بقلم : أحمد الحاج علي ... 20.4.08
أمام روضة «القسام»، في مخيم برج البراجنة، أطفال في الرابعة من عمرهم، ينشدون «طاق طاق طاقية.. أنا بلا هوية». إنهم مجموعة من حوالى 19000 لاجئ فلسطيني يسكنون المخيم، لم يرَ بن غوريون في تهجير آبائهم عملاً غير أخلاقي، حين وقف في عام 1938 مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية: «أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي».
وكل معاناة يعيشها هؤلاء اللاجئون يرجعونها إلى سياسة الترحيل التي اتبعها بن غوريون وعصابات الهاغاناه والشتيرن التي ما زال سكان المخيم يروون فظاعاتها.
يقع هذا المخيم على بعد 91 كلم من الحدود اللبنانية الفلسطينية، كما تشير لافتة رفعتها المنظمة الفلسطينية لحق العودة «ثابت» عند مدخله الغربي. هذا الفاصل الجغرافي يقارب ثلث المسافة بين مدينتي مانشستر ولندن، صاحبة الوعد التاريخي لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، لكن حدود فلسطين المحتلة تبقى كأنها النقطة الأبعد في العالم، نظراً للصعوبات التي تعترض وصول أي فلسطيني إليها، كما يقول محمد علي، الطالب الجامعي.
كيلومتران فقط يفصلان مخيم برج البراجنة عن مطار بيروت الدولي، ومع ذلك فإن الفلسطيني في المخيم يعيش عزلة عن محيطه اللبناني القريب نتيجة سياسات اتبعتها السلطات الرسمية، وحروب كانت كافية لأن يعتصم ابن المخيم بـ«قلعته» بعيداً عن أية تفاعلات مع محيطه. وذات عقد من السنين كانت الدول الإسكندنافية عبر هذا المطار أقرب إلى المخيم وسهلة المنال من الحواري والأزقة المحيطة به.
مساحة المخيم تقارب 2.5 كلم مربع، كما يشير مدير المخيم بهاء حسون. نقف عند باب المخيم الغربي المسمّى منطقة العاملية، نشاهد، من بعيد، أزقة ضيقة كأنها تجاعيد وجه المخيم الذي بلغ عامه التاسع والخمسين، حين بدأت حكاية المخيم الطويلة في عام 1949.
البدايات
قبل النكبة، ازدهرت التجارة بين اللبنانيين والفلسطينيين، وكان بعض سكان منطقة برج البراجنة، وخصوصاً التجار، قد أقاموا علاقات وطيدة مع أهالي قرية ترشيحا في الجليل الأعلى، ومن هؤلاء التجار، المختار حسن علي السبع، الذي عُرف أيضاً بميوله القومية. وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1948، كان الصهاينة ينفذون ما عُرف بخطة «دالت» لتطهير المناطق الفلسطينية من سكانها، وكانت ترشيحا على موعد مع قصف عشوائي استُخدمت فيه الطائرات. ورغم المقاومة التي أبداها سكان ترشيحا، مسلمين ومسيحيين، إلا أن القرية سقطت في ذلك الشهر. هُجّر سكانها، ورفض مسيحيو القرية إعلان قسم الولاء للدولة اليهودية، محافظين على مئات السنين من التعايش مع المسلمين. لجأ مهجرو ترشيحا إلى المختار السبع، فأمّنهم في بيوت برج البراجنة، ثم أسكنهم في قطعة أرض.
البداية مع ثلاثين خيمة، الطعام يحضره الصليب الأحمر، ثم بعد ذلك الأونروا. لا تعليم، إلا في خيمة أنشأها بعض الأساتذة من مهجري ترشيحا، حتى لا تتبلّد عقول التلاميذ. لا عمل، بؤس، ولا يشعل الحنين أو يستحضر المرارة أكثر من قصة عابرة عن ترشيحا. يجتمع السكان الجدد، فيشكلون لجنة من ثلاثة أشخاص لمعالجة الأوضاع الصحية والمعيشية. يحدث الطوفان مراراً في الشتاء، فيفرّ الأهالي من هذا المنخفض الذي بات يعرف بـ«جورة التراشحة» حاملين بعض أمتعتهم. يلحق بعد ذلك جزء من أهالي قرية كويكات بمن سبقهم من أهالي ترشيحا إلى مخيم برج البراجنة، ثم بعدها أهالي قرية الكابري، التي قُتل على أطرافها 84 عنصراً من العصابات الصهيونية في نهاية عام 1947. ثم تلاهم بعض أهالي قرية شعب وغيرهم، ليبدو المخيم بعد فترة قرية جليلية تمازجت فيها القرى التي جمعها حلم العودة، وخصوصاً أن الأطر التي تدمج بدأت تظهر مثل الأندية، التي انطلقت بنادٍ رياضي سمّي نادي «الكابري»، وكانت كرته الأولى من جوارب، ومن ثم مدرسة مخيم برج البراجنة، التي أصبحت من حجارة في عام 1954 بعدما كانت خيمة.
