطة جداً، وهي أن قيمة أي برنامج تلفزيوني حواري في العالم تــُقاس بعدد مشاهديه. ولا قيمة لأحسن برنامج تلفزيوني «أكاديمجي» فلسفي و«حضاري» مزعوم لا يشاهده غير صاحبه وزوجته وربما أولاده على مضض.
وكي لا نذهب بعيداً، هناك بعض الأشخاص الذين يظهرون على الشاشات العربية بصفتهم «مفكرين كباراً» «عمـّال على بطـّال»، فلا تفتح قناة إلا ويظهرون في وجهك، كما يظهر الممثل المصري حسن مصطفى في الأفلام المصرية، فلا يكاد يخلو فيلم في السنوات العشر الأخيرة من ظهور مصطفى فيه. لكن مع ذلك، لم يصبح الممثل القدير، مع كل الاحترام له، نجم شباك. وكذلك الأمر بالنسبة لمقتحمي الشاشة السياسية من متفلسفين ومتفذلكين و«مفكرين» متعجرفين.
متى يعلم أولئك المتفلسفون الذين يحرضون على الإعلام الجماهيري أنه حري بهم أن يتعلموا أساسيات المهنة أولاً، وأن يعوا أن قدرتهم على استخدام تعابير وعبارات ومعلومات فنتازية «خنفشارية» لا تعني بالضرورة أنهم جديرون بأن يتقدموا الصفوف الإعلامية، وأن يحتلوا الشاشات؟ ليتعلموا أولاً أن المدرسة التلفزيونية الفرنسية تعرّف التلفزيون على أنه مجرد «spectacle» ، أي عرض واستعراض، ومن لا يتقن لعبة العرض والاستعراض التلفزيوني، ويريد أن يستبدلها بـ«حكاوي» المثقفين والمتفذلكين والمتفلسفين، فهو إما جاهل بأبجديات اللعبة الإعلامية أو يتجاهل. فحتى البرنامج الحواري السياسي في المفهوم التلفزيوني الفرنسي يجب أن يخضع للعرض والاستعراض، وحتى الإثارة، وإلا فقد قدرته على الاتصال بالجماهير ومخاطبتها والتأثير فيها.
وإذا كان العلاكون الجدد لا يؤمنون بالمدرسة التلفزيونية الفرنسية، فأحيلهم إلى المدرسة التلفزيونية البريطانية والأمريكية. فقد اخترع الأمريكان مصطلحاً إعلامياً جميلاً وهو مصطلح «الشو بزنس»، أي فن العرض والاستعراض التلفزيوني، فبالنسبة للمدرسة الأنغلو ساكسونية، كل عرض يـُقدم على الشاشة هو نوع من «الشو بزنس»، حتى لو كان برنامجاً سياسياً حوراياً، أو ندوات تلفزيونية جادة تضم سياسيين وخبراء ومحللين وصحفيين. فالتلفزيونات الأمريكية تعرض برامج سياسية ساخنة وحادة وفوضوية تبدو بعض برامجنا العربية بالمقارنة معها مجرد «لعب عيال».
ولا يكتفي الأمريكان بتطبيق نظرية «الشو بزنس» على البرامج التلفزيونية، بل يستخدمونها أيضاً في العمل السياسي ذاته، فالحملات الانتخابية في أمريكا تبدو أقرب إلى العرض والاستعراض والإثارة التلفزيونية منها إلى مناسبات سياسية جادة. وكثيراً ما يحسم بعض المرشحين فوزهم في الانتخابات القادمة من خلال الحملات الدعائية «الشو بزنسيّة» الملعوبة بمهارة وفن. فهل يجب أن نخجل من «شو بزنسة» البرنامج التلفزيوني السياسي في التلفزيونات العربية إذا كان الأمريكان يطبقون نظرية «الشو بزنس» في السياسة نفسها؟
إن أولئك المتحذلقين العرب يريدون أن يتحول التلفزيون على أيديهم إلى «مونولوج يلقي فيه من يعرف، من علياء علمه بفتات معرفته للمتسول السلبي». وهذا يعود بنا إلى العصور الإعلامية العربية الظلامية التي كانت عبارة عن محاضرات تعبوية ممجوجة مفروضة ممن يدعي العلم على جموع المشاهدين. أما البرامج التلفزيونية الحوارية العربية الجديدة التي لا تروق لبعض المتفلسفين فهي تنقل لنا «الحياة بزخمها، بصراعها، بعنفها، بصراخها، بضوضائها، بصخبها، بقسوتها، ببذائتها، وأيضا بآمالها، لأن وراء المعركة الشرسة بالكلمات تسليماً ضمنياً بأن هذا العنف بالألفاظ، بديل ولو مؤقت للعنف بالسكاكين والقنابل...وهنا لا مجال للمونولوج الباهت، وإنما للحوار الساخن. وبالطبع فإن قوام الحوار هنا هو: السؤال الاستفزازي، وهو منذ سقراط أهم وسيلة لتفتيت المفاهيم...لتعريضها للمطرقة للتأكد من صلابتها...لوضعها تحت نار التشكيك حتى لا نـُخدع مرة أخرى بخصوص الذهب المزيف الذي يفرضه علينا منذ قرون الكاهن وفقيه السلطان والقوميسار السياسي والمتحذلق المتفلسف لمزيد من إحكام سيطرة أسيادهم علينا».
معاذ الله أن يكون هذا النقد موجهاً إلى كل المفكرين والمثقفين والأكاديميين، فالسواد الأعظم منهم أناس أجلاء يغْنون الشاشات العربية وبرامجها الحوارية بعلمهم وفكرهم، خاصة أن معظمهم أصبح يجاري الثورة المعلوماتية في التفكير والطرح والأسلوب. إن الكلام أعلاه يخص فقط رهط «المفكرجيين» و«الفلسفجيين» المرضى، الذين نتوسل إليهم أن يلتزموا أماكنهم، وأن يتوقفوا عن إقحام أنوفهم فيما لا يعنيهم، وأن يتعلموا أن ما يصلح لمخاطبة بعض المريدين والأتباع والأزلام داخل الغرف المغلقة،لا يصلح أبداً للاتصال والتواصل الإعلامي مع الجماهير العريضة بأطيافها المختلفة، هذا إذا كانت حملتهم ضد الإعلام الجماهيري صادقة أصلاً.