بقلم : زهير ابن عيّاد ... 18.03.2009
*لعادات والتقاليد: لا نكاد نلحظ أي اختلاف بين عوائد أهل الحجاز وعوائد أهل النقب قديماً وحديثاً, فصفات وطبائع الرجل البدويّ في النقب ورثها أو استنسخها عن أهل الجزيرة العربيّة من كلام وتصرفات وأعمال وحتى الصفات البدنيّة المنتشرة هناك نجدها هي ذاتها المستعملة عندنا من جلوس سواء في مجلس أو على الاكل, ومن طرح التحيّة والسلام, وكذلك لون بدوي النقب الذي يميل إلى السمار أو اللون الصحراويّ كما هو حال أهل الجزيرة العربيّة.
اللباس البدويّ التقليديّ المنتشر "عدّة عرب" بمجموع بوادي العالم الإسلاميّ خاصةّ بين كبار السنّ من ازار وغطاء للرأس وهو المعروف عندنا بالكبر والعباة والمنديل والمرير, والتحزّم بنوع من انواع السلاح أن كان قديم أو حديث, ما هو إلاّ لباس مستقى من ظروف صحراء الحجاز ونجد القديمة, والناظر إلى صور شيوخ النقب القديمة يرى مدى الهامة والكأهل العربي, وكان بدو النقب لا يحلقون شعورهم وهذه عادة متاصلة جذورها في عرب الحجاز ونجد منذ القدم واشتهروا بصنع الغدائر من الشعر وهي الذؤابة والتي عرفها البدو بلفظ الجدائل ومفردها جديلة قال أبو الحارث:
غدائره مستشزرات إلى العُلا تضلُّ العقاصُ في مُثنى ومُرسل
اما المراة البدويّة في النقب فحالها ليس بعيد عن تلك الحجازيّة أو النجديّة في الأعمال والوظيفة, ولبسها وتستّرها حتى ادواتها التي تملكها للزينة هي كتلك من كحل... اضافةً إلى استعمالها للنباتات الطبيّة الصحراويّة كالخزامي والنفل والزقوح والشيح... ولا يخفى عليكم أنه حتى اليوم ما زالت هذه الاعشاب تُردّد في الشعر النبطي... كما أن الاحترام الذي تلقاه المراة البدوية من تقدير لمقامها وصون شرفها ما هو إلاّ من اثار البيئة الحجازيّة والنجديّة بحيث كانوا ينادون على المرأة بـ يا ام فلان وهي من سمات التشريف عندهم, ومن عادة العرب في النقب على قِدمها اعتدادهم بالشقيقات والبنات حين نزول الملمّات كقولهم " وان اخو وظحه" ون قُبيل هذه العبارات كان الشعراء الجأهليّون يردّدونها كثيراً كرموز عربيّة بدويّة...
ومن العادات المتشابهة أيضاً عمل الولائم والعزائم وجمع ابناء العشيرة "فيما يُسمى بالقِرى قديماً" واكرامهم وهي صفة عربية شريفة منذ القدم امتاز بها العرب. ولفظة القِرى كمفهوم ما زالت قائمة بين عربان النقب التي يتبادر إلى اذهاننا حين نطقها قِرى حاتم طي المشهور وقِرى عبد الله بن جدعان, كدلالات على سموّ ورفعة الكرم العربيّ والبدويّ خاصةً.
