بقلم : علي الكاش ... 30.4.08
في العراق الجديد اختلفت المقاييس المعمول بها عما هي عليه في دول العالم ولم تعد تتواكب مع طبيعة المرحلة القاسية التي يمر بها العراق وهو قابع تحت شرنقة الاحتلال البغيض, فالأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بدأت تتخذ اتجاهات متصادمة كأمواج البحر وتتكسر على سواحل الذاكرة العراقية المصابة بالذهول مما يحدث فقد بلغ الجزر النهضوي والتنموي والتطور والازدهار والرفاه الاجتماعي والرقي الحضاري أقصى مدياته وتشابكت وتداخلت المفاهيم وحرفت الشعارات بشكل غريب, الصناعة والزراعة والتجارة والثقافة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمختلط, جميعها لفظت أنفاسها الأخيرة على عتبة الاحتلال, وتعطلت الحياة بمختلف قطاعاتها وضاعت المعايير الأخلاقية والأدبية والاجتماعية, وذبح الدين بخناجر المراجع الدينية دون رحمة وضمير, واصطيد العلماء والأطباء والقادة وبقية النخب الاجتماعية بشباك من صنع أمريكي وإسرائيلي وإيراني عالي الجودة والكفاءة, واشتغلت الديمقراطية الأمريكية في قطاع التجارة البشرية فبدأت بتصدير كفاءات العراق إلى دول العالم واستيراد قوميات أخرى بديلا.
في العراق ألاحتلالي أصبح الجاهل عالما بشهادة مزورة والشرطي قائدا بتزكية حزبية, واللص وزيرا بوحي أجنبي, والأجنبي نائبا, والمجرم قاضيا, والغريب مواطنا, والمواطن غريبا, وأصبح العبد سيدا, والسيد عبدا وتحول رجال الدين إلى أبالسة ينافسون إبليس مهنته ومهمته ومهارته, إنه فعلاً عراقا جديدا, جديدا بمفاهيمه ومقاييسه ونخبه الجديدة.
في العراق ألاحتلالي أصبح السجين حارسا وتحول الحارس إلى سجين, وأفرغت السجون من المجرمين وسلموا قيادة البلد وملئت الزنزانات بالشرفاء والمواطنين الصالحين والمناضلين ورجال المقاومة الباسلة, وأعتقل كل من ينضح وطنية وغيرة على العراق وشعبه, حالة فريدة من نوعها أن تحل السجون محل المعامل والمتاجر وتتوسع في الزمن الديمقراطي ليصل عددها إلى ما يقارب الألف سجن, وكل سجن له مرجعيته الخاصة وطقوسه الفريدةة, حتى حكومة الاحتلال فيها سجون عائدة إلى وزارة العدل وأخرى إلى وزارة الداخلية وغيرها للدفاع إضافة إلى السجون الأمريكية والبريطانية والسجون الخاصة بالأحزاب السياسية, كل يتفنن في طرق اختياره السجون ووضع ضوابط خاصة بإدارتها. لقد حولوا العراق إلى سجون ومقابر فهما القطاعان الوحيدان اللذان شهدا تطورا فعليا في العراق الجديد.
المجرمون من وجهة نظر الاحتلال وحكومته الذليلة ليس القتلة و اللصوص والميليشيات وفرق الموت ومافيا النفط, فهؤلاء أحرار وليس عليهم من حرج, بل أنهم يمارسون إجرامهم تحت أنظار الحكومة والاحتلال دون أي رادع!
المجرمون في العرف الأحتلالي هم صفوة القوم فمنهم رجال دين وخطباء وأساتذة جامعات ومفكرين وعلماء وسياسيين وقادة عسكريين وطلاب جامعات ومهندسين وأطباء, جريمتهم الوحيدة هي حب الوطن مع سبق الإصرار والترصد, فحب العراق يجري مع دمهم في دورته الوطنية الكبرى والصغرى, جريمتهم إنهم قالوا لا للاحتلال ولا للباطل ولا للكفر ولا للظلم ولا للنهب والسلب والجريمة والعمالة, وهل هناك جريمة أكبر من كلمة لا؟
تُهمهم عديدة كل منها تستحق الموت, منها أنهم قايضوا تراب الوطن بأرواحهم الغالية وكانوا نعم الرجال الأوفياء المخلصين وهذه تعد واحدة من كبائر الاحتلال, والثانية إنهم رفدوا مسيرة الجهاد مدفوعين بالعزيمة والوطنية الفطرية المتجذرة في أعماقهم, والثالثة إنهم في ظل السبات الوطني والصمت الحوزوي دقوا ناقوس الخطر والحذر ووثبوا يوقظون النيام ليدركوا حجم الكارثة, والرابعة إنهم نهلوا من النبع الإيماني وتشربوا بتعاليمه السمحاء ورفضوا التعاون مع الجزار الأمريكي وصبيه العميل, والخامسة إنهم اعتزوا بعروبتهم وحموا قوميتهم وعمقوا هويتهم الوطنية وغلبوها على النوازع المذهبية والعرقية, والسادسة إنهم آمنوا بالفريضة السادسة الجهاد, والسابعة تتمثل في رفضهم لمفاهيم الاحتلال والتسلط والهيمنة والإذلال, والثامنة إنهم رفضوا سياسة الترويض الفكري وقولبة أنماط السلوك الجمعي التي يمارسها الاحتلال مع النفوس المريضة والضعيفة لكي يسخرها لخدمة أهدافه, والتاسعة لأيمانهم العميق والراسخ بالعيش في ظل بنية اجتماعية تقوم على أسس المواطنة الصميمية والعدل والمساواة والحرية والتحرر, وعاشرة الكبائر أنهم أفرغوا الشعارات التي روج لها الاحتلال وحكوماته المتعاقبة من محتواها الزائف وأظهروا حقيقة الاحتلال وأهدافه الرامية إلى تمزيق العراق وطنا وشعبا.
