بقلم : د. فيصل القاسم ... 2.6.08
كان هناك شخص يعيش مع أولاده التسعة وزوجته وحماته وأمه في بيت مُؤجر مؤلف من غرفة واحدة، وحمام داخلي مساحته متر بمتر، ومطبخه عبارة عن طاولة صغيرة. وكان دائماً يتذمر من عيشته التعيسة، فجاءه صاحب البيت ذات يوم، وطلب منه أن يربي له دجاجتين وديكاً في نفس المنزل الصغير مع العائلة، فثارت ثائرة المسكين، لكنه اضطر للرضوخ لطلب صاحب المنزل كي لا يطرده. وراحت العائلة تعاني من إزعاج الديك ووسخ الدجاجتين. وكي يزيد الطين بلة عاد صاحب البيت بعد فترة، وطلب من المستأجر أن يربي له عنزة في الغرفة ذاتها، فصارت الدجاجتان تلوثان الفراش بالأوساخ، وأصبح الديك يقاتل العنزة، بينما تثغو الأخيرة ليل نهار. ومما زاد في الطنبور نغماً أن صاحب البيت أمر المستأجر المسكين لاحقاً بأن يربي له عجلاً، فزادت محنته معاناة وألماً. لكن صاحب المنزل المتغطرس حن على المستأجر بعد طول معاناة وانتظار، فخلصه من الديك والدجاجتين والعنزة والعجل. فطار المستأجر من الفرح، وراح يحدث أصدقاءه عن بيته الفسيح المريح قائلاً: «من يوم ما راحوا هالحيوانات الملاعين، وإحنا عايشين مبسوطين مبحبحين»، مع العلم أن البيت بقي على حاله طبعاً.
وهكذا حكاية الحكومات العربية مع شعوبها، فما أن تتذمر الشعوب من وضعها المأساوي حتى تقدم الحكومات على إجراءات أكثر مأساوية وبطشاً وتنكيلاً، فيلهج لسان الشعوب فوراً بالبيت الشهير: «رُب يوم بكيت فيه، فلما صرت في غيره بكيت عليه».
بالأمس القريب كانت الشعوب تنادي بالتخلص من الظلم والطغيان واحترام حقوق الإنسان وتحقيق الديموقراطية، فجاءت أمريكا إلى العراق لتنقذ الأنظمة العربية من ورطتها أمام الشعوب المتملمة، وعندما وجدت الشعوب ما حل بالأشقاء العراقيين الذين كانوا يحلمون بالديموقراطية، لعنت الساعة التي نادت فيها بالمشاركة السياسية والحرية، وعادت لتسبح بحمد الحكام الذين بدوا، بالمقارنة مع الغازي الأمريكي الهمجي، حملاناً وديعة، فصاحت الشعوب بأعلى أصواتها: «الله يخلــّي لنا حكامنا الذين لا تعرف خيرهم حتى تجرب غيرهم».
وعندما وجد الحكام أنهم فعلاً أفضل من «مغول العصر» الذين قلبوا المنطقة أعلاها سافلها، راحوا يسحبون بعض «المكرمات» التي كانوا يتصدقون بها على الشعوب المسكينة، فأخذوا يرفعون الأسعار بشكل جنوني، ويسحبون الدعم عن أساسيات الحياة من صحة وتعليم ومواصلات وطاقة وخبز، مما جعل الشعوب تترحم على تلك الأيام الخوالي التي كانت تسرف وقتها في أكل الطعمية والفلافل والبطاطا والطماطم والخبز، وتستطيع أن تقود سياراتها المهترئة لمسافات أطول بسبب معقولية سعر المحروقات آنئذ.