وتتشابه عادات القوم كذلك في مجالات الفنّ الذي غدا اليوم فنّ تراثي تقليديّ, ومن الفنّ المعروف لدى الفئتين وما زال يُردّد الدحيّة والسامر والهجينيّ والحداء والزجل, يقول زياد النابغة واصفاً نفسه من على ظهر ناقته:
تجتاب ارضاً إلى ارضٍ بذي زجل ماضٍ على الهول هاد غير محيار
والزجل الذي عناه النابغة هو الهجيني أو الشعر العامي الذي يغنيّه, هذا الزجل كنّا نلاحظه قديماً عند بدو النقب, في ظعنهم على الهجن وحتى عهد قريب كُنّا نشاهد الهجانة في لعبهم امام بيوت الاعراس يغنون بصوت عالٍ. وما زال هذا الزجل يردّد في الافاق الخالية, فإذا شعر البدوي بالوحدة مدّ صوته بالزجل. وهذا شاعر بدوي معاصر من النقب يقول:
غروب اهيجن على ناقتي اطرد وحشة ظلام الليل وسكونه
ومن العادات المتجذّرة جأهليّاً ويستعملها عرب النقب هي ادعية السقيا والغيث. فقد كان البدو حتى عهد قريب يخرجوا لبقعة خالية نساءاً ورجالاً "ليغيّثوا" وهي ادعية بسيطة نصوصها على شكل استجداء لطلب الغيث والماء, وهذا الأمر قديم قدم "وافد عاد" الذين ذهبوا ليستقوا لقومهم عند الحرم. وهناك طلب لسقيا افراد بعينهم قد ماتوا, والطلب من الله أن يسوق سحابة لسقي قبورهم تسرّب الينا من خوالي السنون دعاء سُقيا لاحد بدو النقب وهو:
يا رب عمزنة بها الغيث تسقي بها قبر ابن ليث
واظن أن هذا الدعاء استورده بدو النقب من الحواضر, لان اسم ليث مهجور عند البدو, على كلّ هذا الدعاء كمفهوم لمدى العلاقة بين بدو النقب في ثقافتهم والجأهليون بحيث نشاهد لهذا الدعاء قول متمّ بن نويره في رثاء اخيه ما له, وهو بيت قريب منه أي الدعاء:
سقا الله ارضاً حلها قبر مالك ذهاب الغوادي المدجنات فامرعا
- الحالة الدينيّة ورحلات التصوّف: لا شكّ أن السنوات ما قبل الثمانينيات كانت مُظلمة بالجهل الديني عند البدو, وقلّ ما تجد شخص يفقه أمور وتعاليم الشرع الإسلاميّ هذه حقيقة ترويها لنا سوالف الشيخان الشفهيّة حتى اليوم, من أنهم نادراً في القبيلة اجمعها ما تجد مصلّي, إلاّ أن هؤلاء الشيبان كثيراً ما يتبادروا كلامهم بانهم كانوا صافيين النية "نيّة سليمة" لهذا كانت اغلب سنواتهم خصاب... هذا وقد استمر الوضع إلى ما هو عليه حتى بدأت الصحوة الدينيّة عند بدو النقب وذلك في السنوات الاخيرة من الحركة الإسلاميّة والدعاة الخارجين في سبيل الله. هذه لمحة بسيطة عن الحالة الدينيّة التي كان عليها بدو النقب مع ما كوّنوه من معتقدات ربّما تكون مشركة بالله. وهذه الحالة ما هي إلاّ طبق الاصل لما كانت عليه حالة الحجاز ونجد وبواديها. التي ادت إلى بروز الاتجاه الوهابي السعودي في محاولة لارجاع الناس إلى الشرع الصحيح, وقد كان الأمر البارز في معتقدات بدو النقب كان الايمان بقبور الاولياء الصالحين وتعظيمهم وزيارة مقاماتهم والذبح لهم. وقد حدثوا أنهم يمرّوا بقطيع الغنم بجانب قبر الوليّ. ويخاطبوا الوليّ "اختر شاتك يا مبارك" ومن الغرابة أن احدى الشياة تتجه فوراً إلى قبر الوليّ دون أن يسوقها احد, فيذبحوها عنده, وهذه عادة متاصلة في الجذور الجاهليّة يقول الشاعر قيس بن الملوّح بعد أن نحر ناقته على قبر والده:
عقرت على قبر الملوح ناقتي بذي السرح لمّا أن جفاه الاقارب
وقلت لها كوني عقيراً فانني غداً راجلٌ امشي وبالامس راكب
أن من نتيجة هذه الأمور حصل عند هؤلاء البدو ثقافة معيّنة تكاد تكون اشراك بالله من أن الاولياء بامكانهم جلب الخير والرزق وطرد الشرور والمكارة واشفاء المرضى, وقد نُسِجت الاساطير حول هذه المقامات, وبسببها تكوّن عندنا أدب قصصي شفهي منقول يُفيد باحداث غريبة وقعت لعديد من الاشخاص عند تلك المقامات, وما زلنا نسمع تردّد هذه القصص عند كبار السن, ونعود لكلامهم هؤلاء الدائم من أن نيّتهم مع كلّ هذه سليمة, وظنّي أن ايمانهم بالله كان قويّاً فلو قيّض الله لهم العلم والدعاة منذ زمان لما راينا تلك الشعوذات والجهالة.
