أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
وضع المرأة العربية: التَّدهور مستمر!

بقلم : خالد الحروب ... 28.11.07

رغم كل الحديث والجهود حول تنمية وتقوية وتمكين المرأة العربية إلا أن المحصلة العامة الراهنة تشير لصورة بالغة القتامة. ربما أمكن القول بإمكانية استخدام مقاربتين لتقييم واقع المرأة العربية (أو أي واقع آخر بشكل عام)، الأولى هي المقارنة الزمنية العمودية للواقع الراهن بالماضي القريب, وهنا يغلب على التقييم نمط الاستحسان الذاتي ذاك أن حال المرأة العربية الآن أفضل بكثير مما كانت عليه شقيقتها قبل نصف قرن مثلاً. وهناك أيضاً المقارنة الأفقية الأكثر دقة والأوثق صلة بالعالم المُعاش حيث تتم المقارنة بما وصلت إليه المرأة في العالم, وبخاصة في المناطق ذات الشروط والظروف القريبة من تلك التي تميز المجتمعات العربية (أفريقيا، آسيا، أميركا اللاتينية، أو ما يعرف بالعالم النامي). والطريقة الثانية ربما تصدم الوعي الراضي والاستحساني السائد الناتج عن الطريقة الأولى، لكنها أفضل بكثير ولا تنطوي على مخادعة للنفس وللواقع نفسه.
بعد تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية العربية حول تمكين المرأة، والذي صدر عام 2005 ورسم صورة حقيقية، ومحبطة، أمامنا اليوم التقرير السنوي الدولي الذي يصدر في سويسرا عن المنتدى الاقتصادي العالمي حول المساواة بين الجنسين أو وجود فجوات في الوصول نحو الفرص والمصادر المتاحة في دول العالم .
يرتب التقرير الدول تنازلياً بحسب تحقق المساواة بين المرأة والرجل وتناقص الفجوة بينهما. ومعايير المساواة التي يعتمدها التقرير هي أربعة: التحصيل العلمي، المشاركة الاقتصادية، التمكين السياسي، الرعاية الصحية. والمنهج الذي يتبعه هو تقييم تمكن المرأة من الوصول إلى ما هو متاح، بغض النظر عن مستوى ما هو متاح, وذلك بهدف تحييد عنصر غنى أو فقر الدول. أي أنه ليس مهماً إن كانت المصادر والفرص المتاحة وفيرة أو نادرة، بل ما هو مهم هو إمكانية وصول المرأة لهذه المصادر والاستفادة منها مقارنة بإمكانية وصول الرجل للمصادر نفسها. وخلاصة ناتج وضع المرأة في هذه المجالات الأربعة يعطي الدولة المعنية مؤشراً وترتيباً ضمن جدول الدول الـ128 التي أمكن للقائمين على التقرير أن يصلوا إلى معطيات إحصائية خاصة بها. إذن أمامنا في التقرير جدول طويل يصنف الدول ويعطينا فكرة سريعة عن وضع كل دولة إزاء مسألة المساواة بين الجنسين وفي ضوء تحقق المعايير الأربعة المذكورة.
قبل استعراض المواقع المخجلة للدول العربية في هذا الجدول من الضروري الإشارة إلى ملاحظة أولية أساسية، وهي أن هذه الدراسات والتقارير والجداول الدولية تُقابل بانتقادات غريزية سريعة من قبل كثير من المعلقين العرب، وكذلك بردود فعل مباشرة ترفض كل ما تأتي به هذه التقارير. والمثال الصارخ على ذلك هو الردود والمعالجات القاسية وأحياناً اللاعقلانية التي تعرضت لها تقارير التنمية الإنسانية العربية، رغم أن القائمين عليها كانوا نخبة من أفضل الباحثين والعلماء العرب. منطلقات انتقاد هذه التقارير، سواء من اليمين الديني المحافظ، أو اليسار الثوري الرافض، وما بينهما، تكاد تلتقي: فهي ترفض ما تراه تطبيقاً لمعايير عولمية على مناطق العالم ومجتمعاته من دون الأخذ بالاعتبار خصوصية كل منطقة، وتنظر بريبة إزاء «نيات» القائمين على تلك التقارير وبكونها تريد في المآل الآخير تشويه أو إدانة المجتمعات العربية أو الإسلامية ودمغها بالتخلف. ليس هذا مجال مناقشة مثل هذه الانتقادات، لكن من المهم الإشارة إليها والقول فقط إن التمترس خلفها يقود، من ضمن أشياء كثيرة، إلى إغلاق التفكير وعدم التأمل في تردي الوضع العربي اجتماعياً وثقافياً، والوقوع فريسة الدفاع المرضي عن الذات, وهذا وغيره لا يؤدي إلا إلى المساهمة في ادامة التخلف المحيق بنا لا أكثر. ما تورده هذه التقارير من إحصاءات ومؤشرات ليس خلاصات مقدسة، بل قابلة للنقاش والنقد وحتى الدحض، لكن بالتأكيد هي تقدم صورة إجمالية يجب أن يتم تأملها ويجب أن تدفع باتجاه الفعل الإيجابي لمحاولة التخلص من الوضع القائم، وليس الدفاع الطفلي عنه.
