بقلم : د. فيصل القاسم ... 2.2.09
كم كنت أضحك وأنا أشاهد الجماهير العربية على شاشات التلفزيون وهي تحض حكامها على نصرة غزة، متجاهلة حقيقة صارخة تفقأ العيون ببشاعتها. لماذا غاب عن تلك الجماهير الهادرة في تلك اللحظات أنها لا تستطيع أن تطلب من حكامها شيئاً من ذلك القبيل أبداً، لأنها باختصار لم تختر أولئك الحكام ليحكموها، وبالتالي فإنهم ليسوا مسؤولين أمام الشعوب، بل أمام من عيّنهم ليجثموا فوق صدور الجماهير.
معظم حكام العالم مختارون ومنتخبون من شعوبهم، ويحكمون وفق أجندات وبرامج وطنية بحتة، مهما تكالبت عليهم الضغوط والتدخلات الخارجية. بعبارة أخرى فإن الدوائر الانتخابية للحكام الوطنيين الأحرار هي دائماً دوائر داخلية وطنية، لا خارجية. أما معظم حكامنا العرب، فهم ليسوا منتخبين داخلياً بل خارجياً، أي أن الدوائر الانتخابية للكثير من حكامنا ليست داخل بلدانهم، بل خارجها. وغالباً ما تعرف السفارات الأمريكية والأوروبية في أي بلد عربي اسم الحاكم الجديد وبطانته قبل كل الشعوب العربية. ولا يمكن لأي دولة عربية أن تقدم على تعيين حاكم جديد إلا بالتنسيق والتشاور مع البيت الأبيض، وأخذ مباركته.
ولا أعتقد أن العديد من الدول العربية يختلف كثيراً عن جمهوريات الموز، إلا ربما في نوعية المادة التي تنتجها بلداننا، فتلك الجمهوريات اللاتينية تنتج فاكهة، ونحن ننتج نفطاً أو مستهلكون أو أجهزة أمن، هذا هو الفرق الوحيد بيننا وبينهم تقريباً، لكن النتيجة واحدة.
قلما تجد دولة عربية أو حاكماً عربياً لديه مشروع وطني خالص، فمعظم مشاريعنا مفروضة من الخارج، بما فيها مناهجنا الدراسية وسياساتنا الإعلامية، فحتى وسائل إعلامنا ليس لدينا كل الصلاحية لتوجيهها كيفما نشاء، بل علينا أن نوجهها في كثير من الأحيان حسب الأهواء الأمريكية. وخير مثال على ذلك تلك الامبراطوريات الإعلامية العربية التي لا هم لها أبداً سوى تسويق الخطاب الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الأمريكي والغربي عموماً وفرضه على الجماهير العربية بأموالنا. ومن نافلة القول إن معظم سياساتنا الاقتصادية مربوطة بصندوق النقد الأمريكي، المعروف مجازاً بالدولي.
ولا داعي للتذكير بأن الخارج الأمريكي يتدخل حتى في تعيين بعض وزرائنا، فما بالك بحكامنا. وكلنا يتذكر كيف طار أحد وزراء الخارجية العرب من منصبه، لأن وزيرة الخارجية الأمريكية غضبت منه، فما كان من الريس إلا أن استبدله بسرعة البرق بوزير يروق للهوى الأمريكي والإسرائيلي.
وكم من الدول العربية اشترت الحكم بالفلوس، على مبدأ: ادفع تحكم! ومن يدفع، ويتنازل أكثر يحكم أطول. باختصار فإن معظم حكامنا لديهم ضامن خارجي يضمن لهم بقاءهم في السلطة، أي أن معظمهم اشترى بوليصات تأمين على الحكم من الفرع السياسي لمؤسسة "فردي ماك" الأمريكية للتأمينات.
باختصار، فإنه ليس لدينا حكام بقدر ما لدينا وكلاء، على حد تعبير المفكر التونسي هشام جعيط. فأمريكا تتعامل مع عالمنا العربي على أنه ملكية أمريكية. لكنها بدلاً من أن تعين لها حكاماً أمريكيين، تتكرم علينا بتعيين حكام من أبناء جلدتنا بوظيفة وكلاء، أو نواب عن البيت الأبيض.
ومخطئ من يظن أن الوكلاء العرب (الحكام) ليسوا ديموقراطيين، بل هم ديموقراطيون من الطراز الأول، فهم يخدمون، ويمثلون من انتخبهم على أكمل وجه. وبالتالي من الإجحاف اتهام الحكام العرب بأنهم يخونون شعوبهم، فلو كانت الشعوب هي من انتخبتهم، ثم خانوها لربما استحقوا الاتهام بالخيانة، لكن بما أن الدوائر الانتخابية الأمريكية هي من انتخبتهم، وليست الشعوب العربية، فإنه بإمكاننا أن نتهمهم بخيانة الأمانة فقط عندما يتخلفون،معاذ الله، عن خدمة السيد الأمريكي. وهذا لم يحدث أبداً حتى الآن، فالوكيل العربي المنتخب أمريكياً يقوم بواجبه بكل أمانة وإخلاص.