في اتجاه مماثل نلاحظ نفس العلاقة بين أهل الحجاز ونجد وبين أهل النقب في هذه المعتقدات بل أن أهلنا في النقب كانوا يزورون بعض المقامات في السعودية كمقام الشيخ حميد, وكان من ابرز اهداف الوهابيين في ردع الناس عن زيارة قبور الاولياء, وبالفعل قاموا بهدمها وبيّنوا حكمها الشرعي في الدين الإسلاميّ. اعتقد أن هذه المعتقدات لأهل النقب لم تأتي من فراغ, بل جلبها مهاجرون من بوادي العرب كالحجاز ونجد واستقطبها من كان هنا حتى انتشرت وعمّت.
كان هناك بعض المتصوّفة الذين جالوا اطراف العالم الإسلاميّ لنشر طرقهم, وكان من هؤلاء المكيّون والعراقيّون والشّاميّون, فبعض المتصوّفة الذين استقروا في الحجاز بما تملكه تلك من قداسة أو أنهم هم انفسهم حجازيون, اتجهوا إلى النقب, وبالتالي كوّنوا هم ومريديهم ثقافتهم الدينيّة الخاصة, فكانوا يتوغّلوا في الصحراء, ويستقروا في مكان ما ويؤسسوا لهم ما يُسمّى الزاوية, وقد يأتي اليهم البدو من كلّ صوب للتبرك دون الاندماج معهم لهذا نلاحظ أن هناك اشخاص معدودين في النقب كانوا متصوّفة وأهل دين. وعندما يتوفّى زعيم المتصوّفة في الزاوية فانه يُصبح من الاولياء الصالحين ويصبح مزار لأهل النقب ويحلفون به ويقدمون النذر عند ضريحه.
واني لاعتقد أن من أهلنا في النقب كان متفقّه في أمور الدين والعلوم الشرعيّة وربّما حَفِظَ القران وزار مكّة للسجع, وبسبب قلتهم وغرابتهم من المجتمع ما زلنا نسمع بذكراهم حتى اليوم كالشيخ أبو عيّاده والنباريّ والوليّ سعيد الكريشيّ, وعوائل هؤلاء هي من العشائر العريقة في النقب. قد يخطر ببال القارئ سؤالاً مهماً أنه بما اننا نتحدّث عن علاقة أهل الحجاز ونجد بعرب النقب, فالاخيرون يتبعون المذهب الشافعي خلافاً لهؤلاء الذين يتبعون المذهب المالكي؟, فالجواب أن فلسطين كلها تتبع الدولة التركيّة العثمانيّة التي اتبعت المذهب الشافعي, وكان أهل النقب من رعاياها في حين أن الجزيرة العربية كانت بعيدة نسبيّاً عن السيطرة العثمانيّة, فكان الاشراف وآل سعود فيما بعد التي انتجت من الحركة الوهابيّة التي اتخذت المذهب الاشد والمتشدد وهو الحنبليّ.
