بقلم : مرزوق الحلبي ... 6.10.08
لم يترك المعارضون لإشراك المرأة في العملية السياسية من خلال العضوية الفاعلة في لجنة المتابعة ادعاء بائسا أو جديا لم يسوقوه في معرض تسويغ مواقفهم وتحفظاتهم. وهي مواقف مكرورة في العادة نسمعها في كل المساحة الممتدة من المحيط إلى الخليج ومفادها أن مكان المرأة في البيت تدبَر شؤون أهله، وأن مساواة المرأة إنما هي بدعة ومن صنع المركز الغربي ولا يجوز استيرادها إلى مجتمعنا الذي يتمتع بخصائص مغايرة. لكن اللافت ذاك الادعاء المأخوذ عن الفكر النسوي النقدي القائل أن آلية ضمان مواقع تمثيلية للنساء في الهيئات والأجسام المنتخبة أو التمثيلية لا يتعدى كونه حلا تقنيا لا ينفذ إلى جذور المسألة. وهنا يبدو المعارضون تقدميين في نظرتهم للمرأة وحقوقها ومكانتها ويعارضون مساواتها تقنيا ويصرَون على إحداث تغيير جدري وجوهري في مكانتها!!
القوى التحديثية في المجتمع تقترح آلية ضمان مواقع للمرأة في الهيئات التمثيلية كآلية لتذويت قِيم المساواة بين الجنسين ولتصحيح غبن اجتماعي تاريخي وقع بحق المرأة وللفت النظر إلى رأسمال اجتماعي مهني ومعرفي تجسَده المرأة المغيبة عن العملية الاجتماعية ـ السياسية في مواقع صنع القرار والسياسات. تقابلها قوى اجتماعية محافظة في أحسن الأحوال رجعية في طروحاتها الاجتماعية والسياسية ترى في المجتمع الذكوري حالة طبيعية ومنتهى العادي، وأن لا حاجة إلى إهدار الوقت والنقاشات في مسألة هي في صلب تكويننا كمجتمع وذهنية وتاريخ وتقاليد. ويمتد بينهما جمهور عريض لا مانع عنده من التحديث في قضية المرأة والانتقال بها نحو نهوض لكنه ينتظر على الجدار غير مستعد بنفسه لخوض المواجهة.
ومع هدا تظلَ قضية إشراك المرأة في العملية السياسية من أوسع أبوابها قضية المجتمع العربي ككل بتياراته ومذاهبه. ولا يشفع لأي تيار تقدميته النسبية أو علمانيته أو ديمقراطيته أو وطنيته لأن الجميع تخاذل وخذل في هده المسألة. أما ما يحصل الآن من محاولات محمودة لضمان إشراك المرأة في عضوية لجنة المتابعة من خلال التمييز التصحيحي فهو خطوة محدودة ناهيك عن كونها متأخرة جدا. مع هدا نراها ضرورية في مؤدَاها لأنها ـ كما يتضح من تجارب مجتمعات أخرى ـ ترسَخ مفهوم المساواة بين الجنسين، وتخلق فرصا أمام المرأة التي لا تثق في العادة، بوصفها مخذولة تاريخيا وضحية قمع وإقصاء، بنوايا مملكة الذكورة وإن اعتمدت الليبرالية وقِيمها في إدارة شؤون المجتمع أو الدولة (أنظر إلى الفوارق بين مرأة ورجل في المجتمع اليهودي وفي كل الحقول). كما أن آلية التمييز التصحيحي هذه تخلق واقعا بوعي الشركاء فيه ـ وهنا "لجنة المتابعة" ـ كما حصل في مجتمعات سبقتنا ـ والتشديد على سبقتنا. ويُمكننا هنا أن نسوق واحدة من ادعاءات النسوية الثقافية التي تقول أن مشاركة النساء على قدم المساواة تتضمن في ظاهرها مساواة بين الجنسين وفي باطنها مساواة بين ثقاقتين باعتبار أن المرأة تجسَد، أيضا، ثقافة مغايرة، وأن لهذه الثقافة ما تعطيه وتسهم به في العملية الاجتماعية.