العمل السياسي
يطول الانتظار، والغربة تزداد أيامها، بل لحظاتها، والكل يسأل: من أين نبدأ طريق العودة؟ فتنشأ الأحزاب في النصف الأول من الخمسينيات: حركة القوميين العرب، الحزب السوري القومي الاجتماعي، النجادة، الهيئة العربية العليا، حزب التحرير، حزب البعث، وغير ذلك من الأحزاب. ولتطلق السلطة اللبنانية كل أجهزتها لملاحقة المنخرطين في العمل السياسي، الاعتقال، إغلاق الأندية الرياضية والثقافية، وحتى الاغتيال السياسي. وتصدر القرارات الأمنية بمنع التجوال لأكثر من شخصين، ومنع قراءة الجريدة في مكان عام، وكذلك السهر بعد الساعة العاشرة ليلاً، ومنع التنقل من مخيم لآخر إلا بإذن خطي.
مع نهاية الخمسينيات كان معظم خيم المخيم قد تحوّل إلى بيوت، جدرانها من الحجر، وسقفها من الصفيح (الزينكو). وفي عام 1969 تخرج البندقية الفلسطينية من أقبيتها، وتبدأ مرحلة جديدة من العمل السياسي الفلسطيني المعلن. يتوسع العمران أفقياً ويمتدّ عامودياً، إلى أن تندلع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975. يسقط العديد من أهالي مخيم برج البراجنة شهداء، يغيب الأمن، يتراجع مستوى التعليم، يهاجر بعض سكان المخيم، وخصوصاً من أهالي ترشيحا. أكثرية الشباب انضمت إلى الفصائل المسلحة، بعضهم ذهب وشارك في قتال قوات الاحتلال، والجميع عينه ترنو نحو الكيلومتر الـ92، حيث فلسطين المحتلة.
يجتاح جيش الاحتلال بعضاً من جنوب لبنان في عام 1978، فَيَهْجر مخيماته المئات، ويلجأون إلى مخيم برج البراجنة. ولم تمض أربع سنوات حتى كان اجتياح بيروت في عام 1982، يسقط العشرات من أبناء المخيم وهم يتصدون للقوات الغازية (عند محور المطار تحديداً)، ورافق نهاية الاجتياح هجرة الآلاف من أبناء المخيم إلى الدول الغربية، وخاصة الدول الإسكندنافية، وضاعف الهجرة مذابح صبرا وشاتيلا، وزجُّ السلطات اللبنانية لآلاف الفلسطينيين داخل معتقلاتها.
في عامي 1985 و1986، كان مخيم برج البراجنة على موعد مع الكارثة، حرب مخيمات بين الفلسطينيين وحركة أمل تخلّف أكثر من 600 شهيد، وآلاف المعوّقين، والأخطر هو دفع حلم العودة بعيداً، ومعه آلاف المهجرين إلى بلاد الشمال الباردة في إسكندنافيا. الآثار الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية لا توصف، وترافقت مع توجُّه فلسطيني رسمي إلى تركيز المشروع (الوطني) نحو الضفة الغربية وقطاع غزة، في وقت كان فلسطينيو مخيم برج البراجنة ينتظرون من يرفع عنهم آثار نكبتهم الجديدة.. ويطول الانتظار.
الواقع الحالي
نسأل في جولتنا عن مسؤول للجنة الشعبية حتى نتوجّه إليه باستفساراتنا، فيُقال لنا إنه غادر مسؤولياته منذ عدة أشهر، ولم تتفق الفصائل بعد على بديل. والناس كيف يسيّرون شؤونهم؟ نسأل، فيردّ علينا أحد الطاعنين بالسنّ: «الشاطر بشطارتو»، أي لا قانون غير قانون القوة. ويشرح: «على سبيل المثال، هناك العشرات ممن لا يدفعون فواتير الكهرباء، رغم أنهم الأيسر حالاً بين سكان المخيم، أما بقية السكان، الذين هم بأغلبهم من الفقراء، فيدفعون عن الممتنعين». شبكة كهرباء، كأنها من صنع عنكبوت، نظراً لتداخل أسلاكها، التي تبدو على خصومة تاريخية مع الأمان. فالحرائق بسبب الكهرباء كثيراً ما تندلع، وحوادث الوفاة كثيرة هي الأخرى، كما يقول عامل مكلّف تشغيل إحدى محطات الكهرباء. يستمد المخيم المياه من 11 بئراً جرى حفرها بجهود أصحاب الخير.