- اللهجة البدويّة: في اعتقادي أنها الاقرب إلى العربية الجاهليّة اقصد فصحى المعلقات, واظن أن الرسم التالي يوضّح لنا تطوّر اللغة العربيّة
- لغة المعلقات "قريش"
بداية العربية (جرهم وحمير – وبني اسماعيل - اللغة العامية التي وصلتنا اليوم
قد كانت بدايات العربية في ازمان جُرهم زعماء الحرم وأولاد اختهم بني اسماعيل وبني حمير في اليمن. تلك اللغة التي تطوّرت لتصل إلى فُصحى قريش وظهرت المعلقات على ساتر الكعبة, تلك اللغة التي نزلت بها المعجزة الخالدة والتي نضاهي بها الامم إلاّ وهي معجزة القران الكريم. ولا شكّ أن العربية قد وصلت إلى الذروة واخذت بالنزول والانحطاط لتصلنا اليوم على شكل لغة مقسّمة إلى لهجات عديدة ومنهن اللهجة البدوية التي حافظت على نقاوتها وذلك لمناعة الصحراء وبالتالي الحفاظ على اكبر قدر من المفردة العربية.
ومما لا ريب فيه أن لغة العرب لم تكن موحدة البتّة, انما كانت لهجات تتوحد بالفصحى عند عكاظ أو سوق المربد. فلهجة حمير تختلف عن ربيعة, وربيعة نفسها قد تختلف لهجاتها, لتفرّق موطنهم وبُعد الديار, فتغلب سافرت إلى هجر وبكر بن وائل إلى العراق, وعبد القيس إلى البحرين... نلاحظ أن اللغة العربية كانت ذات مستوى معيّن ايام جّرهم واخذت تعلو وتتّجه نحو الفصحى كما ذكرنا حتى زمن قريش ونشوء المعلقات وبعد ذلك ونتيجة لتوسّع العرب وخروجهم من الجزيرة العربية ومخالطة الاقوام, انحطت الفصحى وتغيّرت اللهجات وظهر على النحو وازداد اللحن في اللغة.
وبما اننا نعتقد أن لهجة أهل النقب مشابهة إلى حدّ بعيد تلك التي في الحجاز ونجد فنتسائل ونقول أن تلك المواقع كانت منبع الفصحى وعامتها الاساسيّة فكيف يا تُرى اختفت هذه الفصحى التي نلحظها في أشعارهم؟ وفي اعتقادي أن هناك العديد من الاسباب نحصر منها الآتي:
• من المعروف تاريخيّاً أن الإسلام بعدما عمّ وانتشر في بقاع الارض بين عربها وعجمها , وملك دولة مركزها خرج من الاماكن المقدّسة إلى الشام والعراق, تخالط العرب الخارجين مع الاقوام الأُخرى وظهر العاميّ في اللغة, ولا ننسى أن هناك فريضة الحج التي اخذت القلوب والافئدة تهوي إلى مكة, وتوارد العجم والمتصوّفة منهم على مكة يتمركزون بها لما لها من صبغة دينيّة روحيّة, كلّ ذلك علاوة على اجتماع الحجاج السنويّ من عرب وعجم ومكة والمدينة كانت بالطبع مركز وملتقى تجاري وسياسي لعربان الجزيرة وغيرهم من المسلمين غير العرب, فكانت بمثابة سوق كبرى لهم, ونتيجة ذلك خالطوا العجم فيها وتلعثم لسانهم وثقل واختفت الفصحى المعهودة. وقد ساهم في ذلك استقرار بعض العجم في مكة والمدينة للتجارة أو العبادة.
• هناك قبائل هاجرت باكملها مع الجيش الإسلاميّ خلال الفتوحات الإسلاميّة, واتجهوا خارج شبه الجزيرة العربية, ومن المحتمل أن هناك بعض العوائل التي استقرت خارج الجزيرة لسنوات عديدة قررت العودة إلى موطنها الاصلي "نجد الحجاز" وذلك بعد أن تلعثم لسانها, وعند عودتها وتمازجها مع السكان الاصليين ومع مرور الوقت تلعثم لسان الحجازيون والنجديون أيضاً ليصلنا اليوم على حال لغتهم العامية الحاضرة.
