بقلم : نقولا ناصر ... 16.02.2009
احتفلت الجمهورية الإسلامية في طهران في العاشر من الشهر الجاري بمرور ثلاثين سنة على ثورة الشعوب الإيرانية ، بفرسها وعربها وأكرادها وبلوشها وعمالها وفلاحيها ومثقفيها وتجار بازارها وعلماء الدين فيها ، على نظام الشاه الذي أعادته أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية إلى الحكم ليعيد لها شركاتها وامتيازاتها النفطية التي أممها الزعيم الوطني محمد مصدق أوائل الخمسينات من القرن العشرين الماضي ، وليحول إيران إلى أكبر قاعدة أميركية – غربية إقليمية للتجسس على الاتحاد السوفياتي السابق من ناحية وإلى قاعدة شرقية تتكامل مع القاعدة الإسرائيلية الغربية للكماشة الأميركية التي تحاصر حركة التحرر الوطني العربية من أجل الاستقلال والتحرير والوحدة ، ولذلك كان أمرا طبيعيا أن تحتفل الأمتان العربية والإسلامية آنذاك بالثورة باعتبارها انتصارا لهما احتفالا لا يسع المراقب إلا أن يقارن بينه وبين اللامبالاة العربية والإسلامية الراهنة باحتفالات مرور ثلاثة عقود من الزمن على ذاك الحدث التاريخي الهام .
وهذه اللامبالاة ، التي انعكست شبه غياب كامل لاحتفالات طهران بالحدث التاريخي عن وسائل الإعلام الرئيسية في العواصم العربية ، تتناقض تماما مع الانشغال الإقليمي والدولي بإيران حد أن يتحول احتواء النجاح في أسلمة قيادة الثورة التي لم تكن إسلامية خالصة عند انفجارها وكذلك احتواء مضاعفاتها الإقليمية والدولية إلى البند الأول على جداول أعمال صانعي السياسات الأميركيين بخاصة والغربيين بعامة وإلى الفيصل في تحديد التحالفات الاستراتيجية في الشرق الأوسط ومعه ، وهذه التطورات في حد ذاتها هي دليل نجاح القيادة الإسلامية التي احتكرت قيادة الثورة في البقاء داخل حدودها أولا ثم في تطوير دور إقليمي وعالمي لها خارج حدودها.
لقد كانت دعوة موسكو التي لها مصالح حيوية في إيران إلى إقامة نظام أمني إقليمي عربي – إيراني في الخليج العربي في الأسبوع الماضي تبنيا دوليا هاما لمطلب إيراني متكرر ومعروف ، وإذا كان التبني الروسي لهذا المطلب معلنا فإنه يمكن الاستنتاج دون مخاطرة كبيرة بأن القوة العظمى الصينية التي تربطها علاقات استراتيجية مع روسيا في العالم الجديد متعدد الأقطاب الذي يتبلور الآن تؤيد أيضا هذا المطلب دون إعلان صريح مماثل ، ومثل هذا التدويل لمطلب إيراني إقليمي يمثل تطورا هاما يجري بينما العلاقات العربية الإيرانية ما زالت دون أي أفق استراتيجي واضح وتتسم بالتناقض:
أولا بين العلاقات الاقتصادية المتنامية وبين العلاقات السياسية المتدهورة ، وثانيا بين العلاقات السياسية العربية – الإيرانية المتوترة حد العداء الصريح الذي دفع الرئيس السوري بشار الأسد إلى التحذير مؤخرا من الاستبدال العربي لإسرائيل بإيران كعدو وبين العلاقات الإيرانية المتطورة بثبات لكن ببطء مع الغرب الذي يمثل الحليف اللدود لمعظم دول الجامعة العربية والذي يوفر لها المظلة الأمنية الاستراتيجية ، بالرغم من أن الخلاف الحاد حول البرنامج النووي الإيراني يغطي على هذا التطور الذي يهدد ، إن حدث اختراق يلوح في الأفق في العلاقات الأميركية – الإيرانية ، بالعودة إلى الوضع الذي كان سائدا أيام حكم الشاه .
