بقلم : تيسير خالد ... 23.4.08
نهاية تشرين الثاني من العام الماضي انعقد في الكلية البحرية – ميرلاند في الولايات المتحدة الاميركية " مؤتمر انابوليس للسلام " .
الرئيس الاميركي جورج بوش افتتح المؤتمر بكلمة اكد فيها ان المؤتمر ينعقد لاطلاق مفاوضات على الفور بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي بهدف التوصل الى اتفاق سلام قبل نهاية ولايته ، أي قبل نهاية العام 2008 ." هذه فرصة تاريخية يجب استغلالها لتحقيق السلام والوصول الى هدف دولتين فلسطينية واسرائيلية تعيشان جنباً الى جنب في سلام بعد عقود من الصراع وإراقة الدماء ". هكذا حدد الرئيس الاميركي الهدف من عقد المؤتمر. لم ينس الرئيس جورج بوش في خطاب الافتتاح ان يدعو الى محاربة ما أسماه بالارهاب وتفكيك بنيته التحتية وان يحث اسرائيل على وقف توسيع المستوطنات .
نحن نقترب الآن من نصف عام على اختتام اعمال " مؤتمر انابوليس للسلام " ونقف على أعتاب منتصف العام 2008 ، ولا يبدو في الافق اشارت على أن نهاية العام الجاري سوف تجلب معها بشائر سارة في مسار الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي .
صحيح ان مؤتمر انابوليس قرر ان يبدأ الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي المفاوضات في الثاني عشر من كانون أول عام 2007 ، واعطى لهذه المفاوضات عاماً كاملاً بهدف التوصل الى حل دائم للصراع ، غير ان اوساطاً واسعة ، فلسطينة وعربية بالدرجة الرئيسية لم تظهر في حينه ارتياحاً للقرار او تفاؤلاً بالمستقبل لاعتبارات كثيرة ، منها ان المؤتمر جعل من خطة خارطة الطريق الدولية ، التي اقرتها اللجنة الرباعية الدولية في نيسان من العام 2003 ، مرجعية لهذه المفاوضات . معروف هنا ان الادارة الاميركية ماطلت طويلاً في اعتماد خارطة الطريق الدولية وعطلت اعتمادها قبل ذلك التاريخ ، حتى لا تشوش على خطط الغزو للعراق ، ولا تشوش كذلك على انتخابات الكنيست ، التي كانت آنذاك على الابواب . اعتماد خارطة الطريق الدولية ، كمرجعية لمفاوضات قرر مؤتمر انابوليس اطلاقها كان مؤشراً واضحاً على الاتجاه العام للحركة بعد المؤتمر في كل ما يتصل بالتسوية على المسار الفلسطيني – الاسرائيلي واحتمالات عدم وصولها الى الهدف المنشود . ذلك أمر طبيعي ، خاصة وان حكومة اسرائيل رفضت بعناد التقيد بجدول زمني واضح ومحدد لانهاء مفاوضات الوضع الدائم قبل انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش وقبل نهاية العام 2008 . نهاية العام 2008 تحولت الى هدف مفتوح على اكثر من احتمال ، على احتمال التوصل الى اتفاق وعلى نقيضه كذلك ، ولأن المرجعية التي ارتضتها الادارة الاميركية للمفاوضات كانت خارطة الطريق الدولية ، وما تنطوي عليه من مقاربات امنية للمصالح الاسرائيلية لم تعد تخفى على احد ، فان نقيض احتمال التوصل الى اتفاق يصبح هو الارجح ، دون ان تتحمل كل من الادارة الاميركية وحكومة اسرائيل المسؤولية عن الفشل . وفي الحقيقة، فان ما تم التوصل اليه وما جرى التوافق عليه في أنابوليس من تفاهمات هو العودة الى طاولة المفاوضات ، بعد سنوات من الانقطاع وبذل الجهود من اجل التوصل الى اتفاق يتطلب وفق ما جاء في خطاب الرئيس جورج بوش تنازلات مؤلمة من الجانبين ، تأخذ في الاعتبار وقائع على الارض فرضتها ممارسات وسياسات الاحتلال على امتداد أربعين عاماً ، مثلما تأخذ في الاعتبار التحفظات الاسرائيلية على خارطة الطريق الدولية ، هذه التحفظات ، التي استوعبتها تماماً رسالة الرئيس جورج بوش الى رئيس الوزراء الاسرائيلي أرئيل شارون في نيسان عام 2004 .
ليس في هذا حكم مسبق وغير واقعي على العملية ، التي قيل ان مؤتمر انابوليس قد انعقد من اجل اطلاقها ، ذلك ان ما يجري على الارض من نشاطات استيطانية وما يجري كذلك في ماراثون اللقاءات والمفاوضات بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت أولاً ، وبين ابو علاء قريع وتسيبي ليفني ثانياً وفي بعض اللجان التفاوضية ثالثا ، التي اتفق على تشكيلها بين الجانبين ، تؤكد جميعها ان الهدف ، الذي حدده مؤتمر انابوليس لنهاية العام 2008 ، اي التوصل الى اتفاق حول قضايا الوضع الدائم ، ليس اكثر من هدف وهمي .