• كانت كلّ قبيلة لها نوع نُطُق خاص في اللهجة, وعندما تلتقي هذه القبائل تمتزج وتختلط هذه اللهجات مع بعضها لتخرج لنا في النهاية مع المؤثرات العامية. فنزار من الشمال وقحطان من الجنوب وعربان الشام والعراق عندما يتلاقون تتمازج تلك اللهجات.
اخيراً اذكر بان عربان النقب كانوا من هذه الموجات المهاجرة الحديثة والتي كانت تحمل لغة كلغات الحجاز ونجد الحالية, لغة مليئة ببقايا الفصحى, ولا مراء في أن الصحراء تحمل مناعة متناهية في الحفاظ على مفردات اللغة العربية, لا ادلّ على ذلك من اتجاه اللغويون نحو الصحراء لاجراء ابحاثهم الميدانية على اللغة العربية, وصحراء النقب كونها تحمل لهجة حجازية-نجدية, فهي إذا تعدّ لغة قريبة جداً من الفصحى وهاكم بعض الكلمات البدوية التي ما زالت سارية المفعول وهي كلمات تزخر بها الفصحى.
- نقول للرجل إذا اعتلى قمة "أنه سنّد المسناد" والمسناد هو السفح أي ما بين الجبل واسفله. وفي الفصحى القديمة نرى النابغة يقول في معلقته:
يا دار ميّة بالعلياء, فالسند اقوت, ولحال عليها سالف الابد
- نقول للشحص الذي ذهب ليجلب الماء أنه "ورد" أي أنه سار للماء لجلبه, وفي الفصحى أيضاً تشبيه عمرو بن كلثوم لورود المعارك بورود الماء إذ قال وفتخراً على ابي هند:
بانا نورد الرايات بيضاً ونصدرهنّ حُمراً قد روينا
وعكس الوارد هو الصادر وهو الذاهب عن الماء
- نقول في لهجتنا العامية "يكبّ" أي يقلب الشيء على راسه, قال امرؤ القيس يصف نزول المطر على مكان:
فاضحى يسحُّ الماء حول كتفيه يكبُّ على الاذقان دَوْحَ الكنهبل
- اعتاد البدو حتى الآن على حفر خندق صغير حول البيت يحول دون تسرّب الامطار إليهِ. وهو الذي يطلقوا عليه اسم النايا, واياه بلفظه قصد النابغة في قوله:
عوجوا فحيّوا لنُعم دمنة الدار ماذا تحيّون من نُؤيٍ واحجار
والنايا في عُرف العرب بالإضافة إلى حفرة النار واحجارها تُعتبر من الاطلال والرسوم الدوارس التي تبقى بعد الرحيل.
- نقول في عاميتنا "اوطيت عَ السبع" أي نزلت أو هبطت مدينة بئر السبع وطاتها برجلي من بطأ موطأ وهو مهبط القدم فيُقال وطئته برجلي أطوه, والقدم مهبطها يكون على الارض الممهدة السهلة. وفي الحديث "اشدد وطاتك على مضر" والمواطاة هي الموافقة على امر يوطئه كل واحد لصاحبه. ولهذا قال البدو عن النعال "الوطىء".
