بقلم : د.فيصل القاسم ... 16.02.2009
لا داعي للتذكير بأن النازيين والفاشيين الصهاينة حلوا محل الفاشيين والنازيين الأوائل كأبشع مجرمين عرفهم التاريخ. ولا شك أن هولاكو أو هتلر كانا سيتململان في قبريهما لو شاهدا مدى الوحشية الصهيو-أمريكية في غزة، ومن قبلها في لبنان والعراق، وكانا سيعتبران نفسيهما مجرد تلميذين في الإرهاب والنازية مقارنة بالأمريكيين والصهاينة. لهذا لسنا بحاجة لمزيد من الإسهاب في فضح البربرية الصهيو- أمريكية، فالتاريخ كفيل بحجز المكان المناسب لها على صفحاته. لكن، في موازاة تلك البشاعة غير المسبوقة في الإجرام اليهودي تبرز بشاعة عربية لا تقل بؤساً وسفالة وانحطاطاً.
صحيح أن هدف إسرائيل وأمريكا من الإجرام غير المسبوق عالمياً في غزة وغيرها كان لأهداف مغايرة تماماً لمصالحنا، لكن ذلك الإجرام كان من شأنه أن يصب في مصلحتنا ليشكل نقطة تحول تاريخية إيجابية لدى الشعوب العربية لو كان باقياً فيها ذرة إحساس، ونخوة حقيقية.
لقد قدمت لنا النازية الصهيو- أمريكية أكثر من فرصة ذهبية لصنع التاريخ، لكننا كنا دائماً نركل تلك الفرص جانباً، ونكتفي بمجرد العويل، ومشاهدة الفضائيات، وذرف الدموع، وفي أحسن الأحوال بالصراخ في الشوارع وحمل اللافتات والشعارات، وإحراق الأعلام، بالإضافة طبعاً إلى المعزوفة العربية الأصيلة المتمثلة بالشجب والاستنكار والتنديد، وذلك منذ اجتياح بيروت عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين حتى الآن.
لا أريد طبعاً الانتقاص من قيمة المظاهرات التي خرجت في أكثر من عاصمة عربية على غير العادة تضامناً مع غزة، وهو بلا شك، تطور عربي لافت، ربما أملته فظاعة الوحشية الصهيونية، ومحاولة من الأنظمة العربية لتنفيس الشارع سلمياً بدلاً من الاضطرار لقمعه عندما يخرج عن الطوق. لهذا رأينا أن الذي بادر إلى تشجيع التظاهرات هذه المرة هم الحكام أنفسهم لامتصاص الغضب الشعبي، وتحويله في الاتجاه الذي يريدونه. ونحن نعلم أن التظاهرات الحرة قلما تسفر عن نتائج كبيرة في أكثر البلدان ديمقراطية، فما بالك إذا كان الكثير من المسيرات العربية مسيّرة ومضبوطة على الشعرة.
لقد قالوا للقائد البريطاني الشهير اوليفر كرومويل ذات يوم: "إن أكثر من عشرة آلاف متظاهر يحتشدون بالقرب من مقره، فسألهم كرومويل ببرودة: وهل يحمل أي من المتظاهرين سلاحاً، فأجابوا: لا، فقال كرومويل: دعوا الحشود إذن تصرخ، وتزبد، وترغي كيفما تشاء". وفي ذلك طبعاً استخفاف واستهزاء واضح بكل عمل جماهيري صوتي، لا يتحول من الصراخ إلى القوة والتغيير الحقيقي.
إن ما شاهده الإنسان العربي من الماء إلى الماء من مجازر ومحارق صهيونية وأمريكية في العراق ولبنان وفلسطين على مدى العقدين الماضيين كان ربعه كافياً لإحداث تحولات تاريخية في المنطقة على أكثر من صعيد، لو كانت الشعوب العربية تمتلك شجاعة وإرادة الشعوب الأخرى التي ثارت على طغاتها، وأحدثت تغييرات جوهرية.
لقد كان النازيون الأمريكيون والصهاينة، ومازالوا يستفزوننا إلى أقصى درجة بوحشيتهم وبربريتهم واستهتارهم بنا، لعلنا نتحرك، لكننا كنا نواجه استفزازهم الفظيع بردود فعل مضحكة، فقد أهانوا أقدس المقدسات الإسلامية حتى وصل بهم الأمر إلى التغوط على القرآن العظيم، وتدمير مئات من بيوت الله بدم بارد. وماذا فعلنا نحن؟ كان طلابنا يقبلون بالصراخ والهتافات داخل حرم الجامعات العربية ضد الفظائع الإسرائيلية والأمريكية، بدلاً من مواجهة أجهزة الأمن وكلاب الحراسة وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع.
