أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
تحت الأنقاض !

بقلم : نداء يوسف أبونوفل ... 14.1.09

انهمرت دموع أختي مها وانهمار القذائف على المدينة التي نسكن فيها، تلك المدينة التي فتحت لنا أبوابها بعد تهجير ثمان وأربعين، أمسكت بيد أختي وأخذنا نجري نحو ملجأ العمارة التي كنا نعيش فيها، حيث كان قد سبقنا إلى هناك عدد من سكان العمارة، خوفا من أن تصيبها إحدى القذائف المتساقطة على المدينة، فتهوي وتصبح رفاتا فوق رؤوس هؤلاء السكان، فيؤدي ذلك بهم إلى التهلكة. إلى الملجأ أوى كثيرون، ففي مثل هذا الوضع فإن الملجأ هو المكان الأكثر أمنا وسلاما.
كنا عند حدوث أي طارئ كهذا الذي حدث في هذا اليوم، وما صار فيه من أهوال، وعند نزولنا إلى الملجأ أسفل المبنى، نتناوب نحن الرجال أمر مراقبة الطريق المؤدي إلى مكان وجودنا حسب جدول نظمناه، وفي هذا اليوم كان قد جاء دوري في المراقبة، فمن فور دخولي إلى الملجأ، أغلقت الباب خلفي، ومن ثم انطلقت إلى نافذة تقترب من السقف وتوازي الشارع في الخارج، فبدأت أراقب ما يجري في خارج المبنى، وأعطي تعليماتي وتنبيهاتي لمن هم في الداخل، ليأخذوا حذرهم في حال اقتراب أي خطر ناتج عن النيران المتساقطة من السماء وكأنها المطر الكثيف، وأي مطر هذا الذي يشوي جلود البشر، أو بالأصح يخرجهم رمادا، حتى لا ينتظر أحدهم أن يوضع في كفن أو يوارى الثرى، بل تذروه الرياح هنا وهناك وتنقله إلى البعيد البعيد.
جلست أختي في إحدى الزوايا وقد سطرت دموعها المنهمرة على وجهها لوحة من الأسى والحزن، والخوف أيضا، ليس الخوف من خطر الخارج، لكنه الخوف من فقداني، فأنا الوحيد الذي تبقى لها في هذه الدنيا، بعد أن فارقنا أهلنا إلى نهايتهم، والتي قد تكون نهايتنا نحن أيضا. يا لها من دنيا أنانية وجريئة، تلك التي تحرم الإنسان حتى من رشق الضحكة حول نفسه، أو حتى أن يبتسم في وجوه الآخرين، وهذا في الغالب هو السبب الرئيسي الذي يجعلهم يهرعون إلى الرحيل عنها وبسرعة. رغم كل المعاناة التي كنت أعيشها في تلك اللحظات، ورغم كل الألم والإحساس بالظلم والقهر، إلا أنني بدأت بممازحة مها، ليس لأنني وددت إثارة غضبها، بل فعلت ذلك لأخفف مما كانت تعانيه، فقلت لها:
- مها؟
- نعم... ما بك يا أخي؟
- أتحسين الضجر؟
- ومن يحس الضجر في مثل هذا الوقت ومثل تلك الظروف؟!
- لم أقصد ذلك... أريد أن أقول...
- ما بك؟
- ألا تودين الخروج في نزهة قصيرة؟
- ماذا تقول؟! أجننت!
- لا... لكنني أشعر بالملل.
- وأن تشعر بالملل، معناه أن تذهب في نزهة لا رجعة منها!
فقلت في نفسي:
- آه... عرفت أنك خائفة.
ضحكت كي لا يحس أحد بما آلت إليه حالي من الأسى، كما أن أختي مها، صارت تنظر إلي بحنق، وصارت كل فترة تنظر إلي بجفاء وقالت لي:
- تضحك رغم كل ما نعاني، يا لك من لا مبال.
- يبدو لي أنه لا فائدة من محاولة طلب الخروج، ولو لبضع دقائق فحسب.
- نعم، لا يمكنك ذلك، فأنت مجنون، وأنا لا أقبل بأفكار المجانين أمثالك، وفي مثل هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، لذا... اصمت.
صمت حينها وأنا أعاود جر أطراف الحديث في محاولة مني لبدء حديث جديد تقبل مشاركتي فيه، علها تنسى ما يحدث في الخارج من مصائب، وما أن بدأت مجددا، حتى شعر الجميع بهزة قوية وكأنها زلزال، كانت هذه الهزة قادمة من أعلى المبنى، كان من آثارها أنا تناثر التراب في الملجأ وعمت زوبعة من الغبار حول المتواجدين، وحينها صار الصراخ والعويل يرددان صداهما في جنبات الملجأ المطمور، نعم... كان الجميع خائفين جدا في ذاك الوقت، فقد تلقت العمارة التي نحن في ملجئها قذيفة أدت بها فوق رؤوسنا، وهذا ما حدث.سألت:
- ما الذي حدث؟
فأجابني جاري العجوز أبو أحمد:
- لقد هدمت البناية من فوقنا، ونحن الآن تحت الأنقاض.