- نقول لشخص اكثر في الكلام وضايق الجلساء "لا تهرج" والهرج هو الخلط في الكلام. قال ابن قيس الرقيات:
ليت شعري ازول الهرج هذا ام زمان من فتنةٍ غير هرج
- إذا طلب الشخص الخلاء فارّاً يقولوا عنه "هجَّ" وهي في لغة القُدامى تعني طلب الغموض والاختفاء, ويُقال عن الوادي العميق الهجيج ومن الصحراء المظلمة الهجاج, وهي اماكن وحشة وخلاء ومنها قالوا هجّ ومنه جرى في امثال الجاهليّة "كثر الهرج والمرج" يقول المتمرس بن عبد الرحمن الصحاري:
ولا يدع اللئام سبيل غيّ وقد ركبوا على لومي هجاج
- يقال اُبرم الحبل, وجرى في امثال البدو –ابرمه برم الحبل- أي افتله باحكام. قال ابن الطفيل:
واضرب بالسيف يوم الوغى اقدّ به حلق المبرم
- في العامية نقول للشخص إذا هربت منه الدابة "انك نفرتها" وكذلك نقول للدابة التي تُجافي ولدها أنها نفرته, واصل نفر في اللغة هو تجافي وتباعد الدابة عن مكانها, يقول الفراء:
حيّننك ثمّت قالت أن نفرتها اليوم كلهم يا عرو مشتعل
- نقول لرجل خلع شيء عن شيء أنه قشع, وقد عرفوا في الفصحى قديماً أيضاً تلك اللفظة, واعتقدوا أن القشع ما يُرمى به عن الصدر من نخاعة...
وقالوا أن الريح تقشع السحاب وانه قد ينقشع قال متمّم بن نويره:
إذا القشع من ريح الشتاء تقعقعا
- الشعر البدوي: انظر فصل خاص بالشعر البدوي الحديث في النقب ص.
الشعر والذي يسمّوه البدو "القصيد" وهو شبيه بالشعر النجدي والحجازي الحالي والذي يُطلق عليه النبطي. وقصيد البدو ضارب في عمق البداوة ونابع من صحراءها, بل أنه يعكس طبيعة عيش الاجداد بكلّ تفاصيلها. واليوم على الرغم من التطوّر الحاصل في الفنون وغزو المدينة للصحراء., إلاّ أنّنا نُشاهد عودة مذهلة لابناء النقب لهذا النوع من الشعر, وقد قابلت العديد من هؤلاء الشعراء المبدعين في هذه الساحة, ومن خلال تتبُّعي لهذا الشعر وجدت رغم التطوّر في الوسائل الفنيّة أنه ما زال يتمتّع برزانة ورنّه اصيلة إذ يحوي العديد من مفردات البداوة ومعاني الصحراء.
إلاّ أن الابيات قديماً وحديثاً لم تكن تولّي الاوزان وابحور عناية بقدر ما تحاول ترجمة أفكار نابعة من صاحبها, فتأتي صادقة الاحساس والشعور فيصيب قلب النتلقّي وينبهر به, وفي ظنّي أنه لو قُيِّضَ لهؤلاء الشُّعار العلم اللازم للالمام بموسيقى الشعر وتفصيلاته ودراسة قديمة وحديثة, لاتوا بالعُجاب.
هناك لفظة تدلّ على أن الشاعر يقول الشعر, إذ يقول البدو عن فلان شاعر "أنه يقول..." والمراد هو قول الشعر والقصيد, وفي القديم وصفوا من يتعاطى الشعر بقولهم عنه أنه يُقرض الشعر.
ومما يؤكد تلك العلاقة الشعرية بين نجد والحجاز بالنقب هو تلك المفاهيم التي يتبادلها الشعر, واشتراك البيئتين بنفس المدلولات والصور الثقافية فهما جميعاً ينهلا من معين تقليدي واحد هو بيئة الصحراء القديمة, ففي الثقافة الشعرية للمجموعتين نلاحظ في صور عديدة منها – هبوب الشمال, نوح الحمام, الابل عطايا الله, شدّيت ع عبيّه, طلّة سهيل اليماني, برق السحاب, عريب الجدّ, الايام تجاريب... وهي اكثر من أن تُحصى.
