بقلم : رشاد أبوشاور ... 29.5.08
في هذه الأيّام التي (نعيش) مرارة وقائعها، أري مع كثيرين أن حقائق أحاطت بنكبتنا في فلسطين، قد غيّبت، وأن إعادة تركيز الضوء عليها، وكشفها للمواطن العربي، والفلسطيني أوّلاً، يمثّل جوهر عمليّة تصحيح وتغيير للوعي،وإنقاذ من حالة التيه، والتخلّص من المعوّقات التي يتسبب بها وضعنا الذاتي، وتشبّث الجهلاء بالتحكّم بالقرار.
هناك حقائق مغيّبة عمدا، أو جهلاً، هي نقيض لما روّج له الإعلام، والخطاب السياسي الصهيوني والغربي الاستعماري، والعربي الرسمي!
النكبة لم تقع علي رؤوس الفلسطينيين في العام 48، ولكنها، وهذا ما يقّر به كحقيقة ثابتة لا تدحض، مؤرخون (يهود) استيقظت ضمائرهم أمام ثقل وقائع تاريخيّة، وقعت في فترة مبكّرة، وبمقدمات وأسباب أدّت إلي نكبة فلسطين، تضافرت فيها عوامل موضوعيّة محيطة، وذاتيّة عربيّة، تراكمت علي مدي قرون من الغياب عن مسيرة التطوّر البشري، في الحقبة العثمانيّة
تحطيم المجتمع الفلسطيني، وإفقاره، وقتل وتشريد قياداته، ليتحوّل إلي مجتمع تائه ضائع، لا مرجعيّة له، وبخاصة بعد تدمير ثورة فلسطين الكبري 36 ـ 39، كان أحد أهّم العوامل التي أدّت للنكبة.
بريطانيا الدولة المنتدبة علي فلسطين، لتمدين شعبها، وتأهيله لحكم نفسه، في غضون ثلاثين سنة هي عمر الانتداب، عملت علي تهيئة الأرضيّة المناسبة لتدمير شعبنا،ووضع الأسس لإنشاء الدولة الصهيونيّة!
برعاية دولة الانتداب، تمّ تسريب عشرات ألوف اليهود إلي فلسطين، وأنشأت الحركة الصهيونيّة مؤسسات (دولة)، من جيش، وبنوك، وصناعات، وتجارة مستقلّة، وموانئ، وتعليم، وعلاقات سياسيّة وديبلوماسية، وأجهزة تجسّس تجمع المعلومات عن أدّق تفاصيل حياة الفلسطينيين، مع عمي تام فلسطيني وعربي عمّا يدبّر صهيونيّا!
التدخل العربي الرسمي، لإنهاء ثورة 36 ـ 39، واستجابة قيادات شعب فلسطين، لدعوة الحكّام العرب، بإيقاف الثورة، والركون إلي وعد الحليفة بريطانيا ـ لم يتعلّموا مّما فعلته بريطانيا مع الشريف حسين، والثورة العربيّة الكبري ـ حتي انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة،.. حقنا للدماء.
ادعاء دخول سبعة جيوش عربيّة لإنقاذ عرب فلسطين، وتلقين (العصابات) الصهيونيّة دروسا في ميادين الحرب، هي واحدة من أكثر الأكاذيب التي روّجت، تضليلاً، وقادة الحركة الصهيونيّة أكثر من استثمروها، ليجعلوا العالم يصدّق أن العرب عدوانيون، وأن اليهود مساكين ضعفاء يتعرضون، من جديد، للإبادة، وذلك لابتزاز (الضمير) الأوربي!
ثبت أن الجيوش التي أدخلتها الجامعة العربيّة لم تكن من حيث العدد تبلغ نصف ما أعدته العصابات الصهيونيّة، ولم تكن مسلحة تسليحا مناسبا، وهي أدخلت لتقف عند حدود التقسيم، وهذا ما أعاد التأكيد عليه المؤرّخ المصري ـ أحد الضبّاط الأحرار ـ اللواء جمال حمّاد في الحوار الذي أجراه معه أحمد منصور بمناسبة الذكري الستين للنكبة، وما ورد في كتاب اللواء صادق الشرع (حروبنا مع إسرائيل)، وما كان ثبّته كتّاب، وباحثون، ومؤرخون فلسطينيون، وأعاد التأكيد عليه المؤرّخ اليهودي إيلان بابه في كتابه (التطهير العرقي في فلسطين)، وتوجد عنه تفاصيل مستفيضة في (موسوعة) النكبة للمؤرّخ الفلسطيني عارف العارف.
عندما لمس قادة العصابات الصهيونيّة ـ التي فورا، ومع بدء الحرب، حوّلت إلي جيش منظّم، بقيادة واحدة، باستراتيجيّة واحدة، عكس حال (الجيوش) العربيّة ـ ضعف القدرات العسكريّة العربيّة، اندفعت، واحتلت مساحات واسعة من المنطقة المقررة لعرب فلسطين وفقا لقرار التقسيم.
الجيوش العربيّة التي صبّت الجماهير، شعرا ونثرا، اللعنات، والتهم، علي رؤوسها، بعد أن استبشرت بدخولها إلي فلسطين لنجدة شعبها، وفشلت، كانت قياداتها إنكليزيّة، والقواعد البريطانيّة كانت تحتّل بلدانها: مصر، العراق، الأردن، أي أن قرارها لم يكن مستقلاً، ونابعا من إرادتها، وانتمائها لعروبتها.
