بقلم : نداء يوسف أبونوفل ... 17.1.09
لم يكن بوسع هذا الأب اليائس من الحياة الصعبة اثر الاحتلال الغاشم الغازي لأرض فلسطين، المنتهك لحقوق أهلها، الناهب لخيراتها، ذاك الرجل الواقع في هذه اللحظات تحت ضغط زوجته، تلك التي لم تبرح الليلة عن طلب كعكة عيد ميلاد ولدها البكر، والذي بلغ في هذا اليوم عامه الأول، إلا أن يخرج من البيت متكدر المزاج، فيتوجه إلى أقرب حانوتي ليعطيه القليل الأخير المتبقي في جيبه من القطع النقدية، ويحصل بالمقابل على قالب الحلوى المطلوب منه في البيت.
أخذ الرجل يجر قدميه عائدا أدراجه إلى منزله ليقرع جرس الباب فتفتح له زوجته قائلة:
- أأحضرت ما طلبته منك؟
و باتخاذه الصمت إيجابا، يدخل البيت فيتوجه إلى أقرب مقعد يجده أمامه، ويضع الحاجيات التي أحضرها عليه، وبعدها يلتفت إلى زوجته من جديد وقد أنهكه تعب يوم طال عمله دون جني أي ثمر فيقول لها:
- سأرتاح قليلا... ومن ثم نتناسى ونزيح بعض الغم من على صدورنا.
- أجل... اذهب واسترح قليلا، أما أنا فسأجهز كل ما يلزم لنحتفل بطفلنا العزيز.
- لا تنسي الذهاب إلى بيت الجد والجدة لإحضارهما.
- بكل تأكيد سأفعل، فعمتي تنتظر مثل هذا اليوم بفارغ الصبر.
- طبيعي ذلك، فهو حفيدها الأول.
- لقد كانت فرحتها لا توصف هي وعمي عندما أنجبته.
- لقد أقام الجدان ليالي سمر رائعة احتفاء بحضور الصغير.
- أما الجدتان فقد أقامتا مأدبة كبيرة للأهل والجيران، وصنعتا أطيب الأطعمة وألذ الأطباق.
- ترى... هل ستعم مثل تلك الليالي إذا ما أكرمنا الله بطفل آخر، والمنطقة تحت وطأة الظروف الراهنة، وفي ظل هذه المعاناة التي نعيش؟
- يا الهي! إذا لم تترك هذا الحديث فلن تزيح الهم عنك هذه الليلة، كفاك يا رجل، اذهب واسترح في فراشك ودعني أقوم بعملي.
- أرجو لك التوفيق، ولتعم السعادة بيتنا الصغير هذه الليلة إن شاء الله.
ذهب الزوج ليستريح في غرفة النوم، غرفة صغيرة القي في وسطها ذاك السرير شبه الهالك، ذاك السرير الذي أنامه الدهر وأذله قدر ما كان بوسعه، وكان بجانب السرير سرير الرضيع، ألقى الرجل نظرة على صغيره النائم في سريره القريب من سرير أبويه، أتبع تلك النظرة الخاطفة بقبلة على جبينه الناعم - قبلة الأب الحنون - لم يكن في خاطر الأب في ذاك اللحظ أن هذه القبلة ستكون قبلة الوداع، وأنها لن تكون قبلة تهنئة بحفل عيد ميلاده، لم يكن يعلم الأب المسكين أن هذه القبلة ستكون آخر لمسة شفاه لجبين الصغير الطاهر في حياته المديدة، والتي مر عليها حولا كاملا، ذاك الطفل الذي كان ينتظر إطفاء شمعته الأولى، ولم يكن يطل على ما كان ينتظره من عجائب أعياد الميلاد وأفراحها، ومفاجآت الاحتفالات التي تتخللها، أما الأم فقد ذهبت إلى المطبخ، فجهزت الشاي ومن ثم ألقت نظرة لم تدر سببا لها على الطفل، وكأن تلك النظرة كانت تعبر عن عاطفة الأمومة الغريزية التي غرسها الله تعالى في جسدها، تلك العاطفة التي أحست بدنو لحظة الوداع، انطلقت الأم بعد أن نظرت طفلها إلى منزل والد زوجها، وهي تتلهف إلى العودة إلى بيتها، لترى صغيرها نائما في سريره كالمعتاد.
كانت فترة قصيرة تلك التي قضتها الأم في بيت الجدين، حيث دعتهم لحضور حفل عيد ميلاد الصغير، كما أنها دعت إخوة زوجها وأخواته الصغار، ومن ثم عادت مهرولة إلى بيتها مصطحبة معها أخا زوجها الصغير، وفي البيت جهزت مائدة الطعام، ومن ثم هرعت إلى الصغير فبدلت له ملابسه، وهنا أصبح طفلها الأجمل بردائه الأبيض الجديد، ومن ثم بدلت هي أيضا ملابسها، وما كادت تنتهي من ذلك حتى سمع قرع على باب المنزل، فانطلقت الأم من فورها إلى الباب لتفتحه أمام الضيوف، لقد كان أولئك هم الجد والجدة وأبناؤهما، حيث انضموا إلى الجميع في الغرفة. مع الطرق على الباب كان قد استيقظ الزوج فذهب إلى غرفة الطعام ليكون مستعدا لاستقبال أهله، فعند وصولهم إلى البيت انضموا إليه وأخيه الصغير في غرفة الطعام.
