بقلم : د. خالد الحروب ... 15.5.08
صوت أنثوي رصين يتأسف مُخبراً الجمهور المُحتشد في المسرح المكتمل في قلب لندن بان "آن كنفاني" زوجة الروائي الراحل غسان كنفاني لن تتمكن من الحضور لأنها لم تستطع مغادرة بيروت بسبب ظروف إغلاق المطار والتوتر الأمني هناك. لكأنما تُصر الأقدار على طحن الواقع مع النص ودمجهما معاً بسوريالية مدهشة في كل لحظة من لحظات إعادة ترتيل جزء من السردية الفلسطينية التي ما زالت برسم التسطير والمعايشة. ليست ثمة بوابة تقيّد التنقل بين الواقع والنص، هناك حدود مفتوحة تخلق حالة دائمة السيولة فيها شخوص الحياة يدخلون إلى النصوص فيصيرون كائنات روائية، وفيها كائنات روائية تنهض من سطور النص الساخن وتطلع نابضة بالحياة والروح ونحن ننظر إليها مشدوهين ومندهشين. هكذا هم شخوص الرويات الكبرى يعيشون معنا عقوداً وسنوات، وهكذا هم شخوص كنفاني من أبوالخيزران في "رجال في الشمس" إلى "سعد وصفية" في "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" في روايتها التي حملت اسمها. إذ هكذا إذن، "آن" زوجة كنفاني تمنعها "الظروف" من السفر لحضور أوبريت "عائد إلى حيفا": هي "الظروف" اللئيمة التي لطالما طاردت شخوص تراجيديات كنفاني الملاحقين بالرحيل الإجباري، العاجزين عن قهر "الظروف" وتحقيق حلم العودة الكبير. حيواتهم تذكرة سفر بلا عودة، ترحال منقوص النهاية.
لكن ما قدمه أحفاد المطاردين واللاجئين في لندن هو إقلاع متجدد عن البكاء وإعلان متوثب على الحياة. فعلى أنغام دبكات فرقة "زيتونتهم" براقصيها وراقصاتها الخمسة عشر مال المسرح بحضوره المكتظ، وانتشى على إيقاع الدراما المقتبسة من قصة كنفاني قدموا عملاً فنياً بمناسبة مرور60 عاماً على النكبة جدير بأن يُستضاف في عواصم العالم. عمل محكم من الغناء الفلكلوري المتلاحق المراحل الزمنية، ولوحات الرقص التعبيري الناقلة للأحداث الكبرى، مع شدو شجي على العود ودقات على الدربكة كانا يتبادلان التلاعب بالمسرح والحضور بين حدي المعارك الصاخبة، ومواويل الحدائين أيام الحصاد الرائقة. كل ذلك مربوط عبر سبعة مشاهد درامية وغنائية تحكي قصة حيفا والنكبة والأمل بالعودة إليها، استئناساً بالنص الكنفاني.
في المشهدين الأول والثاني يبتدأ العمل بلوحات غنائية ودبكات لقرية في قضاء حيفا ثم في حيفا نفسها حيث يغني الناس ويعبون مما توفره لهم الحياة من بساطة فرح. وتتعدد الأغنيات الفكلورية المقدمة هنا: عين الماء، السمسم، "نزلن على البستان"، وكلها تحمل رسالة غير معقدة: ناس يمارسون حياة عادية! لكن هذه الحياة العادية تتدمر كليا كما نرى في المشهد الثالث الذي ربما كان الذروة الفنية في العمل كله. فهنا النكبة ذاتها زمناً ومكاناً وحدثاً: يدخل جنود (المنظمات الصهيونية) إلى المسرح يدقون الأرض بقسوة بأحذيتهم العسكرية، يحاصرون حيفا، يطردون أهلها، ويبعثرون دبكات شبابها وشاباتها. وفي فوضى النكبة والتهجير تخرج "صفية" باحثة عن زوجها "سعيد" تاركة خلفها ابنتها "ليلى" الرضيعة بأمل العودة إليها بعد الاطمئنان على سلامة سعيد. لكن النكبة لا تمهلها والجنود بالمرصاد يمنعونها وزوجها من العودة للبيت حتى لأخذ الرضيعة، ويُلقى بهما إلى المرافىء... وإلى البحر وجهاته الغامضة. على ركام النكبة واللجوء يطلع صوت يعبء المسرح مقدود من وجع الأرض ومنسوج من رعد السماء، يغني أغنية "الثلاثاء الحمراء"، مفاجأة أسعدت الحاضرين إذ كان مؤديها محمود دياب أحد أهم أصوات "فرقة العاشقين": صوت رخيم هو خلاصة اختلاط الفجيعة بالثورة، والوعد بالحنين. تلخص الأغنية المحفورة في الوجدان الفلسطيني عن الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الاحتلال البريطاني قصة العين العزلاء التي تحارب سلسلة من المخارز بتنويعاتها.