النكبة كانت واقعة قبل انسحاب بريطانيا، وإعلان دولة الصهاينة يوم 15 أيّار (مايو) عام 48، وقرار التقسيم مررته أمريكا التي انحازت للمشروع الصهيوني مبكّرا، وما زالت حتي يومنا، ولا خلاف في هذا الانحياز بين الحزبين الجمهوري، والديمقراطي، فالفيل يدوس علي حقوقنا، والحمار يرفس قضيتنا!، وقيادات الفلسطينيين تتحدّث عن دور الوسيط الأمريكي النزيه.
هل تعلّمت القيادة الفلسطينيّة المعاصرة من تجارب ودروس التاريخ؟!
هذه القيادة تضلل الشعب الذي تقوده، وتخدّره، وتعلله بإمكانية تحييد الولايات المتحدة الأمريكيّة في الصراع، وإنصافها لشعب فلسطين، ولا سيّما في آخر أيّام إدارة أكثر رؤساء أمريكا صهيونيّة: بوش الابن.
هذه القيادة تبنّت، ووافقت، وروجت، للقبول بدور الوسيط النزيه لأمريكا، رغم إصرار رؤسائها المتلاحقين، وإداراتها، علي الانحياز التام، للمشروع الصهيوني، منذ بدأت المؤامرات علي فلسطين وشعبها.
هذه القيادة لم تفتح ملف بريطانيا، ودورها في نكبة شعبنا، بل اكتفت بالقبول بفتات التبرعات، وشكليات الدعم الكلامي، وكرّست لبلير موقعا ينظّفه، ويغسل يديه من دوره الإجرامي، ودور بريطانيا في فلسطين.
بعد كلّ الحقائق التي صار كثير من الكتّاب والمؤرخين، يهودا، وغير يهود، يقرّون بها، نجد أن القيادات الفلسطينيّة الرخوة، لا تعادي أحدا مهما تآمر علي شعبنا وقضيتنا.
التهمة الأولي التي أوجهها لهؤلاء المبتلي بهم شعبنا، وقضيتنا: عدم الاستفادة من الدروس، والخلط بين العدو والصديق، وجعل القضيّة الفلسطينيّة موضع مساومة، وتجاهل قوانين التناقض التي تسلحنا بالقدرة علي التمييز بين الصديق والعدو.
تحويل قضيتنا إلي بضاعة للمساومة، وعلاقات عامة، والتعامل مع العدو وكأن ما بيننا وبينه مجرّد سوء فهم يمكن أن يجلي بالنقاشات، وبتبادل الهدايا ـ من أموال الأيتام والأرامل والشهداء ـ وجلسات العشاء الصداقيّة التي يلعلع فيها الضحك.
السؤال الملح: إذا كانت النكبة تحصيل حاصل عام 48، فهل يمكن تجاوزها ونحن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في المدي المنظور؟
برأيي أنّ أول شرط لتجاوز النكبة هو أن نحدد أسبابها، ومن شارك فيها، وأسباب القصور الذاتي، حتي نتمكن من تجاوزها.
سيقال: أتريدوننا أن نشنّ حربا علي كل أعداء شعبنا وقضيتنا؟!
ولكن ماذا وأعداؤنا يزدادون شراسة وتآمرا علي قضيتنا، ولا يغيّرون عداءهم لنا؟
إذا كنّا لا نستطيع محاسبتهم، وتغريمهم تكلفة جرائمهم، فعلي الأقل، لا نقبل بغسل أيديهم، فبريطانيا أجرمت، وعليها أن تقرّ بجريمتها ودورها في نكبتنا، أمّا الحساب فيبقي سيفا مسلطا . وأمّا أمريكا فلا نقبلها وسيطا، فهي منحازة، وقادتها أبعد ما يكونون عن النزاهة ..فعلي من تضحك قيادات الفلسطينيين؟ ولماذا ؟ وهل هي بحكم امتيازاتها، وتكوينها الرخو، قادرة علي المواجهة، وتقديم التضحيات؟!
ألمانيا التي احتفلت ممثلة بمستشارتها المنافقة، بعيد استقلال الكيان الصهيوني، أسهمت بالتعويضات للكيان الصهيوني في تقويته، وعدوانيته، حتي ان ناحوم غولدمان اعتبر أن التعويضات هي التي أنقذت الكيان الصهيوني من الانهيار التام بعد سنوات من تأسيسه، وضياع الدولة!. ألمانيا مسحت دم اليهود عن يديها بدم شعبنا!
قيادات الفلسطينيين لا تتعلّم لا من وقائع التاريخ، ولا من تجارب وخبرات شعبنا المتراكمة.
النكبة ستستمر زمنا إضافيّا ما دام التمييز بين العدو والصديق غير وارد، وما دمنا نقاد بعقلية مساومة، متخاذلة، مضللة، وما دامت القيادات الفلسطينيّة تصغي لنصائح الحكّام العرب الراهنين، ورثاء من سلفوا وتسببوا في التأسيس للنكبة بنصائحهم وممارساتهم الكارثيّة.
هل سمع شعبنا خطابا مفيدا، يضيف إلي وعيه جديدا، في الذكري الستين للنكبة، من قياداته البائسة، الجاهلة، العاجزة بحكم تكوينها، ومصالحها، وامتيازاتها؟!
بالمناسبة أنا اقصدهم جميعا، وبدون استثناء، يسارا ويمينا، فهم جميعا يطيلون عمر نكبتنا...