أما الآن فقد أصبح الحصول على أساسيات الحياة الشغل الشاغل للسواد الأعظم من الشعب العربي، فالأغلبية منشغلة بالبحث عن ربطة خبز مجبولة بالرمل والقش، وليتر زيت من النوعية العاشرة، وكيلو طماطم نصفه عفن، ورطل أرز مخلوط بالحصى. كم تنطبق كلمات بيرم التونسي على يومنا هذا وهو يشتكي من رداءة السلع وارتفاع ثمنها:
الأكل والشرْبْ في أيدْ اللومَنجِيٌه
والطماعين اللي غلوا الملح والمَيٌهْ
والغشاشين اللي فاقوا ع الحرامية
الشاي بالمفتشر مخلوط ملوخية
والبن فيه الشعير تسعين في الميه
والعيش برملة وطينة يا مناخليه
واللحم معروض بدون أختام رسمية
والميه هيه اللبن ولا اللبن هيه
أفاعي متَسيبَةْ من غير رفاعية
ودنيا مترتبة ترتيب فلاتيه
لكن حتى هذه السلع الرديئة أصبحت صعبة المنال، مما جعل الناس يتوقفون عن المطالبة بالحرية ولا حتى بالبطيخ. لقد غدت لقمة العيش «اليابسة» أهم من أي شيء آخر.
لقد بدأ ملايين العرب يعودون عملياً إلى الدرك الأسفل من «مثلث ماسلو» الشهير الذي يقسّم حاجات الإنسان إلى خمسة مستويات، هي الحاجات العضوية كالماء والغذاء والمأوى والتدفئة وغيرها من الاحتياجات الجسدية، ثم السلامة والأمان، الحب والانتماء، الاحترام والتقدير، وفي النهاية تأتى قمة الهرم، وهي تحقيق الذات، وهي أن تشعر بأنك قد حققت غاية أهدافك فى الحياة، وأنك قد وصلت إلى قمة ما كنت تتمناه لنفسك.
ولا يمكن لأي مستوى أن يتحقق إلا إذا تحقق ما قبله، فعندما يحقق الناس احتياجاتهم الأساسية يسعون إلى تحقيق احتياجات ذات مستويات أعلى. فإذا كان الإنسان جائعاً، أو عطشان، أو أن جسده مختل كيميائياً، فإن كل طاقاته تتجه نحو إصلاح العلة، وبالتالي تظل باقي الاحتياجات الأخرى معطلة لصالح المعتل منها.
وتــُصنف الاحتياجات الدنيا تحت مسمى «احتياجات العوَّز»، بينما يُصنف المستوى الأعلى تحت «احتياجات النمو». بعبارة أخرى، فإن الحاجات الأعلى في هذا الهرم تدخل حيز اهتمام الإنسان فقط عندما يحقق الحاجات الأدنى منها تحقيقاً مُرْضياً، وبينما تسبب قوى النمو تحركاً باتجاه الأعلى في الهرم، تسبب القوى الانكفائية تحركا للحاجات الغلاّبة نحو الأسفل.
ولو طبقنا تقسيمات ماسلو على الإنسان العربي لوجدنا أنه عاد عملياً ليراوح في الدرك الأسفل من المثلث بعد أن غدا همه الأول والأخير إشباع الحاجات الأساسية من مأكل و مشرب وملبس وجنس، مع العلم أن الحاجة الأخيرة أصبح مشكوكاً في طلبها، خاصة أن طالبها يجب أن يكون قد حصل أولاً على الطاقة اللازمة لتأديتها. ولا داعي للإسهاب في الشرح.
كيف نتوقع من الشعوب العربية المعدمة أن ترتقي بأنفسها وبأوطانها إذا كانت، حسب التقارير الدولية، تنفق أكثر من تسعين في المائة من دخلها على حاجاتها العضوية فقط، أي الغذاء، بينما تنفق الشعوب المتقدمة عشرة في المائة فقط على الطعام، ويبقى لها حوالي تسعين في المائة من رواتبها لتطور نفسها ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. بعبارة أخرى فإن ملايين العرب غدوا مجرد عبيد لبطونهم، هذا إذا استطاعوا أصلاً أن يملأوها جيداً وسط التحولات الاقتصادية المخيفة وشد الأحزمة والغلاء الرهيب وانحسار الموارد.
لقد قال السيد المسيح: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وكان يقصد أن الإنسان ليس جسداً فقط، بل روح ونفس أيضاً. وهكذا يحتاج الإنسان، لكي يستمتع بحياته، إلى التوازن بين الاهتمامات الجسدية والاهتمامات الروحية. فلا ينشغل بحاجات الجسد من مأكل ومشرب وملبس وأشباع الغرائز فقط على حساب النفس والروح. لكن ماذا تفعل الشعوب العربية التي تريد أن تحيا بالخبز وحده، لكنها لا تجده أحياناً؟