حتى في اتجاه آخر نجد أن اسماء الشعراء هنا مائلة لتلك في الحجاز ونجد كعنيز بن سالم الترباني وهو سيناوي, وعنيز اسم متداول كثيراً في بيئة نجد والحجاز... ولا نتناسى الادوات الموسيقية المصاحبة للشعر التي استعملت في البيئتين كالربابة والعود... وكذلك معرفة الطرفين بانواع الشعر من شعر الحصاد والحرب والغزو وهي الاهازيج التي تُردّد على ظهور الخيل. انظر لنماذج حيّة معاصرة في الشعر لأهل النقب في الملاحق.
يقول عيّاد بن عديسان في وصف القهوة اخترت منها الآتي:
لنو دلق من مطلبه قُلت شبراق ودم قلبي انقطع منه معلوق
ولا صفي لك عند مدموجة الساق انهب من الدنيا ترى العمر ملحوق
وهذا المعنى ذكرني بمعلقة طرفة بن العبد الذي وصف الخمرة ولذة السكر وفي ابيات مشابهه للابيات السالفة " انهب من الدنيا ترى العمر ملحوق" يقول:
لعمرك ما الايام إلاّ معارة فما اسطعت من معروفها وتزوّد
وقصد بمعروفها اللذات واطاييبها.
*اجمال الفصل الأوّل:
لا شكّ بوجود اتصال قديم بين ثقافة وأدب الجزيرة العربيّة ممثّلة بالحجاز ونجد وحاليّاً السعودية العربية, وبلاد النقب والشواهد على ذلك اكثر من أن تُحصى, والمتعارف عليه أن جُلَّ العرب القاطنين في الآفاق قد خرجوا من الجزيرة العربية في زمن لا يمكن تحديده بدقّة. ولكن وتيرة ودرجة الحفاظ على النقاء العروبي سواء بالدم أو الأدب أو الثقافة واللغة تختلف من منطقة لأُخرى, فالذين اتجهوا إلى الحواضر والمدن قد ابتعدوا عن الاصل كثيراً فمثلاً الشام ودمشق كانت ذات اعراق عديدة قبل دخول العرب اليها وحتى بعد دخول العرب اليها جاءها الاتراك والفرس والتتار وغيرهم, فعلى هذا لا نستطيع البحث في ذلك المجتمع على مدى تأصّل الأدب القديم فيه, لأنّه خالط اقوام عديدة فتلعثم لسانه وتغيّرت ثقافته لبعده عن الاصل والمنبع. اما الذين اتجهوا إلى الصحراء فقد ملكوا نوعاً من الحصانة الثقافية, مكنتهم من الحفاظ على تراث الجزيرة القديم لقرون طويلة رغم تباعد السنين, والاحداث التي عصفت بالصحراء إلاّ أنه وبدرجة ما تبقى الصحراء معيناً نابضاً بالحياة والثقافة القديمة, هذا بالإضافة إلى أن التغييرات التي تطرأ على ثقافة الصحراء نستطيع التماسها لسهولة الأمر وصعوبة التغييرات. من هذا المبدأ نستطيع أن نقول أن صحراء النقب قد تكون من الصحاري الاقرب إلى ثقافة الحجاز ونجد الجاهليّة. هذا وكيف لو اعتبرنا أن هجرة أهل النقب قد تكون حديثة لبعض قبائلها. اخيراً اجمل أفكاري في الفصل الأوّل في عدّة نقاط للتسهيل على القارئ وهي:
• بالمؤشرات التي اسلفنا نستدلّ على أن بدو النقب قد خرج اجدادهم من قلب الجزيرة العربية.
• الجزيرة العربية تُعتبر مهبط الرسالة ولها قداسة مميزة في قلوب البدو, لهذا حافظوا على ثقافتها عندما خرجوا منها, وما فَتِأت قلوبهم ترنو إلى هناك.
• عندما خرج البدو من الجزيرة العربية أصبحوا كالغرباء في البلدان المفتوحة, لهذا حافظوا على عوائدهم وثقافتهم, حنيناً منهم لموطنهم الاصليّ.
