أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الضرب بالحذاء عجزٌ، وبالنار إرهاب، بماذا نضرب؟

بقلم : د. فيصل القاسم ... 5.1.09

ابتليت الساحة العربية برهط من الكتاب والمثقفين الذين يغلفون حقدهم وكراهيتهم لأمتهم وعمالتهم الدنيئة للعدو، أمريكياً كان أو إسرائيلياً، أو أياً كان، بمواعظ ومقالات يسمونها "عقلانية" و"حضارية"، وهي أبعد ما تكون عن العقلانية والحضارة. فليس من المعقول أن يكون الكتبة الذين باعوا أنفسهم وأقلامهم للغزاة والمستعمرين ووكلائهم في الداخل العربي بقشرة بصل، ليس من المعقول أن يكونوا حضاريين أو عقلانيين بأي حال من الأحوال، خاصة إذا كان تاريخهم مجرد سلسلة مفضوحة من التقلبات الفكرية والأيديولوجية، فمرة هم يصفقون للينين وماركس وأنجلز، ومرة للثورة الخمينية، ومرة للمحافظين الجدد ورئيس عصابتهم جورج بوش وشركاه. ليس من حق هؤلاء المرتزقة والمتقلبين المفضوحين أن يعظونا ويعلمونا الحضارة والإنسانية. صحيح طبيب يداوي الناس وهو عليل. إن مثل هؤلاء مثل المومس التي تحاضر بالشرف تماماً.
فقد أمطرها هذا الرهط السخيف من المعلقين بأعمدة وتعليقات ممجوجة حول حادثة ضرب الصحفي العراقي الزيدي المنتظر للرئيس الأمريكي جورج بوش بـ"الصرماية"، لكنهم يصمتون الآن صمت الحملان في وجه الهمجية الإسرائيلية الفاشية في قطاع غزة.
ولعل أكثر فكرة برزت في كتابات هؤلاء هي ضرورة التعامل الحضاري والإنساني مع الآخر ممثلاً بمرشدهم الروحي جورج بوش. فقد اختصر معظم الذين تناولوا الحدث من الرهط "الليبرالي" الجديد وصفهم لفعلة الزيدي بأنها "عمل همجي غير حضاري... فالأكيد أن من يصفق للصحفي، الذي أساء إلى المهنة إلى حد كبير كما أساء إلى النظرة إلى الصحفي العربي عموماً، لا علاقة له لا بالسياسة ولا بالحضارة.. وعاجز عن التعاطي مع أي قضية مطروحة بطريقة حضارية.. من المخجل حقاً أن يقوم صحفي باستبدال قلمه بحذائه، ومن المؤسف أن يهلل الجهلة، بمن فيهم من يدَعون الثقافة والمعرفة والعلم، بفعلة تنم عن سوء أدب وعدم تقدير للمواقف وعدم احترام للآخر".
تصوروا أن قذف الرئيس الأمريكي بفردة حذاء لا يمكن أن تقتل فأراً، أصبح في عرف هؤلاء الأفاقين فعلاً همجياًً خطيراً. يا الله لماذا وصل النفاق والكذب والتدليس والسفاهة الصحفية إلى هذا الحضيض؟ أيعقل أن هذا التصرف البسيط الذي قام به صحفي عراقي أعيد بلده إلى العصر الحجري على أيدي بوش وهمجيته العسكرية غير المسبوقة تاريخياً، أيعقل أن يغدو فعلاً همجياً، بينما ما قام به المغول الجدد في العراق وغزة فعل حضاري؟ فعلاً هزلت! هل يعقل أن تكون لقمة الخبز بالنسبة لهؤلاء المعلقين السفهاء غالية إلى حد أنهم مستعدون أن يقولوا إن لون الثلج أسود؟
أين كانت أقلامكم "الحضارية" و"العقلانية" عندما كانت صواريخ كروز وطائرات البي اثنين وخمسين والقنابل العنقودية الفوسفورية الحاملة لليورانيوم المنضب وغيره تنهمر فوق رؤوس ملايين العراقيين؟ أين أقلامكم الآن من العدوان النازي على غزة؟ لماذا استفزتكم ضربة حذاء، ولا تستفزكم إبادة الشعب الفلسطيني في القطاع السليب؟ لماذا أزعجكم ضرب الرئيس الذي وصفته وزيرة العدل الألمانية بـ"هتلر العصر" بقندره، ولم يزعجكم أن ذلك الهتلر الجديد أباد من العراقيين أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، ناهيكم عن ملايين المشردين، وتدمير البنية الفوقية والتحتية لوطن بأكمله؟ هل هذه هي الحضارة والعقلانية التي تدافعون عنها، وتريدون منا أن نحذو حذوها؟
ثم لماذا هذا التناقض الفاقع في كتاباتكم أيها "الحضاريون والعقلانيون"؟ فمرة تعتبرون ضرب بوش بالحذاء فعلاً همجياً، ومرة تعتبرونه نوعاً من الإفلاس والعجز العربيين. لقد احترنا معكم. أرجوكم أن تحددوا وصفكم، فلا يمكن أن يكون الفعل همجياً وتافهاً في آن معاً.