في المشهدين الرابع والخامس نرى "صفية وسعيد" في لندن، بعيداً وراء غموض البحار، يحاولان الانخراط في حياة جديدة بعد اللجوء - ولندن هنا هي جغرافية مُضافة على السردية الكنفانية، فالعمل الأوبريتي هنا يستلهم روح "عائد إلى حيفا" ولا يقصها حرفيا. في المنفى يفشل اللاجىء في إقالة ذاكرته المثقلة بحيفا وماضيها ودبكاتها وبياراتها... وفي إزاحة ليلى الرضيعة التي ظلت هناك خلال ليل التهجير البهيم. يعيش اللاجىء، "صفية وسعيد"، بين توترين: توتر الانخراط في دولاب الحياة، أوالحيوات الجديدة، وتوتر حيفا وليلى المفقودتين. صفية تلح على سعيد بزيارة حيفا وافتعال العودة والبحث مجدداً عن الرضيعة التي ربما جاوزت الآن العشرين من العمر. لكن سعيد يرفض فكرة العودة إلى "حيفاه" زائراً، تقتله فكرة أن يقدم جواز سفره لغريب يدق عليه ختم الدخول إلى... فلسطين!
لكن صفية، في المشهد السادس، تقنعه بالزيارة ثم نراهما على واحد من الحواجز واقفين في طابور طويل ينتظران السماح لهما بزيارة الماضي، وحيفا. على الحاجز يُصنف الفلسطينيون بحسب بطاقاتهم، وبحسب مزاج الجندي الواقف على الحاجز نفسه. لكن بعد انتهاء الطابور وفي لوحة راقصة جميلة يتحول كل الذين مُنعوا من الدخول وكل الذين دخلوا إلى حلقة كبيرة حول الجندي المُتحكم في حركتهم، وكأنما ينقلب ميزان القوى فصير الجلاد أسير عناد المأسورين ورفضهم.
لكن ذروة التراجيديا تتمثل في المشهد السابع. ففيه تصل صفية وسعيد لبيتهما القديم في حيفا وهناك يجدانه مسكوناً من قبل عائلة يهودية، وتسمح لهما "ربة البيت" الجديدة بالدخول والإطلاع على ماضيهما المشنوق هناك. لكن الفجيعة الكبرى، وفي نسج شبيه بقصة الأصل الكنفاني، تكمن في ليلى التي ظلت رضيعة بعد طرد صفية وسعيد إلى المهاجر. فعندما يسألان "مالكة" البيت إن كانت عثرت على "ليلاهما" يوم دخلت مباشرة بعد خلوالبيت تومىء بالإيجاب وتقول لهما أن "أيستر" (الاسم العبري الجديد لليلى) ستأتي من العمل بعد قليل. وإذ تأتي "أيستر" ينهدم قلب الوالدين إذ يريانها بالزي العسكري الإسرائيلي: "ليلاهما" الرضيعة لم تُسرق فحسب بل صارت مجندة إسرائيلية، تصرخ في وجهيهما وتطلب منهما أن يعودا من حيث أتيا فهي إسرائيلية وتفتخر بذلك! (في النص الأصلي ل "عائد إلى حيفا" يكون الطفل الرضيع ولداً وليس بنتاً، "خلدون"، وعندما تعود صفية وسعيد يجدانه قد تحول إلى "ديفيد" أو"دوف" وصار ابنا للعائلة اليهودية البولونية التي استوطنت بيتهم).
ينتهي العرض بوعد وتصميم من قبل صفية وسعيد بأن يحرسا "الرواية" ويحملاها إلى الأطفال الذين كانوا بعمر ليلى لكن انتهوا في المخيمات. تصير "الرواية" هي الوطن المتنقل والمرحل على كواهل عقود الزمن وذاكرات المجروحين. ويُترجم ذلك الوعد والتصميم عن شكل لوحات غنائية متلاحقة ودبكات بديعة جمعت بعضا من أهم المأثورات الغنائية الفلسطينية المعاصرة، وأقامت بها المسرح ولم تقعده، وأطلقت من فيه بعد ذلك محمولين على ساعد الوعد.