فما يجري على الارض من نشاطات استيطاينة يؤكد لكل من له إلمام بالسياسة ان حكومة اسرائيل تفاوض نفسها وتسعى الى فرض التسوية وفق رؤيتها الخاصة لخطة خارطة الطريق الدولية وتحفظاتها عليها ، وهي في سياساتها هذه تستند الى الرسالة ، التي بعث بها الرئيس جورج بوش الى أرئيل شارون ، وهي مطمئنة تماماً الى ان اللغة الملتبسة التي تستخدمها الادارة الاميركية ، وحتى الاتحاد الاوروبي ، من النشاطات الاستيطانية ، تنطوي على دعوة الجانب الفلسطيني لمواصلة المفاوضات في ظل التعايش مع هذه الممارسات والنشاطات الاسرائيلية الاستيطانية . ذلك هو الذي يفسر ان اسرائيل اعلنت بالضبط مع بدء المفاوضات في كانون أول من العام الماضي عن عطاءات لبناء مئات الوحدات السكنية في كل من جبل أبو غنيم ومعاليه ادوميم .
لقد تصاعد النشاط الاستيطاني بعد مؤتمر أنابوليس ، دون ان يثير ردود فعل دولية وردود فعل من الادارة الاميركية تتناسب مع حجم تعارضه وتناقضه مع المرحلة الاولى من خطة خارطة الطريق الدولية وما تفرضه على اسرائيل من التزامات ، بما فيها وقف البناء في المستوطنات ، حتى لاغراض النمو الطبيعي . حسب معطيات " حركة السلام الآن " الاسرائيلية ، وهي معطيات متوفرة تماماً عند الادارة الاميركية ،فقد نما التوسع الاستيطاني في الاشهر الثلاثة الاولى ، التي اعقبت مؤتمر انابوليس ليبلغ ضعفي ما كان عليه العامين 2002، 2003 واحد عشر ضعفاً لما كان عليه في العام 2004 ، وبدأت الضفة الغربية تشهد استيطاناً متوحشاً ترعاه كل من حكومة ايهود اولمرت وبلدية لوبوليانسكي . حكومة اولمرت تعلن عن عطاءات لبناء مئات الوحدات السكنية الاستيطانية في جبل أبو غنيم ومعاليه ادوميم في أرمون هانتسيف على أراضي جبل المكبر ( في القدس ) وفي غيلو بين القدس وبيت لحم وبلدية لوبوليانسكي تعلن هي الاخرى عن عطاءات لبناء مئات الوحدات السكنية الاستيطانية في مستوطنات بسغات زئيف شرق القدس والنبى يعقوب شمال شرق القدس والتحضير لبناء مئات الوحدات الجديدة في مستوطنة كدمات صهيون على أراضي بلدة أبو ديس والعيزرية .
الى جانب هذا كله يزحف وحش الاستيطان هذه الايام على أراضي عطاروت/ قلنديا وسط مناورات تذكرنا بتلك التي سبقت الشروع في البناء الاستيطاني على جبل أبو غنيم . وفي التاسع عشر من كانون الاول من العام الماضي ، أي بعد أقل من شهر على مؤتمر أنابوليس جرى الاعلان عن النيه لبناء حي استيطاني يهودي يستوعب اكثر من عشرة الاف وحدة سكنية في منطقة شمال شرق القدس على أراضي قلنديا . الخارجية الاميركية طلبت في حينه عدداً من التوضيحات ، فجاء الرد على لسان ايهود اولمرت ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني ، اللذان انكرا علمهما بالامر ، في وقت اعلن فيه وزير الاسكان زئيف بويم ان وزارته طلبت من " دائرة اراضي اسرائيل " السماح لها ببدء مرحلة التخطيط لبناء هذه المستوطنة الجديدة .
هل نحن من جديد أمام قصة جبل أبو غنيم جديدة . فقط لإنعاش الذاكرة ، نعود الى القصة القديمة ، للتحذير من سياسة الخداع الاسرائيلية . ففي العام 1991 صادرت حكومة اسرائيل 1850 دونماً في جبل أبو غنيم لاغراض المصلحة العامة . وفي العام 1994 بدأت مداولات في اللجنة المالية في الكنيست الاسرائيلي حول بناء ثمانية الاف وحدة سكنية تستوعب اربعين الف مستوطن في جبل ابو غنيم . حكومة اسحق رابين تبدأ في العام 1995 التخطيط لبناء المستوطنة ، حيث تنشأ أزمة مع السلطة الفلسطينية ويجري تأجيل الشروع في المخطط لبناء المستوطنة ، وبعد ذلك بعامين ، أي في العام 1997 نشهد سباقاً بين بنيامين نتنياهو ، رئيس الحكومة وبين ايهود اولمرت رئيس البلدية ، تماماً كالذي نشهده هذه الايام بين اولمرت ولوبوليانسكي ، لانجاز المشروع وبناء المستوطنة . اليوم يعيش في هذه المستوطنة نحو عشرة الاف مستوطن .