ارتفعت أسعار العقارات في المخيم خلال السنوات الأخيرة بشكل جنوني، فالمنزل الذي كان سعره عشرة آلاف دولار قبل ثلاثة أعوام، صار سعره اليوم ما يقارب ثلاثين ألف دولار. ومردّ ذلك بشكل أساسي إلى قانون منع التملك، الصادر في آذار 2001، الذي يمنع الفلسطيني من تملك شقة خارج المخيم. دفع ذلك إلى مضاعفة البناء العمودي، دون التحقق من صلاحية البناء، ما أدّى إلى سقوط عدد من البيوت، والتسبب بإصابة الكثيرين.
في المخيم مركز طبي تابع لوكالة الأونروا، يتألف من عيادة طب عام، وعيادة طب الأسنان، بالإضافة إلى صيدلية ومختبر، أو ما يشبههما. ويستقبل المركز 198 مريضاً يومياً، عدد كاف لنفي اهتمام الطبيب بعيداً عن العيادة. أما مستشفى حيفا، التابع للهلال الأحمر الفلسطيني، فهو مستشفى يفتقر للتجهيزات الطبية، والإعداد البشري الجيد. ونظراً إلى منع الطبيب الفلسطيني من فتح عيادة خاصة خارج المخيم، فإن هناك 14 عيادة خاصة لأطباء فلسطينيين داخل المخيم. تقول إحدى الوكالات (FAFO) إن هناك فلسطينياً من خمسة لاجئين فلسطينيين يعاني مشكلة صحية مزمنة.
ولا تفوتنا الإشارة إلى الأخطاء الطبية التي تنتج منها حالات وفاة. أما المرضى الذين يموتون بسبب العجز عن دفع تكاليف العلاج، فحدّث ولا حرج. ويروي أبو ثائر أبو ستة كيف توفيت ابنته بمرض السرطان دون القدرة على تحمل نفقات العلاج، وبعد أشهر معدودات توفي زوجها بأزمة قلبية، وقد تركا ولدين وابنتين، يحاول رعايتهم، رغم ظروفه المادية الصعبة. ولتضيف المأساة بعضاً من مرارتها، فإن الأطفال لا يملكون أوراقاً ثبوتية، لأن أباهم من سكان غزة جاء يتصدى للغزو عام 1982، وهي المشكلة التي تفاقمت مؤخراً على مستوى فلسطينيي لبنان.
الواقع التربوي
في مخيم برج البراجنة أربع مدارس ابتدائية، وأربع متوسطة، وواحدة ثانوية. وبلغ عدد التلاميذ 2539 تلميذاً للعام الدراسي 2005-2006. أما الروضات فعددها إحدى عشرة روضة. مشاكل التعليم، حسب الأستاذ محمد خربيطي، تتلخص باكتظاظ الصفوف، وفقدان الحافز على التعلّم بسبب التمييز الوظيفي بين المتعلمين الفلسطينيين وأقرانهم اللبنانيين، إضافة إلى ما يعانيه الفلسطينيون من إحباط عائد لأسباب اقتصادية واجتماعية. وتشير إحدى الدراسات إلى أن 44% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و19 عاماً لا ينتسبون لأية مدرسة أو جامعة. ويفتخر أهالي المخيم بأنهم كانوا، قبل الحرب الأهلية، الأعرق من الناحية العلمية حيث استطاعوا تصدير أكثر من ثلاثة وثلاثين أستاذاً جامعياً إلى جامعات عالمية مرموقة.
على صعيد الرياضة، يضم المخيم حوالى سبعة فرق رياضية، كلها محصورة بكرة القدم، ويرجع رئيس نادي الأقصى، فادي عبد المجيد، أسباب تراجع الرياضة إلى هجرة الكادر الرياضي، وتسييس الرياضة، وتقلص عدد الملاعب، إضافة إلى غياب استراتيجية رياضية لدى الفرق الموجودة.
في الآونة الأخيرة، استطاعت القوى السياسية تشكيل قوة أمنية، بعد ازدياد متصاعد بعدد الإشكالات المسلحة. ويقول أبو العبد مشهور، المسؤول السياسي لحركة حماس في بيروت «إن الإشكالات سببها غياب التثقيف السياسي والوطني، إضافة إلى البطالة وانتشار الآفات الاجتماعية والأمية». وأمل أبو العبد «أن يكون إقرار الوثيقة الأمنية، مؤخراً، رادعاً لكل العابثين بالأمن، ونداءً لرفع الغطاء السياسي عن كل مسيء».
رغم الهجرة التي يشهدها مخيم برج البراجنة، إلاّ أن أبناء المخيم كثيراً ما يفاخرون بأنهم قدّموا «أعداداً كبيرة من الشهداء على طريق العودة»، كما يقولون. ويتذكرون كيف ذهبوا بالمئات إلى الحدود عند تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وواجهوا الاحتلال وسقط منهم الشهيد شادي الأنس. ويرجع السكان كل معاناتهم إلى التهجير، لأنه كما تقول الحاجة حسنية فهد «اللي بطلع من داره بقلّ مقداره»، فكيف بمن هُجّر منها قسراً؟ حتماً.. لن تكون عودته إلا قسراً.