بقلم : نقولا ناصر* ... 23.02.2009
(رهان بعض العرب والفلسطينيين على أن المجتمع الدولي قد شرعن "حل الدولتين" وشرعن "عملية أنابوليس" ليس ضمانة كافية لترجمة هذا الحل إلى واقع ملموس على الأرض)
واشنطن باراك أوباما وتل أبيب بنيامين نتنياهو متفقتان على الحرب العالمية على الإرهاب ، وفي هذا الإطار الاستراتيجي فقط تتفق دولتا الاحتلال في العراق وفلسطين أيضا على التعاطي مع أي تسوية سياسية تسعيان إليها لحل الصراع العربي الإسرائيلي ، وليس في أي إطار آخر لإنهاء الاحتلال ، وتحصيل حاصل أن العاصمتين نتيجة لذلك تتفقان كذلك على أن حركات المقاومة الوطنية للاحتلال هي حركات إرهابية ، لكن إلى هنا ينتهي التطابق الأميركي – الإسرائيلي ، إذ ترى إدارة أوباما الجديدة أن أفغانستان هي الساحة الرئيسية للقضاء على الإرهاب بينما ترى حكومة الحرب الجديدة في تل أبيب أن مصدر الإرهاب الإقليمي يوجد في إيران ، وبينما تحرض تل أبيب علنا للحرب على طهران تسعى واشنطن إلى الحوار معها لمقايضة برنامجها النووي ودعمها لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان شرقي البحر الأبيض المتوسط بدور إقليمي لها في العراق وغربي الخليج العربي مقابل التنسيق معها في أفغانستان لحسم الحرب فيها لمصلحتها تكرارا لتجربة تنسيق مماثلة ناجحة في العراق ، غير أن عدم التطابق الأميركي – الإسرائيلي هذا هو اختلاف تكتيكي في مقاربة "الحرب على الإرهاب" بينما يستمر الاتفاق الاستراتيجي بين الطرفين على هذه الحرب .
لذلك فإن أي رهان عربي على عدم التطابق التكتيكي هذا ، انسياقا مع التحليلات السياسية التي تستخلص منه بأن واشنطن وتل أبيب تسيران في طريق تصادمي بعد النصر الحاسم الذي حققه تيار ما يصفه الإعلام الإسرائيلي والغربي ب"اليمين المتطرف" المعارض ل"عملية أنابوليس" ولمبدأ مبادلة الأرض بالسلام بعد انتخابات العاشر من الشهر الجاري ، هو رهان متسرع يندرج في باب التمني أكثر مما يبني على المواقف المعلنة للإدارة "الديموقراطية" الجديدة في البيت الأبيض ويغرق في أمنيات ذاتية غير موضوعية "تتمنى" أن تجد في هذا الاختلاف التكتيكي نافذة فرصة تعلل بها النفس بإمكانية أن يظهر في البيت الأبيض دوايت أيزنهاور معاصر يكرر ما فعله الرئيس الأميركي الأسبق بالضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة حاليا كما ضغط عليها أيزنهاور للانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي الإسرائيلي – البريطاني – الفرنسي على مصر في خمسينات القرن العشرين الماضي ، في تجاهل للظروف التاريخية الدولية المختلفة تماما عن الظروف الحالية ومنها على سبيل المثال "الإنذار السوفياتي" آنذاك لإسرائيل بالانسحاب وقرار واشنطن التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منثصرة باستثمار ذاك النصر لوراثة الاستعمارين البريطاني والفرنسي الهرمين في الشرق الأوسط.
كما أن المنجذبين إلى مثل هذا الرهان الطوباوي ب"تفاؤل" رئيس أميركي أسبق آخر مثل جيمي كارتر بأن حل الصراع العربي الإسرائيلي ما زال ممكنا سياسيا ، كما قال في سانت لويس في العاشر من الشهر الجاري مستشهدا بالنجاح الذي حققه في إنجاز السلام المصري الإسرائيلي في كامب ديفيد ، أو بتفاؤل المبعوث الرئاسي الأميركي الجديد للسلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل الذي يكرر منذ توليه مهمته الجديدة التفاخر بإنجازه السلام في إيرلندا الشمالية ليقنع العرب بعدم استحالة تحقيق إنجاز مماثل في مهمته الحالية ، إنما يقعون في الانتقائية إذا لم يوازنوا مثل هذا التفاؤل ، مثلا ، ب"تشاؤم" وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند من أن يرى دولة فلسطينية تقوم في حياته – وهذه الدولة الموعودة هي عماد "حل الدولتين" الذي هو بدوره محور الحل المأمول للصراع العربي الإسرائيلي -- كما قال ميليباند لصحيفة نيوستيتسمان مؤخرا ، ويتعامون عن حقيقة كثيرا ما تضيع في تفاصيل الحراك السياسي الراهن وهي أن سيناء التي تفخر الدبلوماسية الأميركية بالفضل في إنقاذها من الاحتلال الإسرائيلي وإعادتها إلى مصر مرتين خلال أربعة وخمسين عاما ، ومثلها بقية الأراضي العربية المحتلة عام 1967 ، هي مجرد أراضي احتلتها إسرائيل بهدف مبادلتها باعتراف عربي بوجودها في فلسطين ، كل فلسطين ، عبر فرض اتفاقيات صلح أمر واقع منفردة مع كل دولة على حدة من دول "الطوق" العربية.