لقد كان حرياً بكل من يخرج إلى الشارع احتجاجاً أن يعي بأن الاكتفاء بالصراخ أمام أجهزة القمع والمنع العربية المدججة بالسلاح لهو ضحك على الذقون وكذب على النفوس، لا بل مضيعة للوقت ونوع من رفع العتب لا أكثر ولا أقل. لا عجب إذن أن أحد كبار المسؤولين الأمنيين العرب سخر، واستهزأ كثيراً بالمظاهرات التي تخرج في الشوارع العربية تأييداً لغزة. وربما كان محقاً في سخريته. وأعتقد أنه وأمثاله سيظلون يسخرون من المسيرات العربية، طالما أنها لا تقترب من عرينهم، ولا تزلزل الأرض من تحتهم، كما فعل الثوار الفرنسيون مع الباستيل، والثوار الرومانيون مع تشاوسيسكو وزوجته. وأعتقد أن على المتظاهرين العرب أن ينتبهوا إلى كلام الضابط الأمني الكبير جيداً، وأن يجعلوه يوماً يأخذ المظاهرات على محمل الجد بدلاً من التهكم عليها، فكل فعل يجب أن يكون له ردة فعل مساوية له في المقدار فيزيائياً، فلا يعقل أن يكون الرد العربي على شلالات الدماء العربية التي يسفكها الصهاينة مجرد مظاهرات، حتى لو وقفت في وجوه الشعوب كل أجهزة الأمن والشرطة. وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق.
لا يكفي الاحتجاج والعويل بشهادة رجال الأمن أنفسهم، فطالما أن الأنظمة العربية الحاكمة تعرف أن التظاهرات لن تخرج عن نطاق الصوت العالي، فهي لن تحرك ساكناً لا من أجل التغيير في الداخل ولا انتصاراً لملايين العرب الذين سفكت دماءهم آلة الحرب الصهيو-أمريكية في فلسطين ولبنان والعراق.
الأنظمة العربية ستتحرك لوقف المجازر الصهيو-أمريكية فقط عندما تعي أن وضعها أصبح على كف عفريت، عندها ستصرخ بالفم الملآن في وجه الأعداء كي يوقفوا بربريتهم. ولا شك أن الأعداء سيأخذون صرخات أزلامهم من حكامنا على محمل الجد، فهم يعرفون أن سقوط هؤلاء الأزلام سيكلفهم كثيراً، وبالتالي فإن الحفاظ عليهم أثمن لهم بكثير من التضحية بهم أمام الضغوط والانتفاضات الشعبية.
لقد انتصرت إسرائيل على العرب أجمعين في معركة غزة، فبإمكانها أن تتبجح بأنها أذاقت الفلسطينيين أبشع المحارق، ولم تر من العرب، حكاماً وشعوباً، سوى الكلام الفارغ والتظاهرات السخيفة. وهذه حقيقة تفقأ العين.
إنه وضع مأساوي فعلاً، فإذا لم يستغل الشارع العربي مناسبة كمناسبة محرقة غزة التي هزت العالم من أقصاه إلى أقصاه لهز حكوماته وإحداث أكثر من تغيير، فمتى يتحرك؟ لقد أثبت الشعب العربي أنه عصي على التأثر حتى بأبشع الفظائع وأكثرها نازية، واكتفى كعادته بردود الفعل العاطفية العابرة، وكفى المتظاهرين شر القتال.
باختصار فإن الشعوب العربية لا تقل تعاسة عن حكامها. وقد كان الكاتب الجزائري النوي قحدون على حق عندما قال إنه يختلف مع "كثيرين حينما يحاولون إضفاء فعل الخيانة على النظام الرسمي العربي وتبرئة ذمة الشعوب بداعي الحصار السياسي وغياب الحريات، ويتفاخرون أحيانا بخروج آلاف ممن تحدّوا الأنظمة أو بإيعاز منها، ويختصرون المسألة في غياب ديمقراطية حقيقية". إن تصرفات الجماهير
"لا تشرف الشعوب العربية التي يدعي البعض أنها مغلوبة على أمرها.... فإنني أجزم أن الشعوب تسير في فلك منطق حكامها، وأكبر دليل على ذلك هذا التناغم الذي رأيناه بين أكبر نظام عربي وشعبه. فقد كان يمكن لبضعة آلاف من المصريين التوجه إلى رفح، وينتهي الحصار، أو على الأقل خلق أزمة حقيقية تعبّر عن صوت الشعب العربي الواحد المتضامن مع غزة، لكنني رأيت نظاماً يثابر على فرض تسوية بمنطقه، بينما هناك سبعون مليون جائع ينتظرون المكاسب والمساعدات".
ولا شك أن إسرائيل أعرف بحكامنا وشعوبنا أكثر من الكثير منا، وهي، على هذا الأساس، لن تترد مستقبلاً في مضاعفة محارقها ومجازرها ضدنا، ولربما ترحّمنا نحن لاحقاً على مجازر غزة مقارنة بالمحارق الإسرائيلية والأمريكية المستقبلية بحقنا، طالما أن إسرائيل وأمريكا مقتنعتان بأن الفرق بين الحكام العرب وشعوبهم كالفرق بين الببسي والكوكاكولا!