وثالثا بين الانقسام العربي في التعاطي مع الدور الإقليمي لإيران وبين الخشية العربية المشتركة من سلبيات تعاظم هذا الدور على الأمن القومي العربي ، وقد ظهر هذا التناقض العربي مؤخرا ، من حيث الشكل ، في دعوة الرئيس الإيراني لحضور قمة عربية خليجية أخذت دورة لاحقة لها على دول عربية أخرى دعوتها للرئيس نفسه لحضور قمة لها في قطر حول غزة ، ومن حيث المضمون يظهر هذا التناقض في العلاقات التي توصف ب"التحالفية" بين إيران وبين دول عربية وفي العلاقات التي توصف أيضا ب"التحالفية" لكن ضد إيران بين دول عربية أخرى وبين الولايات المتحدة . ويظهر هذا التناقض في أجلى صوره تناقضا "ذاتيا" لكل طرف في العراق حيث كان موقف دول "الضٌد" في أحسن الحالات "سلبيا" من الاحتلال الأميركي الذي لولاه ما كان لإيران أي دور هناك وحيث كان موقف دول "المعٌ" في الأقل "متغاضيا" عن الدور الإيراني الذي يستظل بالاحتلال الأميركي . ومما لا شك فيه أن هذا الانقسام العربي حول إيران الذي يسعره التحريض الأميركي بين من تصفهم واشنطن ب"المعتدلين" وبين من تصفهم ب"المتطرفين" هو انقسام يعزز الدورين الإقليميين الإيراني والأميركي على حد سواء ، مما يقتضي أيضا الاستعداد العربي لانفتاح صفحة جديدة محتملة في العلاقات الأميركية – الإيرانية في اتجاهين الأول حوار عربي – عربي للتوصل إلى استراتيجية موحدة تجاه إيران والثاني حوار عربي – إيراني للتوصل إلى توافق حول الأمن الإقليمي ، إذ لا يعقل أن يتمكن العرب من صوغ استراتيجية موحدة حيال دولة الاحتلال الإسرائيلي تتمثل في مبادرة السلام العربية وتعجز "واقعيتهم" عن صوغ استراتيجية سلام مماثلة تجاه إيران توقف انجرارهم المتسارع تحت الضغوط الأميركية نحو "جبهة" مع إسرائيل في مواجهة إيران ، فلا يعقل أن يكون النظام الرسمي العربي عاجزا عن المواجهة مع الأولى ليكتشف إمكانيات له تمكنه من دخول مواجهة مع الثاني .
غير أن رقصة الفالس كما يقول المثل الغربي ثنائية لا فردية ، وحسب المعطيات الحالية تبدو إيران غير راغبة في رقصها بقدر ما يبدو الطرف العربي عازفا عنها ، والفارق هو أن طهران مستفيدة أكثر من استمرار الانقسام العربي بشأنها وبشأن غيرها بينما الطرف العربي هو المتضرر من استمرار وضع العلاقات العربية – الإيرانية على ما هو عليه الآن ، لا بل إن طهران تبدو اليوم أكثر حرصا على نيل جائزتها الأكبر المتمثلة في حصولها على اعتراف ما كانت تلعنه طوال الثلاثين عاما المنصرمة باعتباره "الشيطان الأكبر" الأميركي بالقيادة الإسلامية في طهران وبدورها الإقليمي من خلال تطبيع العلاقات الثنائية على أساس الندية والمشاركة في الهيمنة على الإقليم أو تقاسمها أكثر من حرصها على علاقات مماثلة مع عمقها الاستراتيجي العربي ، حيث أتاح لها العداء الرسمي العربي أولا ثم الانقسام العربي الفرصة المناسبة والمهلة الكافية للحصول من خلال الصراع على مكاسب إقليمية ما كانت لتحوزها بالتفاهم .
والمفارقة أنه بينما كان الرئيس محمد أحمدي نجاد يبعث هذه الرسالة "فاردا قبضته" يوم الثلاثاء الماضي ، ردا على رسالة نظيره الأميركي باراك أوباما في اليوم السابق التي قال فيها إن اليد الأميركية ستكون ممدودة نحو طهران إن فردت قبضتها وآملا في خلق الظروف الملائمة ل"حوار وجه لوجه" خلال الشهور المقبلة ، كانت الجماهير التي كانت تستمع إلى خطاب نجاد في الذكرى الثلاثين للثورة في ساحة الحرية بالعاصمة الإيرانية تهتف وترفع شعارات "الموت لأميركا" و "الموت لإسرائيل" بينما كان هو يعلن استعداده لإجراء محادثات مباشرة مع أوباما و"للحوار" في "جو من النديٌة والاحترام المتبادل" معربا عن أمله في أن يكون التغيير في السياسة الخارجية الأميركية تجاه إيران تغييرا "جوهريا لا تكتيكيا" ومعلنا بأن "عصر الضغوط قد ولٌى وأن عصر الحوار قد بدأ" . وفي يوم الأربعاء التالي تقدمت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية "إيرنا" بطلب خطي لإجراء مقابلة مع أوباما كما قال رئيس مكتب الوكالة في نيويورك مقصود أميريان لوكالة الأنباء الفرنسية.
