بقلم : محمد عثمان ... 28.1.09
غزة وذاكرة الظلم والخراب
هنا غزة ... كل شيء يقول هنا غزة المنكوبة والمدمر, لم يضربها زلزالا عنيفا أو تسونامي مدمر أو رياح عاتية , وإنما كانت ضحية عدوان إسرائيلي في ظل تواطؤ عربي وعالمي رسميين أتى على الأخضر واليابس فيها .... وحين تمر في غزة وأحيائها فانك لن تشاهد سوى الدمار الذي فعلته آلة الحرب الإسرائيلية و لم تتصوره مخيلتك , فتشاهد بعينيك حجم الدمار , وتسمع أحاديث الناس وقصصا تقشعر لها الأبدان , فأحدهم مثلا يشير إلى مكان منزله والذي استطاع تحديده بصعوبة ويقول كان هنا منزلنا , وآخر هنا كانت بناية وهنا كان مسجدا نصلي فيه وهناك السوق الذي كنا نتسوق منه وآخرا يقول هذه الجامعة التي ادرس فيها , بعض تلك الأماكن والمنازل أصبح أثرا بعد عين والبقية لن تجد لها أصلا أثرا ، ولم يبقى سوى شيئين اثنين وأولهما رصيد في بنك الشعب لايمكن سرقته أو القضاء عليه مهما كان السلاح ومتمثل هذا الشيء بإرادتهم القوية وإيمانهم الراسخ بالله وبحقوقهم , والآخر هو ذكريات وقصص أليمة من الصعب محوها من ذاكرتهم.
مآذن بلا مهدمة وأخرى بلا قباب... ومنازل بلا اثر.
حين تتجول في مناطق قطاع غزة كافة فانك تجد معظم المساجد إما مهدمة بشكل كلي بسبب قصفها من قبل الطيران الحربي أو متضررة بشكل جزئي أو تجدها بلا قباب , ففي هذه الحرب عمد الطيران الحربي الإسرائيلي إلى قصف المساجد بشكل متعمد وهمجي وبلا سبب واقعي ... وفي ظاهرة أخرى فقد تجد منازل وبنايات هدمت ولما يبقى لها أي اثر على وجه الأرض وأخرى دفنت تحت الأرض بسبب قوة الصواريخ التي أطلقت إليها.
قتل بالجملة!!
نعم... انه القتل بالجملة و بلا رحمة كانت طريقة القتل السهلة و المتبعة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في حربها الشعواء على غزة , حيث قتل في حرب غزة عائلات بأكملها إما تحت أنقاض منازلها أو في شارع كانوا يتخذونه طريقا للهرب من عدو لايفرق بين طفل وكبير وبين مدني وعسكري أو في مدرسة كانت مأوى ومن المفترض أن تكون مكانا أمينا على حياتهم ....
الطفلة دلال أبو عيشة لم يتبقى من عائلتها سواها فكان قدر الله أن تكون خارج عند بيت جدها أثناء قصف منزل أهلها فاستشهد والديها وإخوتها الثلاثة وبقيت هي و مكلومة حيدة إلا من رحمة الله ومن ثم عطف وحنان جديها ,أما عائلة "السموني " فارتكب بحقها مجزرة مروعة كانت خير دليلا على أن جيش الاحتلال كان يستهدف وبشكل عشوائي كل شيء وأي شخص دون استثناء حتى لو كان رضيعا لا حول له ولاقوه , راح ضحية هذه المجزرة حوالي ثلاثون شخصا من عائلة "السموني " , والأغرب من ذلك كله أن جيش الاحتلال الإسرائيلي حينما قام بقتل أفراد العائلة لم يسمح في بداية الأمر لذهاب سيارات الإسعاف لانتشال الشهداء والجرحى وإنما قام بهدم البيت على من فيه من جرحى وشهداء كعدد كبير من العائلات فكانت دليلا على القسوة اللامتناهية لهذا الاحتلال وجيشه ... وهذه المجازر تركت الحزن والأسى في قلوب من بقي من تلك العائلات إلى جانب إيمان قوي وعزيمة لا تلين.
من يوميات الحرب
" كنا لا نصدق حينما يطلع النهار علينا " , هكذا كان رد الحاجة أم محمد التي تقطن في مدينة غزة لتدلل على قسوة وشدة القصف أثناء الليل والذي يشعر المواطنين بأنهم لن ينجو من موت يمكن أن يكون محقق , فكانت ليالي قطاع غزة حالكة بكل ما للكلمة من معنى , وتتابع أم محمد الذي استشهد لها حفيدين وإصابة ثالث في هذه الحرب بصف منزلهم بقولها " طوال الليل لم نكن ننام أبدا لشدة خوفنا ولقوة تلك الأصوات الناتجة عن القصف البري والجوي والبحري , وإذا ما نمنا ساعة أو اثنين من تعبنا ننطق الشهادتين ومن ثم ننام ", هذا حال الليل , أما النهار فلم يكن يختلف عنه كثيرا , فالقصف قصف والقتل قتل والعالم هو نفسه الذي يتفرج على كل ذلك.