يقول أحد وكلاء هذا الصنف الساقط من الكتابات إن فعلة الزيدي المنتظر ليست أكثر من "بطولات عربية زائفة.... فقد أصبح حذاء منتظر رمزاً للانتصارات العربية الزائفة التي تعودنا عليها طيلة السنوات الخمسين الماضية". ويقول أحد كبارهم الذي علمهم السحر والتقلب على الحبال إن "الاستقبال العربي لفعلة الزيدي نقلها من رمزية مفترضة إلى ملحمية بائسة يشي بؤسها ببؤسنا وينمّ عنه..... فحين يُكتب أن "38 مليون حذاء صفعت بوش على الانترنت"، فتأويل ذلك أن ضرب الأحذية غدا، من جهة، بديل كل عمل آخر، وبات، من جهة أخرى، الطريقة المتوافرة والمقترَحة لإنجاز الأهداف المتوخاة. وهو ما رأينا نظائر له، ولا نزال نرى، في صفحات كثيرة من تاريخنا الحديث: مرة رددنا على التحدّيات بـ "قصائد عصماء"، ومرة بإذاعات مجلجلة ثم محطات تلفزيون صاخبة هائجة، وصولاً إلى طيران الأحذية". طيب، هل أنت مستاء لأن الزيدي لم يضرب بوش بشئ أقسى؟ هذا ما فهمته من كلامك العقلاني.
ويذهب كاتب آخر من ذاك الصنف إلى القول بأن الضرب بالحذاء "تعبير عن البؤس... إنه العجز العراقي والعربي الذي جعل بعض العرب والإيرانيين يمجّدون الحذاء.... من صفق للصحفي وأشاد به... عبّر عن حال من الإفلاس والعجز لا أكثر". ثم يقولون الشئ نفسه عن صواريخ المقاومة الفلسطينية حماس واصفين إياها بـ"العبثية". والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تسمحون لنا أيها "الحضاريون والعقلانيون" بأن نستخدم أسلحة أقوى من الحذاء لضرب الأعداء والغزاة بها؟ لقد حيرتمونا معكم، فإذا ضربنا بوش بالصرماية، نكون بذلك نعبر عن عجزنا ويأسنا، وعندما نضرب قواته الغازية بالنار نصبح في نظركم إرهابيين وقتلة وبرابرة وهمجا. ماذا تريدون منا بالضبط؟ فبالأمس القريب شننتم حملة شعواء على المقاومة اللبنانية الباسلة لأنها حققت انتصاراً تاريخياً على أحبابكم في تل أبيب بشهادة الجيش الإسرائيلي نفسه، ورحتم تقللون من قيمة انتصارها. هل كنتم تريدون من المقاومين أن يكونوا "حضاريين" في التعامل مع المحتلين والغزاة؟
ولو لجأ المقاومون إلى ضرب الضباط الإسرائيليين بالبساطير لقلتم عنهم بأنهم عاجزون وبؤساء ويائسون. احترنا معكم! فلا الضرب الناعم يرضيكم ولا العنيف، فماذا تريدون، فالأول فعل العاجزين والثاني من شيم الإرهابيين في أقانيمكم، بدليل أن نفس الكاتب الذي اعتبر فعلة الزيدي المنتظر ضرباً من الإفلاس يزبد ويرغي ضد العنف الصادر عن المظلومين، فيقول: "المظلومية لا تعفي أحداً من مسؤولياته، وبعضُ المسؤوليّة إهداء هذا الكون الذي نتشارك فيه شيئاً آخر غير القتل والقتال". بعبارة أخرى، إذا كان العنف من طرف العرب فهو أمر ملعون مطعون، أما إذا جاء من طرف اليانكي وربيبته إسرائيل فيصبح حضارة. هذا ما فهمناه من مقالاتكم "العقلانية والحضارية". بعبارة أخرى فأنتم تريدون منا تحديداً أنه إذا ضربنا العم سام والصهاينة بالأسلحة المحرمة دولياً على الجانب الأيسر من العالم العربي، علينا أن ندير لهم الجانب الأيمن كي يصيبونا في كل الأماكن. مش كده ولا أيه؟
آه كم نحن بحاجة لأمثالك يا منتظر الزيدي لمواجهة هؤلاء الكتاب!