لأول مرة في التأريخ تتشرف السجون بمساجينها وتصبح منارا وصرحا مقدسا للكلمة الصادقة والمواطنة الحقيقية, ورمزا لمقارعة الاستبداد والطغيان, ولأول مرة في التأريخ يكون الأحرار داخل السجون والعبيد خارجها, ولأول في التأريخ يعير السجين سجانه ويستهجن ضعفه وتخاذله وانحطاطه.
سجون العراق أمست ساحة للوغى بين الحق والباطل وبين الأيمان والكفر وبين العدل والظلم وبين المواطنة والعمالة وبين النزاهة والدناءة وبين الحب والكراهية وبين الشرف والرذيلة وبين النضال والخيانة, حيث تجري معارك شرسة يستخدم فيها السجانين أبشع أنواع الأسلحة التي تعافها وتأنف منها محاكم التفتيش في العصور الوسطى, أساليب افتقرتها عصور البربرية والهمجية, وتقيأت من بشاعتها شريعة الغاب, من اغتصاب رجال الدين والنساء والأطفال والشيوخ, وتعذيب جسدي ينافس عذاب الجحيم تستخدم فيه أضخم تقنية لتدمير الإنسان.
أكثر من (400) ألف سجين عراقي يتوزعون على (36) سجن رسمي ومئات السجون غير الرسمية التي تديرها قوات الاحتلال والحكومة العراقية والأحزاب السياسية والميليشيات المتنفذة وفرق الموت, سجون خارج رصد الضمير الإنساني وخارج مديات المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان, سجناء مجهولون الهوية والتهمة والمصير بعضهم مضى عليه خمس سنوات بلا حكم ولا تعرف أسرته إن كانت روحه في الأرض أو في السماء, فالديمقراطية الأحتلالية لا تسمح للسجين العراقي بأن يتصل بأهله أو تفصح عن مصيره ولا تسمح للمنظمات الإنسانية بزيارة السجون, فقد أصبحت كل سجون العراق هي نسخ طبق الأصل من سجن غوانتنامو!
في سجون العراق نخبة من مسئولي النظام الوطني السابق وضباط كبار أسروا خلال الغزو الأمريكي وهم وفق الشرعية الدولية أسرى حرب ويفترض أن يعاملوا وفق اتفاقيات جنيف الخاصة بأسرى الحرب, ولكن الأمم المتحدة التي شرعنت الغزو الأمريكي لم تتمكن من أن تشرعن حقوق هؤلاء الأسرى وتطلب من الولايات المتحدة أن تتعامل معهم وفق القانون الدولي في الوقت الذي كانت فيه تتسابق مع الزمن في إصدار قرارات تدين النظام الوطني السابق في مفارقة خسيسة لا تتناغم وسمعتها الدولية التي وصلت بعد الغزو إلى الحضيض.
كلنا نستذكر المسرحية الكويتية حول الأسرى الكويتيين في العراق والتي استغلتها الكويت بطريقة بشعة في كل المحافل الدولية وحتى أميرها الراحل كتب على طائرته الأميرية" لا تنسوا أسرانا" خلال تنقلاته وزيارات لدول العالم وأصدروا مجلة سميت " الأسير" وتم تسخير المنظمات الدولية ومنها الأمم المتحدة والصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية والمنظمة العربية لحقوق الإنسان والإعلام العالمي لخدمة قضية الأسرى الكويتيين! وبعد الغزو سكتت الكويت فالمسرحية انتهت وأسدل الستار على الأسرى! وبانت الحقيقة!
ونتساءل لماذا لم تتعامل دول العالم والمنظمات الدولية والإقليمية والعربية مع الأسرى العراقيين بنفس الطريقة التي تعاملت فيها مع ما يسمى بالأسرى الكويتيين؟ وهل هناك فرق بين أسير وأسير وفق القانون الدولي والمنظور الإنساني؟ إذا ما افترضنا جدلا صحة الرواية الكويتية فأن الأسرى الكويتيين لا يمثلون نسبة واحد من الألف بالنسبة للأسرى العراقيين؟ أن ازدواجية المعايير أمست سمة واضحة للحكومات الغربية والمنظمات الدولية في طريقة تعاملها من العراق ومشاكله!
نعتقد إن موضوع الأسرى والسجناء العراقيين لا بد أن يأخذ أبعاده الحقيقية من خلال مؤسسات المجتمع المدني والتحرك على المنظمات العربية والدولية لتتحمل مسئوليتها تجاه هذه الكارثة الإنسانية, ونعتقد إن منظمتي الصليب الأحمر الدولية ومنظمة العفو الدولية اللتان كانتا لا تكف عن الصراخ على مصير الأسرى الكويتيين حري بأن تمارسا نفس الصراخ على مصير الأسرى والسجناء العراقيين, طالما أن الإنسان في عرفهما هو قيمة اجتماعية عليا.
وحري بكل عراقي أن يساهم بإسماع صوته والتعبير عن شجبه واستنكاره إزاء هذه الكارثة الإنسانية, وان تقوم أسر السجناء والاسرى والمعتقلين بإسماع أصواتها إلى الرأي العام الدولي, وان تستفيق وزارة حقوق الإنسان من غفوتها وتمارس الحد الأدنى من مسؤولياتها ليس الوطنية فهذا الأمر مستحيل في ظل الاحتلال ولكن من مسئوليتها الإنسانية على اقل تقدير!