عطاءات وحش الاستيطان لا تقتصر على ما تسميه حكومة اسرائيل بمنطقة نفوذ القدس الكبرى ، بل هي تمتد على مساحة اوسع لتغطي جميع الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية ، كما يحدث في ارئيل والكنا في محافظة سلفيت وفي غيرها . ايهود اولمرت يدعي انه لا علاقة ولا تناقض بين هذه النشاطات الاستيطانية وبين تطبيق المرحلة الاولى من خطة خارطة الطريق الدولية ، ومارك ريغيف المتحدث باسم رئيس الحكومة يبرر عطاءات وحش الاستيطان حين يؤكد انها تندرج في اطار سياسة الحكومة ، التي تعهدت في مؤتمر انابوليس حسب زعمه ان اسرائيل لن تقوم ببناء مستوطنات جديدة أو بمصادرة اراض جديدة أو بالتوسع خارج حدود المستوطنات القائمة في القدس وفي بقية محافظات الضفة الغربية .
اذا كان هذا هو الذي يجري على الارض بعد مؤتمر انابوليس ، فما الذي يجري في المفاوضات ، التي بشر المؤتمر بانطلاقها للتوصل الى تسوية سياسية قبل انتهاء ولاية الرئيس الاميركي جورج بوش وقبل نهاية العام 2008 ، سواءً في المفاوضات التي تجري بين الرئيس محمود عباس وايهود اولمرت وبين ابو علاء قريع وتسيبي ليفني او تلك التي تجري في بعض لجان المفاوضات ، التي جرى تشكيلها مؤخراً ، و أحجمت الاغلبية الساحقة من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عن المشاركة فيها .
في الوقت ، الذي تواصل فيه حكومة اسرائيل نشاطاتها الاستيطانية بعد المؤتمر على نحو غير مسبوق وتطلق العنان لوحش الاستيطان في منطقة القدس وغيرها من محافظات الضفة الغربية ، فانها تمارس مع الجانب الفلسطيني سياسة استيطانية في المفاوضات ، فتعرض عليه وفق احدث خرائط التسوية حلولاً لا يمكن لوطني فلسطيني ان يوافق عليها . خرائط التسوية ، التي تعرضها حكومة اسرائيل تستثني من اراضي الدولة الفلسطينية العتيدة ، او من حل الدولتين ، الذي يدعو له الرئيس الاميركي جورج بوش ، تستثني من البحث مناطق اللطرون ، اي المناطق التي كانت تقوم عليها قرى عمواس ويالو وبيت نوبا ، التي هدمتها اسرائيل عام 1967 أولاً ، والقدس الشرقية ومحيطها ثانياً ، والكتل الاستيطانية ، التي اقامتها في الضفة الغربية ثالثاً . ذلك يعني ان اسرائيل قررت من جانب واحد ضم نحو 15 بالمئة من اراضي الضفة الغربية ضما نهائياً في اية تسوية محتملة . الخرائط ذاتها تستبعد كذلك ان تكون الاغوار الفلسطينية جزءاً من اراضي الدولة الفلسطينية ، فالاغوار مناطق عسكرية وأمنية ومجال أمن حيوي لدولة اسرائيل يجب ان تبقى تحت السيطرة الاسرائيلية ، اي في وضعية المناطق التي صنفتها الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بين دولة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطنيية كمناطق C . والاغوار الفلسطينية وفق هذه الخرائط ليست سهل الاغوار ، بل تمتد على مساحة بعمق 17 كيلومتر من نهر الاردن الى الغرب لتصل في الشمال الى تخوم طوباس وفي الوسط والجنوب الى تخوم معاليه ادوميم .
صورة مظلمة لحل الدولتين تقدمها النشاطات الاستيطانية والمفاوضات الجارية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي . واذا ما اضيف الى هذه الصورة الرؤية الاسرائيلية للتسوية في القضايا المطروحة ، او في القضايا التي يفترض ان تكون مطروحة على جدول اعمال مفاوضات الوضع الدائم كقضايا اللاجئين والقدس والمياه والحدود ، فان افق التقدم في مسار التسوية قبل نهاية العام 2008 يصبح افقاً مسدوداً ، وأفق التقدم في مسار الامن والتهدئة والاستقرار يصبح مغلقاً على دائرة أمنية تنذر بأخطار المواجهات الساخنة والانفجارات ، الامر الذي بات يفرض على الجانب الفلسطيني العودة الى المؤسسات الدستورية الوطنية ، للبحث في الخيارات السياسية الوطنية لحماية المشروع الوطني ، قبل فوات الاوان ، فمؤتمر انابوليس لم يطلق عملية سياسية جادة وحيقيقة بقدر ما اطلق مفاوضات عاثرة واستيطان متوحش .