- ماذا تقول يا عم أبو أحمد؟! سنموت دون أدنى شك.
- لا يا ولدي... توكل على الله... وسوف يفرجها.
- لا يوجد لدينا طعام، ولا ماء، فكيف سأخرج لآتيكم بالطعام والشراب وباب الملجأ مؤصد بركام حجارة المبنى؟ إن الباب الآن مغلق ولن يتمكن أحد من فتحه بعد أن غمر بالحجارة، وهكذا لن يتمكن أحد منا من تجاوزه والعبور إلى الخارج.
- لا تخف يا بني، أنظر إلى النافذة، لم يصل إليها شيء من حجارة المبنى، سنفتحها وتخرج منها لتحضر ما يحتاجه الجميع هنا بإذن الله.
أزال الشباب قضبان الحديد المزروعة في حافة النافذة، وأجريت عدة محاولات للخروج من فتحة النافذة تلك، لكن... بدون فائدة، فالفتحة كانت ضيقة، فصرنا نزيد من مساحتها، وفي تلك الأثناء، كان الماء قد نفذ من الملجأ، وبدأ الصغار بالبكاء، وهنا... كاد التوتر أن يسيطر على نفسيتي، وكم فرحت حين أصبحت الفتحة ملائمة للخروج من خلالها، وما أن هممت بالخروج لإحضار ما يحتاجه الجميع- الأطفال والشيوخ والنساء، وكل المتواجدين في هذا الملجأ المطمور- حتى أحسست بيد من الخلف تمسك بي، لتوقفني وتمنعني من الخروج، كان ذاك هو الشاب الشجاع أمين، والذي كانت له كرات كثيرة كهذه في مثل هذا الوقت العصيب، وعقب:
- أنا من سيذهب.
- ليس لك هذا يا أمين.
- أنا من سيحضر الماء والطعام، فلا تمنعني من فعل ذلك.
- لكن الدور هذا اليوم علي.
- أعلم ذلك، لكن... ابق أنت مع هؤلاء الناس، فأنت أقدر على رعايتهم، وتدبر أمرهم.
- حسنا، كما تشاء، وشكرا على مساعدتك لنا، إنك فعلا رجل بمعنى الكلمة.
- أنا منكم، فكيف تشكرني على ما هو واجب علي القيام به، أم تشك في أننا أخوة؟!
- نعم... نحن أخوة، ونعم الأخ أنت... وأجدد امتناني.
خرج أمين بعد وقت حسبناه دهرا إلى مخازن الطعام في المنطقة المجاورة للعمارة المهدومة، وبدأت بجر ذيول الحديث مع من كانوا برفقتي في الملجأ، علني بذلك أخفف من شدة الخوف الذي حل عليهم بعد أن أصبحنا تحت الأنقاض، أو علني أهدئ روع المأساة التي وصلنا إليها، لكن... وفي لحظة ما... أحسست بشيء يهتز بداخلي، ودون وعي مني رأيت نظرات أمين الشجاعة عند خروجه من الملجأ لجلب ما يحتاجه الناس في الملجأ، ودون أن أعرف ما حل بي، وجدت نظري يتجه بسرعة إلى الخارج، ويا ليت ذلك لم يحدث، لقد وجهت نظري إلى الشارع خارجا كي أنظر ما لم يكن بالحسبان، فيا له من منظر ينفطر له الفؤاد وتقشعر له الأبدان، لقد التقت عيوني آنذاك بعيون أمين الذي كان خارجا يتخبط في بحر دمائه، بعد أن أصابته قذيفة من تلك المتساقطة من السماء، لقد نقلت أمين تلك القذيفة إلى ما كان يصبو إليه الكثيرون، لكنه لم يكن يريد ذلك في مثل هذا الوقت، فهو من كان قد خرج ليجلب للناس ما يلزمهم، لكن... يا لها من طريقة قاسية للموت، أن يسبح المرء في دماه وتشق آخر أنفاسه طريقها في الهواء، وهو يشير إلى ما جلبه لمن هم في الملجأ من حاجيات.
ها هو أمين قد سافر إلى البعيد، ليس لأنه طلب ذلك، بل لأنه حاول أن يطفئ رمق طفل يبكي بحرقة شدة العطش تحت الأنقاض، قتل لأنه أراد لإنسان أن يشق طريقه عبر ظلام الملجأ إلى الخارج، والذي لم يكن فيه ضوء شمعة تنير الدرب القاسي، أعطوا أمين في ذاك اليوم جواز سفر للرحيل، فتركنا أمين وكان أمينا، تركنا وها نحن ننتظر نهاية كنهاية أمين، ولا أحد يجرؤ على الخروج لإحضار قطرة ماء أو حتى كسرة خبز، كنا نحث أنفسنا على الصبر حتى يتوقف إطلاق النار، لكن إطلاق النار يزيد مع تقدم الوقت، فيعود أحدنا ليقول:
- متى ستكون النهاية؟
ويردد آخر:
- يا للفاجعة... ويا لهول النهاية تحت الأنقاض