أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
في القدس تولد الدولة الفلسطينية أو تدفن !

بقلم : نقولا ناصر* ... 28.02.2009

القدس ، كل القدس ، كانت عبر التاريخ هي المفتاح للحرب والسلام ، ليس في فلسطين وحدها بل وفي عمقها العربي والإسلامي ، لكنها لم تعد كذلك اليوم حسب الواقع المعاش ، لا بالنسبة لمن يقودون أهلها ، ولا لمن يقودون أشقاءهم من العرب والمسلمين ، ولا حتى بالنسبة لمن يقودون إخوانهم في التوحيد بالله من المسيحيين بعد أن "علمنت" الحركة الصهيونية أفكارهم وأنظمة حكمهم في الغرب قبل أن ترث أطماعهم في الوطن العربي الكبير وتستبدل الدين المسيحي بالديانة اليهودية غلافا خادعا لهذه الأطماع التي وجدت في دولة المشروع الصهيوني نسخة معاصرة للإمارات الصليبية التي أقامتها فتوحات الفرنجة في المنطقة قبل ألف عام .
وقد أدرك الصهاينة والدول الغربية الراعية لمشروعهم منذ بداياته الأولى هذا الدرس التاريخي وهو أن من يسيطر على القدس يسيطر على فلسطين ويهيمن على محيطها الجغرافي – السياسي ، وقد تأكد هذا الدرس منذ حرر صلاح الدين الأيوبي القدس في الثاني من تشرين الأول / أكتوبر عام 1187 قبل أن يعيد الجنرال البريطاني إدموند اللنبي احتلالها في التاسع من كانون الأول / ديسمبر 1917 بعد سبعة وثلاثين يوما من إصدار حكومته لوعد بلفور ، ليتبجح الجنرال الفرنسي هنري غورو عند دخوله دمشق بعد معركة ميسلون عام 1920 قائلا وهو يقف على قبر محرر القدس: "ها قد عدنا يا صلاح الدين" ، ولذلك كانت القدس ، وما زالت ، هي رأس رمح الغزو الاستيطاني اليهودي لفلسطين التي لا تقوم قائمة لدولة المشروع الصهيوني بدونها.
وبقدر ما تحوٌل حفظ هذا الدرس التاريخي إلى خطط عسكرية ومخططات للاستعمار الاستيطاني وبرامج سياسية يتنافس قادة المشروع الصهيوني على من هو الأفضل والأكفأ لقيادتها بقدر ما يبدو هذا الدرس غائبا تماما عن القيادات الفلسطينية والعربية والإسلامية في مواجهتها لهذا المشروع . أما القيادات المسيحية ، الغربية بخاصة ، فإنها لا تبدو معنية بأي مواجهة كهذه بحيث أصبح كل همها هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من "أملاك" الفاتيكان والكنيستين الاورثوذكسيتين الروسية واليونانية وغيرهما من كنائس الطوائف المسيحية من براثن الاحتلال الإسرائيلي لمهد المسيح وقبره ، عبر "حوارات" للأديان" مع الواجهات "اليهودية" للحركة الصهيونية "العلمانية".
وفي هذا السياق لا يمكن سياسيا الترحيب بزيارة بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر في أيار / مايو المقبل للقدس ، وهي الزيارة التي تستعد بلدية الاحتلال لها بمشاريع للقيام بعملية "تنظيف" وإصلاح واسعة للطريق التي سيسلكها الزائر من بيت سفير الفاتيكان على جبل الزيتون إلى كنيسة القيامة ، ومن المتوقع أن تشمل هذه العملية اعتداءات على المقدسيين ومزيدا من المضايقات لهم باسم إكرام البابا.
كما يلفت النظر هنا أن "البيان حول حرب غزة" الذي أصدرته اللجنة التنفيذية لمجلس الكنائس العالمي بعد دورة اجتماعاتها بسويسرا من 17 – 20 من شباط / فبراير الجاري قد خلا من أي إشارة إلى زيارة البابا المرتقبة ، لا نقدا ولا ترحيبا ، وكان الأجدى تقديم النصح للبابا بإلغاء زيارته حتى يثبت الاحتلال حسن نية "في الأقل" للتوقف عن تضييق الخناق على المقدسات المسيحية والإسلامية في القدس وعلى المؤمنين بها الذين لن يتمكنوا بالتأكيد من استقباله هناك بسبب القيود الصارمة المفروضة على حرية وصولهم إلى القدس والتي سوف تزداد صرامة بحجة الحفاظ على أمن زيارته نفسها هذه المرة ، أو ب"التمني" عليه أن يعرٌج على غزة طالما صدر البيان باسمها خلال جولته في "الأراضي المقدسة" التي بالكاد يبقي الاحتلال أي قداسة لها.
أما قادة العرب والمسلمين فيبدو أنهم قد نفضوا أياديهم من المسؤولية عن بيت المقدس ، مستكينين للأمر الواقع ، ومفوضين مصير أولى القبلتين وثالث الحرمين للقرار "المستقل" الفلسطيني احتراما منهم لاستقلال فلسطيني يعرفون قبل غيرهم أنه ما زال أملا وطنيا في أحسن الأحوال أو سرابا خادعا في أسوئها ، أو تاركيه "عهدة" أردنية احتراما منهم لمعاهدة صلح ثنائية من المفترض أنها غير ملزمة لهم وما كان لها أصلا أن تبرم لو كان لهم موقف مختلف ، ومدركين تماما في الحالتين أن إنقاذ بيت المقدس هو مهمة تاريخية جسيمة أضخم كثيرا جدا من أن يحمل أعباءها عرب فلسطين والأردن وحدهم منفردين أو مجتمعين.
