بقلم : د. خالد الحروب ... 29.1.09
في الضفة الغربية حيث لا توجد صواريخ أو مقاومة، وبعيداً عن قطاع غزة، اعتدى الجيش الإسرائيلي خلال الأيام القليلة الماضية على فلسطينيين في أماكن وقرى ومدن عديدة وقتل وجرح واعتقل. في الضفة الغربية، وليس في قطاع غزة، منعت إسرائيل السلطة الفلسطينية من إرسال ستين مليون دولار هي رواتب عشرات ألوف الموظفين في القطاع المحاصر والمدمر بآلة الجيش الإسرائيلي الوحشي. في الضفة الغربية، وليس في قطاع غزة، تعمل إسرائيل على استنفاد كل مكون مكونات أي حل سلمي، وتتفنن في إضعاف من يُفترض أنها تريد تقويتهم. ليس هذا باكتشاف جديد، والملل المتأتي من تكرار ما هو معروف لا ينفي فظاعته شبه المتأبدة. وهي فظاعة تكمن في جوهر المشروع الكولونيالي الصهيوني ولم تزعزها كل التنازلات العربية والفلسطينية التي كانت في لحظات تاريخية سابقة تمثل أماني وأحلام صناع السياسة الإسرائيلية ورواد المشروع نفسه. في الضفة الغربية، وليس في قطاع غزة، يمزق هذا الاحتلال، وبعد كل التنازلات التاريخية تلك، أوصال المدن والقرى والتجمعات الفلسطينية ويخضعها لنظام أبارتيد عنصري، يعززه أكثر من ستمئة حاجز عسكري. كل ذلك من دون أن تكون هناك مقاومة مسلحة، ومن دون أن تُطلق صواريخ، وبوجود سلطة فلسطينية تنسق أمنياً مع إسرائيل لإثبات حسن النية وضبط الأمور بأقصى أنواع الضبط.
يُساق هذا الكلام في ظل التدافع العالمي المريب في هذه اللحظة لتحقيق هدف واحد وهو منع عبور الأسلحة إلى الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال، عوض أن يكون الهدف والجهد الدولي هو إزاحة هذا الاحتلال وإنهاء جذر الصراع. إنهاء هذا الاحتلال
هو الأولوية السياسية والإنسانية والوطنية الإقليمية والدولية. وأي جهد يحاول الالتفاف على هذه الأولوية فإنه لا يفعل سوى تكريس الاحتلال وإدامته، وأيضاً تقوية المقاومة ومنطقها وزيادة شعبيتها. ليست المقاومة المسلحة هدفاً بحد ذاتها في أي سياق احتلالي، ولم تكن كذلك عند أي حركة نضال تحرري. وهي كذلك في فلسطين فكل أطياف مشروع المقاومة الفلسطينية ومنذ ستينات القرن الماضي وحتى الآن وهي ترى في المقاومة وسيلة وليس هدفاً. عندما يتم تحقيق هذا الهدف بغير المقاومة فإن الشعوب تنزع دوماً إلى الطريق الأقل كلفة، لسبب بسيط هو أنها لا تهوى الموت واستدامة العذابات. لكن عندما تفشل كل الوسائل الأخرى حتى من تقريب الهدف إلى مجال التحقق، فإن المقاومة تعود إلى المقدمة ليس لأنها تحقق المعجزات، وهي قد تفعل، بل لأنها الملجأ الآمن في ظل تسيّد خيارات تهدد مستقبلات الناس وحقوقهم.