• العرب من قِدَم امّة صحراويّة تكتفي بشظف العيش, ويرافقهم هذا الشعور كفطرة اساسيّة اينما حلّوا, وهذا من احد الاسباب القوية لدواعي حفاظهم على التراث والثقافة الخاصة بهم.
• الجزيرة العربية تمثّلت بصور عديدة بَقِيَ صداها مرافقاً للمهاجرين, كالاطلال ومصادفة الوحوش والذئاب, والظعن والحلّ, ونجم سهيل اليمانيّ... لهذا نرى الشعراء المهاجرين كثيراً ما يتطرقوا إلى الاطلال في شعرهم ويتخيّلوا انفسهم في الحجاز أو نجد...
• بما اننا ذكرنا أنه لا مُراء في أن البدو هنا هم احفاد العرب الحجازيين والنجديين, فإذا لا شكّ في انتقال حنين ولوعة آبائهم إلى موطنهم الاصليّ اليهم, وبقي ذكرها بينهم شائعاً وبالتالي حافظوا على ثقافتها وتراثها.
• العرب امّة عصبيّة تتعصّب للعروبة ومنبعها, والجزيرة العربية هي معدن العرب ومنها انتشرت انسابهم, لهذا حافظوا وبسبب العصبيّة على ثقافة اجدادهم, من جهة أُخرى نلحظ أن الشعراء عندما يتغزّل بمحبوبته يذكر نجد ويمتدحها "كعريب الجدّ" وكانه يقول أن حبيبته من عرق ماجد اصيل منبته كان هناك حيث قبائل العرب العريقة. فهذه المسافات التي تفصله عن الحجاز ونجد رُسِمت في اشكاليّة التعصب للعروبة, وان الشاعر لا يتغزّل إلاّ بربيّة حرّة اصولها القديمة من جزيرة العرب. وهي نبذة فخر اشتهرت بين العرب وما زالت حتى اليوم في تقسيمات قبائل النقب فذاك يقول انا سعودي وذاك صعيدي وآخر يمني.
• انتقال البيئة الحجازية والنجدية مع العرب اينما حلّوا وان تغيّر اسلوب الحياة والعيش, وإلاّ أن التقاليد والعادات الموروثة من هناك بقيت قائمة.
• اشتهر العرب بحفظ الانساب ومعرفة اصولهم, ومن نتائج ذلك الحفاظ على الثقافة والتراث الاصلي.
• أن انتقال وهجرة القبائل العربية إلى النقب وتقسيمه بينهم طبقاً للصورة التي كانت سائدة بينهم في نجد والحجاز, وبقيت تلك كصور ذهنيّة لا بدّ منها كتقسيم المراعي وموارد الماء, هذه الصور ولو أصبحت ذهنيّةى إلاّ أنها ابقت للجزيرة ذِكراً بينهم فهم يتنازعون على البلاد كما كانوا يتنازعون في نجد, ولا ريب أنهم في مجالسهم كانوا يذكرون ما كان لهم في الجزيرة وما آل إليهِ وضعهم الحالي مثلاً...
اخيراً لا شكّ أن الثقافة العربية باجمعها ذات وبنت منبع واحد, إلاّ أن هناك ثقافات تأخذ منحى مغاير باندماجها بثقافات أُخرى, وبعض الثقافات تتطوّر قليلاً, كثقافة أهل النقب التي تطوّرت بعض الشيء عن اصلها, واعني بالتطوّر الابتعاد عن المنبع في العادات مثلاً, كقضية نوعية طرح السلام والتحيّة وكيفيّة اداءها تختلف في النقب عما هي هناك في الحجاز ونجد بدرجة معيّنة, كذلك الاختلاف عمّا هو حاصل الآن هناك من التقسيمات القبليّة الكلاسيكيّة عدناني وقحطاني وقضية الانساب, تلك التي اختفت من قواميس بدو النقب...