متطلبات التحرر الاجتماعي والنهوض هي متطلبات مجتمعنا المزمنة بوصفه مجتمعا مستضعفا ومقهورا. وقد انصبَت جهود مراكز القوة فيه على الخروج من دائرة القهر والإقصاء. إلا أن هذه الجهود انصبت على مواجهة السقوف التي أنشأها فوق رؤوسنا مجتمع الأكثرية اليهودية بدولته وإجراءاته القمعية المباشرة، من خلال استخدام العنف المعلن، وغير المباشرة، من خلال التشريع وتوزيع الموارد بما فيها الأرض. بمعنى أن كل طاقات المجتمع المحدودة أصلا وُجَهت إلى هدا المحور. وبحجة هدا الشرط التاريخي تأجَل الخوض في مسألة التحرر الاجتماعي. إلا في العقدين الأخيرين اللذين شهدا بروز جمعيات وحركات نسائية ونسوية نشطة على المحور الثاني، محور التحرر الاجتماعي. ولاحظنا حصول تقاطع بين المحورين سلبا وإيجابا تجاذبا وتنافرا ضمن ديناميكا عامة تأجل فيها التحرر الاجتماعي لضرورات الخروج من دائرة القهر والمواجهة مع الآخر. لم يتغيَر الوضع في جوهره بل أبقي على النساء في منأى عن مراكز صنع القرار وإن تم تقريبهن مع الوقت من هذه المراكز. وبدا في كثير من امتحانات الحياة أن هدا التقريب إنما هو تجميلي أو لغرض الكسب السياسي وليس إيمانا بفكرة المساواة بين الجنسين أو ضرورة العمل على إزالة غبن تاريخي بحق المرأة كفرد وكنوع اجتماعي. لكن ما دمنا تجاوزنا أنفسنا معرفيا وأدركنا قصورنا البنيوي في هدا المضمار وتعلَّمنا من تجارب مجتمعات ما أن تحررت سياسيا حتى انكفأت اجتماعيا، ما دمنا أدركنا "حقيقتنا" فلماذا لا يتم العمل على التغيير باتجاه مشاركة متكافئة متساوية بين الرجل والمرأة في العملية الاجتماعية؟ وهو سؤال تنهض بعبئه عندنا عادة المنظمات والجمعيات النسائية والنسوية تواجه به الأطر السياسية والقوى الاجتماعية العلمانية والمتدينة على السواء. لم يعد بالإمكان تأجيل الإجابات عليه مهما يكن الادعاء والتسويغ.
لا أعتقدنا قادرين على النهوض من قهر أو الخروج فوق سقف السلطة إلا إذا كنّا مستعدين لتغيير في داخلنا باتجاه تطوير حريات الفرد واحترام حقوقه والفكاك من "عقدة المرأة" نناقشها كأننا المجتمع الأول في الدنيا الذي يواجه هذه العقدة! سيظل سعينا للنهوض عقيما فاقدا للنسغ طالما لم نعتمد قيم وخطاب التحرير الذاتي مضفورا بقيم وخطاب التحرّر من هيمنة الآخر. فثمة تخلّف ومعوّقات هي من صنع أيدينا. بل يبدو لي، أحيانا، بكثير من المفارقة أن تخوم الحريات التي يرسمها الآخر لنا، مثل حرية الرأي وحرية الدين وحرية السياسة وحرية الفرد وحرية الإبداع وحريّة تحقيق الذات، أوسع بما لا يُقاس من تلك التي ترسمها القوى الاجتماعية والسياسية عندنا. وقد لوحظت هذه القوى ميالة في السنوات إلى المحافظة والتراجع فكريا وأداءً مراعاة لنشوء لمحاور اجتماعية ودينية محافظة و/أو رجعية، وكنا، والمرأة بوجه خاص، نتوقع منها انطلاقة واضحة نحو تحقيق نوع من الاختراق والتقدّم على جبهة طال تقهقرنا عليها. وإلا فما قيمة أن نناضل ونطالب وندَعي ونكتب؟ مساواة المرأة فعل أخلاقي وحديث يتصل بمدى التزامنا بحقوق الإنسان وحرياته ضد كل هيمنة وتسلَط أو إكراه مهما يكن مصدره.