وتشير الدلائل إلى أن العلاقات مع الولايات المتحدة ستكون موضوع معركة ساخنة بين المتنافسين الرئيسيين في انتخابات الرئاسة الإيرانية في حزيران / يونيو المقبل ، وهما نجاد نفسه والرئيس السابق محمد خاتمي الذي تصفه وسائل الإعلام الغربية ب"الإصلاحي والمعتدل" والذي يفاخر الإيرانيون به باعتباره صاحب فكرة "حوار الحضارات" . ففي توقيت لا يبدو عشوائيا بل ناجما عن إدراك الفرصة المفتوحة لتطبيع علاقات بلاده مع الولايات المتحدة ومدفوعا باغتنام هذه الفرصة بادر خاتمي الذي كان أول زعيم إيراني يزور أميركا منذ الثورة إلى إعلان ترشيح نفسه للرئاسة في الأسبوع الماضي ليتعرض بعد يومين لمحاولة للاعتداء عليه من جماعة مسلحة بالعصي كانت تهتف "الموت لخاتمي ، لا نريد حكومة أميركية" ، على ذمة الموقع الإلكتروني لمؤسسة باران . وكان خاتمي عام 2004 قد وافق على تعليق مؤقت لبرنامج تخصيب اليورانيوم وفي العام السابق عرض غصن زيتون على واشنطن بحجة الانتصار في الحرب على العراق بعد الغزو الأميركي لكن نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني سرعان ما أحبط مسعاه . وبدا خاتمي في خطاب ألقاه في أنصاره يوم الخميس الماضي كمن يخوض سجالا مع الرئيس نجاد عمن هو أصلح منهما لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة ، فدعا إلى تغييرات في السياسة الخارجية الإيرانية تفتح البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية مما يعوض عن انخفاض ما لدى إيران من القطع الأجنبي من ناحية ويخفف العقوبات المفروضة عليها من ناحية أخرى . ومثل هذه الدعوة إلى الانفتاح الاقتصادي تبدو توجها للدولة الإيرانية تحت ضغوط مضاعفات الأزمة الاقتصادية الداخلية والعالمية حيث بادر الرئيس نجاد مؤخرا إلى إجراءات لإلغاء أو تقليص الدعم للسلع الأساسية بالرغم من التأثير السلبي المتوقع لهذه الإجراءات على حظوظه الانتخابية بعد أربعة أشهر ، وهذا توجه يمثل المدخل الموضوعي إلى الانفتاح السياسي . كما وجه خاتمي انتقادات قوية للخطاب العدائي اللاذع لنجاد في مجال السياسة الخارجية باعتباره "يخدم الأعداء ويضر البلاد والنظام" ويوفر الذرائع للقوى المعادية للعمل ضدهما ، ومن المعروف أن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت المستهدفة الوحيدة بهذا الخطاب .
إن براغماتية النظام الإيراني التي تنسج علاقات وثيقة غير مذهبية وغير أيديولوجية مع حركة حماس "السنية" وحزب الله "الشيعي" في لبنان ومع سوريا "القومية" و"المملكة" المغربية و"جمهورية" الجزائر وتركيا العضو في حلف الناتو و فنزويلا "الاشتراكية" وكوبا "الشيوعية" والهند العلمانية وكوريا الشمالية ذات النظام الشمولي ، على سبيل المثال ، والتي يحذر الاستراتيجيون الغربيون من قطعها أشواطا في التنسيق الاستراتيجي مع روسيا والصين ، هي بالتأكيد براغماتية قادرة على التقاطع مع القواسم المشتركة بينها وبين الولايات المتحدة وعلى البناء على هذه القواسم ، وهذا التقاطع البراغماتي ليس مشروعا للمستقبل لكنه دخل مرحلة التجربة العملية في أفغانستان والعراق كنموذجين ناجحين لتبادل المصالح وتقاسم النفوذ والهيمنة بين الطرفين . وإذا كانت التجربة ناجحة في ظل حكومتين "محافظتين" مثل إدارة جورج بوش الأميركية السابقة وحكومة نجاد الحالية فإنها بالتأكيد ستكون أكثر نجاحا في ظل إدارة أوباما الجديدة التي يعزز انشغالها بالهمٌ الاقتصادي الداخلي صدقية اختيارها ل"الحوار" مع إيران التي أدرجها بوش في "محور الشر" ، وسيكون أي اتفاق أميركي – إيراني على تعميم التجربة الناجحة في افغانستان والعراق إقليميا تطورا استراتيجيا نوعيا يخطئ العرب كثيرا إن استهتروا بنتائجه وأبعاده الخطيرة على مصالحهم القومية الحيوية ، وربما تكون لهم عبرة من استهتارهم المماثل بتقاطع المصالح الأميركية – الإيرانية في العراق منذ غزوه فاحتلاله . ويلفت النظر في هذا السياق أن طهران قد رفضت مؤخرا تجديد جولات لقاءات التنسيق الأمني الأميركي – الإيراني في العراق ربما لأنها تعتبر انسحاب قوات الاحتلال الأميركي قد أصبح مسالة وقت فقط وأن العلاقات الوثيقة التي نسجتها مع النظام السياسي الذي أقامه الاحتلال في بغداد قد أصبحت أمرا مفروغا منه ولم يعد بحاجة إلى أي تنسيق مع واشنطن.