الكهرباء كانت طيلة أيام الحرب كانت ضيفا عزيزا قليل ما كان يزور أهالي القطاع ولا يختلف حال مياه الشرب عنها , كل شيء مفقود حتى السماء الهادئة والهواء النقي.
جيش الاحتلال الإسرائيلي ...بلا أخلاق
حين نتحدث عن جيش نظامي لأي دولة ما فإننا نتحدث عن جيش يجب أن يحترم الأعراف والقوانين الدولية ويحمي المدنيين ويحترمهم أيام الحرب , إلا جيش دولة الاحتلال الإسرائيلي فانه من أكثر الجيوش الذي يشذ عن تلك القاعدة والقوانين , والذي كان يعتبر عدوه الأول هم المدنيين وحتى الشجر والحجر بدليل كل تلك الجرائم التي اقترفها بحق المدنيين العزل على عكس ما كان يصرح قادة حكومة الاحتلال بأنهم لايستهدفون المدنيين , فكان يقوم بقتل كل شيء حي , وعدا عن ذلك فكانت له ممارسات تدعو إلى الاشمئزاز داخل بيوت المدنيين التي احتلها في حيي الزيتون والعطاطرة , وفي هذا يقول محمد النجار وهو احد سكان منطقة العطاطرة شمال قطاع غزة " لقد كان جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين دخلوا بيوتنا يستخدمون أواني المطبخ للتبول بها وأيضا على ( أسرة النوم) ", وأيضا في هذا الإطار فقد وجد المواطنون داخل بيوتهم الذين احتلت من قبل جنود الاحتلال ملابسا داخلية للجنود والمجندات الإسرائيليين تدل على أنهم كانوا يجامعون بعضهم داخل بيوت المواطنين .
فان جيش الاحتلال الإسرائيلي له تجاوزات إلى ابعد الحدود , فقد قام باستهداف أماكن كفل لها القانون الدولي الحماية بشكل واضح كالمستشفيات والمدارس , فقد قام بقصف وحرق مستشفى القدس والهلال الأحمر الفلسطيني ومستودع الأدوية التابع لهما في حي تل الهوى وسط مدينة غزة وكان بداخل المستشفى عدد كبير من الأطباء والمرضى والمصابين فلم يكترث بذلك حالها حال مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين(الاونروا) والتي اقترف بداخلها مجزرة كبيرة راح ضحيتها عشرات ما بين شهيد وجريح من المدنيين الذين لجئوا إليها وعددا من المدارس هربا من آتون الحرب ... ولاننسى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم في هذه الحرب اسلحلة ما لم تستخدمها جيوش ضد بعضها البعض بشهادة أجانب جاءوا إلى الاطلاع على أوضاع غزة وأطباء عرب جاءوا إلى غزة للمساعدة في المستشفيات , وتلك الأسلحة منها القنابل التي تحتوي على مادة الفوسفور الأبيض الكيماوية الحارقة والمسرطنة وأيضا استخدم قنابل القنابل الارتجاجية التي تحدث دمارا ليس طبيعيا في منازل ومقدرات المواطنين .
حال قطاع غزة ما بعد الحرب.. وأمنيات المواطن.
خرج قطاع غزة من هذه الحرب منهك القوى , فبعد قصف مقار المؤسسات الحكومية كافة وعدد من المؤسسات الخيرية والمستشفيات وحتى الأماكن العامة كالمتنزهات , فان الحرب قد تركت في قلوب وعقول الناس ذكريات أليمة لا يمحوها الدهر كله.
وقد يكون أقصى ما يتمناه الآن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة هو الهدوء والأمان فقط لا أكثر ولا اقل كما يقول المواطن من مدينة غزة يوسف عبد الجواد والذي يعمل سائق تاكسي " نأمل أن تستمر الهدنة بيننا وبين الإسرائيليين لان الحرب أنهكتنا جميعا وحتى الاسرائليين " , كما وتمنى أن يكون الحال مع الرئيس الأمريكي باراك اوباما يختلف عن خلفه جورج من جهة سياسته وطريقة تعامله مع القضية الفلسطينية رغم ما وصفه بداية انزلاق اوباما إلى الطريق التي كان يسلكها بوش من ناحية تأييده لإسرائيل.
إذن ومع كل تلك المعطيات وكل ما حدث في غزة من دمار وخراب , هل سيتم إعادة اعمار غزة ؟ متى وكيف وتحت أي ضمانات؟ أم أن قدر غزة تنتظر جولات من الحرب لترتبط ذاكرتها بيوميات الخراب؟ وهل هي حرب أم بداية شطب لغزة ؟ وهل أدرك الإسرائيليون أن شطب غزة هو من سابع المستحيلات؟... أسئلة تحتاج إجابة وقد تجيب عليها الأيام المقبلة.