في ترتيب الجدول المذكور تحتل الدول العربية التي تضمنها التقرير (وهي ليست كل الدول العربية) وباقتدار ذيل الترتيب، أي تقريباً مواقع العشرين دولة الأخيرة من ضمن الـ128 دولة. لكن صورة هذا التدهور تأخذ أبعاداً مؤلمة أخرى عند التأمل في ترتيب العشرين دولة الأولى. فضمن هذه القائمة نجد طبعاً الدول الاسكندنافية وبعض الدول الأوروبية، لكن ما سيدهش الكثيرين هو أن دولاً ينظر اليها كثير من العرب نظرة دونية، إن لم تكن احتقارية، احتلت مواقع متقدمة. فمثلاً أحتلت الفيليبين الترتيب السادس فيما احتلت سيريلانكا الترتيب الخامس عشر (وكلتاهما يُنظر اليهما عربياً على أنهما من البلدان المصدرة للخادمات فحسب!). وهناك أيضاً جنوب أفريقيا في الترتيب العشرين، كما احتلت كوبا الموقع الثاني والعشرين. الولايات المتحدة جاءت بعد كوبا بتسعة مواقع لتحتل الموقع الحادي والثلاثين، فيما إسرائيل في الموقع السادس والثلاثين. ويحتوي الترتيب على مفاجآت أخرى أهمها ترتيب فرنسا في الموقع الحادي والخمسين وإيطاليا في الرابع والثمانين.
ما يدفع مجتمعات مثل الفيليبين وسيريلانكا وكوبا إلى مقدمة الدول التي حققت مساواة بين الجنسين، وفق المعايير الأربعة المعتمدة في التقرير، هو اتساع نطاق التعليم والرعاية الصحية على أوسع نطاق، حيث أن نسبة الأمية بين الإناث في هذه الدول قريبة من الصفر (أو صفر كما هي في حالة كوبا). والأمر نفسه ينطبق في مجال الرعاية الصحية الأولية الخاصة بالمرأة (الحمل، والولادة، ونسبة وفيات الأطفال الرضع، ونسبة وفيات الأمهات عند الولادة... الخ) التي تشمل أرجاء كل بلد من هذه البلدان، وليس فقط المدن والمناطق المدينية المأهولة بغالبية السكان في البلد المعني. وهذا يختلف عن الكثير من الدول الأخرى (ومنها العربية) حيث تتركز الخدمات الصحية في المدن الكبرى، وربما تصل تلك الخدمات من ناحية تخصصية إلى مستويات رفيعة، لكن يظل اتساع نطاق تلك الخدمات خارج إطار البؤر المدينية محدوداً. وفي هذا السياق هناك أمثلة غير محدودة في المنطقة العربية على وجود نهضة تعليمية أو صحية كبيرة في بلد ما، لكن تتوازى مع وجود نسب أمية هائلة ورعاية صحية متدهورة في البلد نفسه. والمشكلة هنا هي في توسيع نطاق الخدمات الأساسية على شكل أفقي، وليس التباهي بتطور تلك الخدمات في العاصمة والمدن الكبرى على شكل رأسي وحسب.
المعيار الآخر الذي يزيد من تدهور «تمكين المرأة» في المجتمعات العربية وبالتالي يدفع هذه المجتمعات الى أسفل قوائم التصنيفات الدولية هو غياب دور المرأة في الشأن العام، وتواضع مساهمتها الاقتصادية. وإذا كانت الدولة تتحمل المسؤولية الأكبر في تخلف المعيارين الأولين بشأن المرأة، التعليم والرعاية الصحية، فإن المعيارين الآخرين يتحمل المجتمع المسؤولية الأكبر في ترديهما. فكلا الأمرين، المشاركة في الشأن العام والمشاركة الاقتصادية، يواجهان إعاقات اجتماعية وثقافية نابعة من قبلية المجتمع العربي وسيطرة الثقافات التقليدية. وهنا نرى قيام واستمرار ما يمكن أن نسميه «التحالف العربي ضد المرأة» والذي يضم انماط التفكير المحافظة والتقاليد المسيطرة على المجتمع, والنظرة القبلية التي ما زالت ثقيلة الوطأة، والرجعية الفكرية التي نشرتها الحركات والقوى المحافظة، وهو أقوى تحالف موجود في المنطقة العربية في الوقت الراهن! ولعل أفضل الشواهد على الفعالية المدهشة لهذا التحالف وجاهزيته العالية لإجهاض أي توجه تحرري إزاء قضية المرأة في المجتمعات العربية هو ما أنتجته «التجربة البرلمانية العربية» في بعض البلدان. ففي برلمانات الأردن والكويت والبحرين واليمن على سبيل المثال، يتجسد التحالف المذكور على الأرض على شكل إقرار تشريعات جديدة تعيق من تقدم المرأة، او الوقوف أمام تشريعات تطرحها قوى انفتاحية وتقدمية تحاول زحزحة الوضع القائم لكنها تجهض جميعاً على صخرة ذلك التحالف المذكور.
ما تنتهي إليه الأمور وفي الدول العربية برمتها، وإن كان بدرجات متفاوتة، هو أولاً انتاج مجتمعات نصف مشلولة حيث المرأة غائبة أو شبه غائبة كفاعل أساسي في عملية التنمية (السياسية، والاجتماعية والاقتصادية). وثانياً انتاج حداثة مشوهة تستورد المقتنيات الحديثة وتخلق قناعاً تكنولوجياً تلبسه لكتلة التقاليد البالية وأنماط التفكير العاجزة عن انتاج ما هو جديد، لأنها مستحوذة بآليات الدفاع عما هو قديم، بزعم ومظنة أنها تدافع عن «الهوية والثقافة المحلية»، وحيث صار الدفاع الفوري والميكانيكي غير الواعي ضد أي نوع من أنواع النقد هو المنتج الوحيد الجاهز للاستخدام.

*باحث واكاديمي فلسطيني