بقلم : د. فيصل القاسم ... 19.5.08
بما أن البرلمانات ومجالس الشعب والجمعيات الوطنية في بلادنا العربية هي مجرد ديكورات، أو لنقل أفيال بيضاء لا قيمة لها ولا نفع، ولا حول ولا قوة لها في مراقبة السلطة التنفيذية وضبطها لأنها مجرد بيادق بيد الأنظمة. وبما أن النقابات وهيئات المجتمع المدني المفترض أنها قوة مراقبة ومعارضة إضافية، إما مدجنة، أو جزء لا يتجزأ من الأنظمة الحاكمة، فلا بد للإعلام إذن أن يملأ الفراغ، ويلعب دور الرقيب لفضح مكامن الخلل في المجتمعات العربية وحث السلطات على تصحيحها بعد أن بلغ السيل الزبى في معظم القطاعات.
البعض قد يقول إن وسائل الإعلام العربية، كالسلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمانات، والسلطة القضائية، والمجتمع المدني، مكبلة الأيدي، خاصة وأنها محتكرة لدى الأنظمة الحاكمة، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها أبداً لتلعب دور السلطة الرابعة. وهذا صحيح. لكن الإعلام يمكن أن يشذ عن القاعدة العربية التي تخصي كل السلطات لصالح السلطة الأمنية. ويمكن لهذا الشذوذ أن يتحقق بطريقتين، أولاً بإطلاق العنان لوسائل إعلام خاصة مرتبطة، شئنا أم أبينا، بالسلطات الحاكمة، لكنها شبه مستقلة، على اعتبار أن الإعلام المستقل تماماً جزء من مجتمع ديموقراطي عام، وهو لم يتوفر لنا بعد، وثانياً بتطوير الإعلام الرسمي العربي ومنحه قليلاً من الحرية، بحيث يلعب دور الرقيب على سياسات الحكومات الداخلية، بما لا يتعارض أبداً مع سياسة الدول الخارجية والأمنية. وهو أمر، لو محصت فيه السلطات العربية المتحكمة بزمام الأمور، لوجدت أنه يخدمها أكثر بكثير مما يضرها. هذا طبعاً إذا كانت تلك السلطات تريد الخير والازدهار لمجتمعاتها فعلاً، ولا تعمل بمبدأ "بطيخ يكسر بعضه"، أو "أنا وبعدي الطوفان".
تدّعي الأجهزة الأمنية في البلاد العربية أنها تقف بالمرصاد لكل أنواع الفساد والتجاوزات والمخالفات، لهذا مثلاً تجد أن لها عيوناً وآذاناً في كل الدوائر والمصالح الحكومية بحجة مراقبة الأمور وضبط الفاسدين والمتجاوزين. لكن كما هو ملاحظ، فإن الفساد ينمو، والتجاوزات تتضاعف في ظل هذه المراقبة الأمنية، وتزداد الأوضاع سوءاً على كل الأصعدة، فأجهزة الشرطة في الكثير من البلدان العربية أصبحت رمزاً للفساد والرشوة، وحدث ولا حرج عن فساد الوزارات والدوائر الحكومية كالبلديات والمستشفيات وغيرها من المرافق العامة. ما العمل إذن إذا كانت الرقابة الأمنية قد فشلت في مهمتها، لا.. بل غدت متهمة بتفاقم التدهور والفساد. لا بد من الاستنجاد بالإعلام بنوعيه الخاص والحكومي!
لقد أثبتت بعض وسائل الإعلام العربية شبه المستقلة أنها تلعب دوراً رقابياً عظيماً على مستوى العالم العربي أجمع، فقد بدأ الكثير من المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج يستنجدون بهذه القناة العابرة للحدود أو تلك بالتركيز على قضية من القضايا الداخلية في هذا البلد العربي أو ذاك. وقد نجحت بعض الفضائيات في دفع السلطات إلى تصحيح الكثير من الأمور تحت سوط الإعلام. وكم سمعت أناساً في العديد من البلدان العربية تهدد برفع قضاياها إلى هذه الفضائية العربية أو تلك، مما يدل على تنامي سطوة الإعلام العربي كقوة رقابية وتصحيحية. وبما أن الحكومات العربية غير منتخبة شعبياً، ولا تمثل إلا نفسها، فهي بالنتيجة حكومات جبانة وفاسدة في الكثير من الأحيان، وتخاف من الطير الطائر، فما بالك أن تتسلط عليها فضائية من النوع المؤثر والمشاهد على نطاق واسع، أو برنامج يحظى بشعبية عارمة، ويخلي الشوارع من المارة وقت بثه أحياناً.