أليس من السخف بعد كل هذا أن نطالب الحكام العرب بالتغيير، أو بالإصغاء إلى مطالب الشعوب العربية بمحاربة إسرائيل والدفاع عن الشعب الفلسطيني، أو أي بلد عربي يتعرض للغزو أو الاحتلال الأمريكي أو الإسرائيلي؟
بعبارة أخرى فإن المعركة ليست مع إسرائيل أبداً، فكلنا يعلم أن إسرائيل هي، بلغة الأمريكيين أنفسهم، الولاية الحادية والخمسون، إن لم تكن أكثر الولايات أهمية. فكيف يحارب حكامنا ولاية أمريكية مهمة انتخبتهم وحمتهم ليحكمونا؟
من المستحيل أن يقدم زعيم عربي على تحدي الدائرة الانتخابية التي اختارته، أو يتمرد عليها. ولهذا فإن معظم الحكام العرب صمتوا صمت القبور إزاء المحرقة الصهيو- أمريكية في غزة. فلو كان حكامنا يمثلون شعوبهم فعلاً لما توانوا لحظة عن دعم غزة بالغالي والرخيص، ولتصرفوا بطريقة وطنية عاصفة، لكنهم ملتزمون بالبرنامج الانتخابي الذي جاءوا على أساسه إلى السلطة، ألا وهو مباركة كل ما يفعله ناخبهم الصهيو- أمريكي، فمن يعين الحاكم العربي يطلب السياسة أو اللحن الذي يريد.
قد يقول البعض: ليس كل الحكام العرب منتخبين أمريكياً، فبعضهم ناهض أمريكا، وناهضته. لكن حتى هذه النقطة يجب أن لا نأخذها على محمل الجد، ويجب أن نعيد النظر في صحتها ومصداقيتها. فليس كل من ناطح أمريكا إعلامياً، وشتمها يعني أنه ليس مؤتمراً بأوامرها وتوجيهاتها. وقد صرح مسؤول أمريكي كبير ذات مرة قائلاً: "نحن لا يهمنا ما يصرح به بعض الحكام العرب ضدنا في وسائل إعلامهم المحلية، بل يهمنا بالدرجة الأولى ما يقدمونه لنا من تحت الطاولات، فمثلاً، نحن نطلب من بعض الحكام العرب ذوي الأصوات العالية أن ينفذوا لنا من أمر ما أربعين بالمائة، فنجدهم ينفذون مائة وأربعين بالمائة".
ولا داعي للحديث عن أولئك الذين سلموا حتى سكاكين المطابخ للعم سام كي يضمنوا بقاءهم على كرسي الزعامة.
ولا داعي للحديث عن الذين عادوا أمريكا في الماضي، ثم راحوا يتوسلون لها بالغالي والرخيص كي ترضى عنهم، وتعيدهم إلى حظيرة الرعاية.
وكي لا نظلم الجميع، هناك زعماء لديهم بقايا وطنية، لكنهم ليسوا منتخبين شعبياً، وبالتالي لا يمكنهم الركون إلى الحماية الشعبية كي يبقوا في مناصبهم، وذلك على عكس الحال مع الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز الذي أطاحت به أمريكا، لكن شعبه أعاده إلى السلطة خلال سبع وأربعين ساعة، وبالتالي عليهم مداراة الناخب في البيت الأبيض وكسب وده، ولو على مضض، كي يظلوا على الكراسي، ناهيك عن أن حب السلطة عند هذا الصنف العربي شبه الوطني يتغلب، في الكثير من الأحيان، على وطنيتهم، خاصة إذا كانوا يعلمون أن تغليب الوطنية الكاملة، من دون دعم شعبي حقيقي، لن يجلب لهم سوى السقوط، أو ربما المشنقة الأمريكية.
ولا ننس أيضاً أنه حتى لو كان بعض الحكام العرب وطنيين فعلاً، فإنهم أضعف من أن يواجهوا الجبروت الأمريكي لأسباب موضوعية تتعلق بضعف بلدانهم.
وفي اليوم الذي يصبح فيه حكامنا مختارين من شعوبهم، وتتحول دوائرهم الانتخابية من الخارج إلى الداخل، سنجد أن لا أمريكا، ولا إسرائيل ستتجرأ لا عليهم، ولا على غزة، ولا على أخواتها.
قولوا لنا من انتخبكم، نقل لكم من أنتم !