ومناسبة نكأ هذه الجراح العربية والإسلامية هو الدعوة التي وجهتها قيادة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية في رام الله ، باسم منظمة التحرير ، إلى إضراب شامل يوم السبت الثامن والعشرين من شباط / فبراير احتجاجا على خطط الاحتلال لهدم ثمانين منزلا فلسطينيا في حي البستان ببلدة سلوان ، الحارس الديموغرافي للمسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة من الجهة الجنوبية الشرقية ، مما يهدد بتشريد حوالي ألفي نسمة ، وهدم هذا الحي يكمل الطوق الاستيطاني اليهودي الذي يحاصر الحرم الشريف نفسه من الجهات الثلاث الأخرى ويهدد بعزل البلدة القديمة تماما عن القدس الكبرى ، ناهيك عن التهديد الذي تمثله الحفريات "الأثرية" التي ستسبق تحويل البستان الفلسطيني إلى حديقة عامة يهودية لأساسات السور الجنوبي الشرقي للحرم . والجدير بالذكر أن هذا التهديد الديموغرافي الجديد تزامن مع إغلاق "البوابة" الوحيدة التي كانت تصل بين أكثر من ستين ألفا من سكان الرام وبين ضاحية البريد في القدس ، ومع مخططات الاحتلال المعلنة للبناء في المنطقة التي أصبحت تعرف باسم "إي 1" لإغلاق الثغرة العربية الوحيدة الباقية للتواصل الجغرافي بين القدس وبين محيطها الفلسطيني بالضفة الغربية ، ومع مصادرة حوالي (1700) دونم لتوسيع مستعمرة "إفرات" لزيادة عدد مستوطنيها اليهود من تسعة آلاف إلى ثلاثين ألفا للتواصل مع مجمع مستعمرات "غوش عتصيون" التي تحاصر القدس من الجنوب والجنوب الغربي لكي يكتمل طوق المستعمرات حول القدس الكبرى لتوسيع مساحتها إلى مائة ميل مربع تمهيدا لإحاطتها بالجدار الفاصل ، مما سيعزلها تماما عن الضفة الغربية ويقضي عمليا على أي إمكانية واقعية على الأرض لإقامة دويلة فلسطينية عاصمتها القدس أو غير القدس بالفصل بين جنوب الضفة وبين شمالها ، مما يحول القدس في النتيجة إلى مقبرة يهودية لأي دولة فلسطينية مأمولة أو موعودة.
وبينما يجري هكذا على قدم وساق دفن "المشروع الوطني" لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس قزٌمت قيادة السلطة – المنظمة دورها إلى دور حزب سياسي أو نقابة تدعو إلى إضراب عام احتجاجا على حلقة من مسلسل تهويد طويل يكاد يكتمل ، كان يمكن للفصائل المؤتلفة في إطارها أو المطالبة بالشراكة في هذا الإطار أن تدعو إليه ، وربما وجدت هذه القيادة أن عليها أن تقوم بدور هذه الفصائل كونها تعيش بياتا سنويا بالنسبة للقدس لا تخرج منه إلا للاصطراع على السلطة أو للحوار حول تقاسمها أو للاحتفال بالذكرى السنوية لتأسيس كل منها كما فعلت معظمها خلال الأشهر القليلة الماضية في صحوة شتوية لبياتها المقدسي طوال العام.
إن المطلوب مقدسيا ووطنيا من أي قيادة فلسطينية بشأن القدس ، حيث تولد الدولة الفلسطينية أو تدفن ، هو قرار سياسي لا دعوة للإضراب "السلمي" ، وأن تتصرف كقيادة وطنية لا كقيادة حزبية أو نقابية ، وبما أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فلا أحد يطالب "هذه" القيادة بإعلان العودة إلى الكفاح المسلح والمقاومة ، فهي حتى لو رغبت في ذلك فإنها لم تعد مؤهلة له بعد أن أنهكت "معركة" السلام وثقافته غير المتبادلة كل قدرة لها على ذلك ، لكن اضعف الإيمان أن تقرر هذه القيادة أن عاصمتها المنشودة في القدس هي خط أحمر لكي تواصل التفاوض أو توقفه ، أو لتعيد توزيع موازنتها المتواضعة ليذهب إلى القدس ما هو مخصص منها "للأمن" لأن عدم تهويد القدس هو الضمانة الأمنية الأهم والأكثر حسما لصمود القدس ولتسويغ بقاء السلطة معا ، أو أن تقرر في أسوأ الحالات وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال في محافظة القدس لتتدبر قوات الاحتلال أمرها مع أهلها دون مساعدة فلسطينية مجانية ، أو أن ترفض استقبال البابا أو وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أو مبعوث أوباما الرئاسي جورج ميتشل أو غيرهم من كبار الزوار إلا إذا تعهدوا بممارسة الضغط على الاحتلال لكي تظل القدس قضية وضع نهائي "قابلة للتفاوض" ، أو أن تتحمل هذه القيادة المسؤولية التاريخية عن استمرار الوضع الراهن بالطريقة التي يراها شعبها مناسبة!

*كاتب عربي من فلسطين