صحيح أن الفضائيات العربية العابرة للحدود لا تقدر على لعب دور الرقيب بشكل منتظم كونها ليست معنية بالقضايا المحلية في كل بلد، لكنها تنير الطريق أمام وسائل الإعلام المحلية كي تقوم بالمهمة نفسها، ولو بنبرة أخف. ولو كنت مكان الممسكين بزمام الأمور في بلادنا لشجعت على قيام وسائل إعلام غير حكومية والسماح لها بلعب دور السلطة الرابعة وذلك بفضح الانحرافات التي تنخر في عضد معظم الوزارات، وخاصة الخدمية منها.
ولا بأس أيضاً أن يُسمح للإعلام الحكومي بالقيام بدور المراقبة وتشجيع العاملين فيه وتدريبهم على لعب ذلك الدور بطريقة مهنية وناجعة. فقد نجحت بعض الإذاعات الخليجية مثلاً في القيام بدور رقابي عظيم. أذكر على سبيل المثال البرنامج الإذاعي القطري الصباحي الشهير" وطني الحبيب صباح الخير" الذي شكل رأس حربة لمكافحة المخالفات والتجاوزات وتصحيح الأخطاء على صعيد الخدمات الحكومية. كما وجد فيه المواطنون والمقيمون متنفساً رائعاً للحديث عن مشاكلهم وقضاياهم وإحراج المسؤولين المعنيين بها ودفعهم إلى حلها. لقد أصبح هذا البرنامج بعبعاً بالنسبة لكل العاملين في وزارات الدولة بعد أن وضعهم تحت المراقبة والمحاسبة الإعلامية. وكم سعدت ذات مرة عندما شاهدت أحد الأطباء في أحد المراكز يرفض أن يُدخل مريضاً للمعاينة قبل دوره مبرراً ذلك بأن أحدهم قد يشتكي منه إلى برنامج "وطني الحبيب". وهذا مجرد مثال بسيط على قدرة الإعلام على المراقبة والمحاسبة.
وقد أعجبني أيضاً برنامج إذاعي آخر كانت تبثه إذاعة أبو ظبي واسمه "استوديو رقم واحد" مهمته أيضاً الوقوف على مشاكل المواطنين والوافدين وحلها مع المسؤولين بجرأة وصراحة رائعتين. وهناك برنامج في مصر بعنوان "العاشرة مساء" يحظى أيضاً بمتابعة كبرى لأنه يمس جوهر القضايا الحياتية للشعب المصري، ولا يسيء للنظام الحاكم، بل ربما يلمعه بشكل غير مباشر. قد يقول البعض إن مثل هذه البرامج موجودة في الكثير من الإذاعات والتلفزيونات العربية، لكن ما يميز برامج قطر وأبو ظبي ومصر أنها الأكثر جرأة وحدّة في عملية الرقابة والمحاسبة، وهما يقومان بدور رقابي أقوى من كل البرلمانات ومجالس الشورى العربية مجتمعة. فهما لا يداهنان المسؤولين، بل يضعانهم تحت المطرقة بقوة ويدفعانهم للوفاء بواجباتهم على أكمل وجه في خدمة الناس، وذلك على عكس البرامج العربية الأخرى التي تخاطب المسؤولين بكثير من الخوف والوجل، ولا تدخل في صلب مشاكل الناس وقضاياهم الحياتية.
لسنا بحاجة إلى برامج لرفع العتب، بل لبرامج صريحة وجريئة إلى أبعد الحدود بحيث تجعل فرائص المسؤولين من مديرين عامين ووزراء ترتعد لمجرد ذكر أسمائهم على موجات الأثير.
غابت الرقابة السياسية، فلتحضر الرقابة الإعلامية، حتى لو كانت مضبوطة حكومياً، وتخضع بدورها للرقابة. ألا يقولون إن الكحل يبقى أفضل من العمى؟