وليس خافيا أن هذا النهج البراغماتي هو نتاج عقلية تجار البازار الذين يمولون المؤسسة الدينية والذين انحازوا إليها في الصراع الدموي الذي أعقب الثورة للسيطرة على قيادتها مما أضفى عليها الصبغة المذهبية وليس خافيا كذلك الصراع الداخلي المرير الذي أعقب سيطرتهم على قيادتها والذي ما زالت آثاره مستمرة حتى اليوم متمثلة في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية الذي تقوده منظمة مجاهدي خلق التي أحرقت الكثير من أوراقها الوطنية أولا باتخاذ العراق قاعدة لها أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وثانيا بحماية قوات الاحتلال الأميركي لقاعدتها العراقية في مدينة أشرف بعد الغزو وثالثا بتحولها إلى هيئة إيرانية تطوعية لتزويد الأميركيين والغربيين بالمعلومات المجانية عن البرنامج النووي الإيراني .
غير أن الخطير في نجاح تجار البازار في حسم الصراع على قيادة الثورة لصالحهم تمثل في تغليب الفارسي على الإسلامي في سياسات إيران الداخلية والإقليمية ، مما قاد عمليا إلى استمرارية نهج نظام الشاه بحيث نجحوا داخليا في ما فشل فيه الشاه سواء في ما يتعلق بحرمان الأقليات القومية من حقوقها وبخاصة الأقليتين العربية والكردية أو في ما يتعلق بحقوق الطبقات الاجتماعية المحرومة . لكن الأخطر في الصراع الداخلي الذي أثاروه للسيطرة على قيادة الثورة تمثل في تحويلهم هذا الصراع إلى صراع خارجي بممارستهم لسياسة "تصدير الثورة الإسلامية" التي كانت نتائجها عكسية تماما للأهداف المعلنة لها إذ قادت إلى تسعير التوتر الطائفي وهذا بدوره وتٌر الأوضاع الداخلية في الدول العربية والإسلامية المجاورة مما دفعها إلى البحث عن تعزيز أمنها واستقرارها بتعزيز علاقاتها مع الدول الغربية نفسها التي سعت الثورة الإيرانية إلى التحرر من هيمنتها ووجودها العسكري الإقليمي وقاد ذلك جميعه إلى انفجار الحرب العراقية الإيرانية التي مهدت للغزو الأميركي للعراق وإلى تعزيز النقيض المذهبي المتمثل الآن في القاعدة . وكان تبني طهران بعد الثورة لتوسع الشاه الإقليمي تحت المظلة الأميركية بدفع الحدود المشتركة مع العراق غربا وبخاصة في شط العرب وباحتلال الجزر الثلاث للإمارات العربية المتحدة باعتبارها مكاسب "وطنية" إيرانية نتيجة متوقعة لحسم الصراع على قيادة الثورة لصالحهم.
وإذا كانت براغماتية تجار البازار مهيأة الآن لمستوى أرفع وأوسع من التقاطع الإيراني مع القواسم الأميركية – الإيرانية المشتركة فإنها بالتأكيد سترتكب خطأ استراتيجيا فادحا إن هي أقدمت على هذا التطور على حساب العلاقات مع عمقها الاستراتيجي العربي . وليس سرا أن الجوار العربي المباشر بخاصة يرحب بتطبيع العلاقات الإيرانية الأميركية بل وكان يدعو إلى هذا التطبيع حتى يتجنب حربا خليجية رابعة تدعو إليها وتحرض لها دولة الإحتلال الإسرائيلي علنا ، لذلك فإن التغييرات التي يدعو إليها محمد خاتمي وغيره في السياسة الخارجية الإيرانية ينبغي أن تعطي أولوية للعلاقات العربية الإيرانية على العلاقات الإيرانية الأميركية وذلك يقتضي في المقام الأول التخلي تماما عن إرث الشاه في سياسة طهران الخارجية تجاه الجوار العربي بترك العراق لشعبه أولا وبإعادة جزر الإمارات إلى أصحابها الشرعيين ثانيا ، فرقصة الفالس في النهاية ثنائية لا فردية .