لكن بعيداً عن التنظير التاريخي وفي الحالة الفلسطينية تحديداً هناك واقع وتجربة مريرة ما زلنا نعيشها، اسمها سراب الحل السلمي. منذ عام 1988 وافقت القيادة الفلسطينية على مبدأ حل الدولتين تبعاً لحدود 1967 وليس حدود التقسيم سنة 1947، بما يعني الاعتراف بإسرائيل على أكثر من ثلاثة أرباع أرض فلسطين التاريخية. بل أكثر من ذلك تم إخراج هذا الاعتراف على شكل انتصار فلسطيني يعلن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ويجعل منه بوصلة ومآل الطموح الوطني الفلسطيني. تم ذلك بطبيعة الحال عبر استثمار رأس المال السياسي التاريخي لياسر عرفات، والمغامرة بكل مشروع حركة فتح ووضعه في مقامرة غير مأمونة العواقب. نتيجة تلك المقامرة هي ما نراه الآن. والسبب هو إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً توافقوا عملياً على تعرية وفضح كل مسار تسووي، وتعزيز منطق المقاومة عبر سياسات العجرفة والانحياز. بعد عشرين عاماً من التنازل التاريخي غير المسبوق الذي قدمه ياسر عرفات من خلال إعلان الاستقلال، وبعد سلسلة لا تحصى من المبادرات والمؤتمرات والاتفاقيات التي هدفت إلى إزالة الاحتلال انتهينا إلى حقيقة أن هذا الاحتلال ترسخ وتكرس وتضاعف.
هل ارتكب الطرف الفلسطيني، أو الأطراف الفلسطينية، أخطاء ساهمت في ذلك الفشل؟ الجواب نعم وبالتأكيد، لكنها أخطاء من الدرجة الثانية، بمعنى أنها لم تكن حقاً جوهرية تغير مساراً، أو تنهي مساراً. المسؤولية الأهم والأكبر والتي كانت وما زالت تحدد الوجهة العامة هي مسؤولية الطرف الأقوى، القوة الاحتلالية ومن يقف وراءها. ليس هناك منطق سياسي وحساباتي، ناهيك عن افتراض تحليه بالحد الأدنى من مقومات العدل والإنسانية، يقبل توزيع "المسؤولية" مناصفة بين إسرائيل والفلسطينيين. لوم الفلسطينيين، ولوم مقاومتهم، ولوم حماس، الذي تفاقم مؤخراً واتسعت سوقه يفتقد إلى الحدود الدنيا من الإنصاف السياسي، ويطفح بالحدود القصوى من الأيديولوجيا، وأحيانا ليست بالقليلة تتسرب في تكوينه أبعاد عنصرية.
على ذلك، فإن الهبة الدولية والإقليمية الشاملة من واشنطن إلى بروكسل إلى تل أبيب وبعض العواصم العربية والهادفة إلى وقف تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة هي قلب فاضح للأولويات، ومكافأة للقوة الاحتلالية. من ناحية نظرية صرفة وعملية فعلية من حق المقاومة أن تتسلح طالما استمر الاحتلال. ومحاولة وقف أي مظهر من مظاهر المقاومة والرفض للاحتلال الإسرائيلي، وتكريس نظرية "الاحتلال الصامت والنظيف" على ما هو الحال في الضفة الغربية، هي محاولة بائسة إنسانياً وقصيرة النظر سياسيا. صحيح أن حضور المقاومة لم يحقق للفلسطينيين حقوقهم، بل وإن بعض تكتيكات وإستراتيجيات هذه المقاومة كان ضررها أكثر من فائدتها، لكن بالمجمل العام فإن غياب المقاومة كان ضرره أكبر، إذ أتاح لإسرائيل أن تقول للعالم بأن الصراع انتهى أو قيد الانتهاء. إيقاف المقاومة يتم من خلال إيقاف سببها وهو الاحتلال الإسرائيلي، وليس هناك ضرورة لاجتراح تفكير عبقري للوصول إلى هذه النتيجة. الذين يريدون عكس منطق الأشياء يريدون لمزيد من الدماء أن تُهرق في المنطقة، ومزيد من الصراعات أن تشتعل. يريدون الآن تحويل المسألة كلها نحو جهود كيفية ضبط الحدود مع غزة وضبط تهريب السلاح. هل هذه القضية هي لب الصراع العربي الإسرائيلي؟ وماذا لو فشلت كل تلك الجهود واستمر التهريب، هل معنى ذلك أن العالم كله يتوقف هنا؟