أخذت الجدة تجر قدميها إلى غرفة النوم لتحضر الطفل بنفسها، لم تكن قادرة على السير فقد هرمت ونال منها الكبر، إلا أنها ورغم ذلك، ولشدة ولعها بحفيدها الجميل ذهبت لإحضاره بنفسها، لتتمكن من إعطائه القليل من الحب والحنان اللذين قطنا أحشاءها له، وعندما وصلت الجدة إلى سرير الملاك الصغير، سبقت عيونها يديها لتنظر ذاك المشهد الرائع، طفل باسم الثغر ينظر إليها بكل براءة، ويتلهف إلى نيل قسط من دفء أحضانها، ذاك الملاك بردائه الأبيض الجميل، أدرك أحضان جدته أخيرا، وما هي إلا لحظات بعد وصول الجدة إلى الصغير، حتى أدركها الجد ليعيشا ذاك الحلم الرائع سويا، كان بطل الحلم ملاكنا ذو العام الأول، نظراه في البداية يوم ولادته، ومن ثم تخيلاه يوم دخوله المدرسة وبعد ذلك تخرجه منها، ومن ثم غابا ليرياه عندما التحق بالجامعة وكيف كان بزي التخرج في نهاية الدراسة، بصراه شابا رائعا، بهي الطلة، ليس له نظير بين أمثاله من أبناء جيله، وأخيرا نظراه قرب صاحبة الصون الرفيع، وذات الحظ السعيد، هذه التي كانت ستشاركه درب حياته، والتي كانت ستحسدها كل فتيات البلد على ما حصلت عليه من كنز ثمين، ذاك الكنز الذي لا مثيل له من بين الكنوز.
أفاق الجدان من رحلتهما الرائعة على صوت ولدهما، كان يناديهما ليبدؤوا حفل عيد الميلاد، فحملت الجدة الصغير إلى غرفة الطعام وهي ترفعه فوق رأسها، وتطوف به بين الرؤوس وكأنه حمامة بيضاء ترفرف فوق الجميع.
بدأ الحفل وأضيئت شمعة واحدة على قالب الحلوى، تلألأت أنوار الشمعة اليتيمة وسط الغرفة المعتمة، أتبع ذلك الغناء والنشيد بكلمات أعياد الميلاد الجميلة، وبدأ الجميع بالتهليل، لكن... وقبل أن تطفأ الشمعة، صارت تدوي في أرجاء الحي انفجارات كثيرة، وبدأ يغني الرصاص سيمفونيته المعتادة في جنباتها، وما هي إلا لحظات حتى أطفئت الشمعة مطفئة معها حياة الصغير، كذلك ذهب بقية أفراد العائلة في رحلة إلى مستشفى المدينة وقد اغتسلوا بدمائهم، ها هي هدية الطفل في يوم عيد ميلاده، ترسلها إحدى المدرعات المارة بالقرب من منزله بعد أن غلفتها بصاروخ، وضمنتها بطاقة عبور إجبارية إلى النهاية. لم تكن الأم تعلم أنها عندما ألبسته رداءه الأبيض أنها صنعت له كفنه، لكنه خط بدمائه الذكية رسالة إلى كل من يعيشون في هذا العالم، مفادها رفضه العبور إلى النهاية، فما كان رد العالم غير قول: " لقد كان هذا المتمرد إرهابيا، وقد كان يستعد للقيام بعملية انتحارية داخل إسرائيل، وبما أننا نعمل على محاربة الإرهاب، فإنه قد وجب إبعاده عن المنطقة حتى لا يسفك دماء المدنيين الأبرياء، وها نحن قد أمسكنا به متلبسا أثناء حفل وداع أهله قبل الخروج لتنفيذ هذه العملية الإرهابية ".
لقد كان حفل عيد ميلاد الصغير حفلا لوداعه، فلم يكن له حق في اختيار نهايته، ولم يحفظ سر وفاته آنذاك غير ضوء الشمعة، فما أن غرق ضوء الشمعة في بحر الظلام، حتى غارت أشلاء الصغير تحت أنقاض المنزل، وما بين أكوام التراب والاسمنت، فإن كذب الراوي... فليس عليكم إلا أن تبحثوا عن ضوء الشمعة، ولتسألوه يوم تجدوه ما كان ذنب الصغير عندما سفك دمه، فضوءها خير شاهد على ما حدث للطفل ذي العام الواحد.