و"الحرب على الإرهاب" ليست هي فقط القاسم الاستراتيجي المشترك الوحيد بين دولتي الاحتلال الإسرائيلي والأميركي في الشرق الأوسط ، ف"المقاربة الشاملة" التي أعلنتها إدارة أوباما للسلام العربي الإسرائيلي على أسس منها مبادرة السلام العربية ، معدلة على الأرجح تعديلا يعطي الأولوية لمزيد من اتفاقيات الصلح المنفردة كمدخل لتسوية عامة لاحقة ، تتفق تماما مع تلك الرؤية الإسرائيلية الاستراتيجية للحل التي تسعى إلى استكمال كسر الطوق العربي بمزيد من الاتفاقيات المنفردة حتى تبقي الحل الفلسطيني الإسرائيلي للنهاية لتتمكن من فرضه بشروطها بعد أن تجرد المفاوض الفلسطيني من كل أوراقه العربية ، وفي هذا السياق يلاحظ الاندفاع الأميركي المتسارع مؤخرا لتطبيع العلاقات السورية الأميركية.
ويلاحظ أيضا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف بنيامين نتنياهو بقدر ما كان "تفصيليا" في معارضته "المتشددة" لمبادلة الأرض بالسلام مع الفلسطينيين بقدر ما كان "مختصرا" وعاما في معارضته لإعادة هضبة الجولان العربية السورية إلى أصحابها الشرعيين ، ولن يكون مفاجئا أن تسارع حكومة نتانياهو المقبلة إلى تضييق فجوة الاختلاف التكتيكي مع حليفها الاستراتيجي الأميركي حول "عملية أنابوليس" بالهروب من استحقاقات هذه العملية إلى استرضاء واشنطن على المسار السوري ، حيث يتفق الحليفان أيضا على أهمية تحريك هذا المسار كوسيلة تحفيز يفترضانها لإغراء دمشق بإضعاف علاقاتها الوثيقة مع طهران إن لم يكن بالانقلاب السوري تماما عليها . وقد كان لافتا للنظر أن أول تصريح أدلى به نتنياهو بعد تكليفه بتأليف حكومة جديدة كان متطابقا مع تصريحين كان أوباما قد أدلى بهما حول إيران في الفترة الفاصلة بين انتخابه وبين توليه مقاليد البيت الأبيض رسميا ، إذ اتفق الرجلان على أن ما يأخذانه على إيران هو برنامجها النووي أولا ثم دعمها للإرهاب !
غير أن "الديموقراطية" ليست من القيم الاستراتيجية المشتركة بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي ، بالرغم من الاتصال الهاتفي بين أوباما وبين رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس الذي امتدح الأول فيها "الديموقراطية الإسرائيلية التي تشبه ديموقراطيتنا" غداة ظهور نتيجة الانتخابات الأخيرة ، فالديموقراطية التي تطورت لحل النزاعات بين الناس سلميا هي نظام لا يمكن أن يتناقض مع السلام وهي عندما تفرز حكومة حرب وقيادات عنصرية تسعى إلى إقامة "غيتو" يهودي خالص لا مكان فيه للتعايش السلمي وترهن عملية السلام لموافقة الآخر على الاعتراف بمثل هذا الغيتو كدولة من دول القرن الحادي والعشرين يكون في مثل هذه الديموقراطية خلل قاتل لا بد إن عاجلا أو آجلا من أن يقود إلى "انتخاب" رجل كهتلر وحركة سياسية كالحزب النازي .
وفي هذا السياق لا بد من التوقف عند المقال الذي نشره شمعون بيريس في الواشنطن بوست الأميركية مؤخرا ليحث فيه على العمل من أجل "حل الدولتين" قبل فوات الأوان لكي يكون ممكنا استكمال بناء الغيتو اليهودي في فلسطين كدولة ، إذ كانت حجته الرئيسية لاقناع الآخرين بهذا الحل مستندة إلى انتقاد دراسة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية جرى توزيعها مؤخرا بشكل محدود على أعضاء مختارين من لجنتي الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس وتتنبأ بأن "التحرك العنيد بعيدا عن حل دولتين إلى حل دولة واحدة باعتبار الحل الثاني هو النموذج الأكثر قابلية للحياة على أساس المبادئ الديموقراطية للمساواة الكاملة الذي يمكنه إبعاد شبح التمييز العنصري الاستعماري الذي يلوح في الأفق ويسمح في الوقت نفسه بعودة لاجئي 1947/1948 و1967 كشرط مسبق لسلام مستدام في المنطقة" ، لتخلص الدراسة ، كما اقتبس بيريس منها ، إلى أنه "خلال الخمسة عشر سنة المقبلة سوف ينتقل أكثر من مليوني إسرائيلي ، منهم حوالي نصف مليون مواطن إسرائيلي ممن يحملون حاليا بطاقات خضراء أو جوازات سفر أميركية ، إلى الولايات المتحدة ... وسوف يعود ما يقارب (1.6) مليون إسرائيلي إلى أراضي أجدادهم في روسيا وأوروبا الشرقية والغربية على الأرجح ، بينما سيختار عشرات الآلاف البقاء حسب طبيعة الفترة الانتقالية" . إن نبؤة السي آي ايه في دراستها بحل الدولة الواحدة أثارت رعب بيريس ليكتب في مقاله بأنها نبؤة "تنسف شرعية إسرائيل وحقها المعترف به دوليا في الوجود كدولة يهودية ذات سيادة في أرض أجدادي" . ومن المفارقات أن يكون الزعيم الليبي معمر القذافي هو الشاذ الوحيد بين القادة العرب الذي يلتقي في تحليله مع السي آي ايه في رؤيته المعلنة بأن حل الدولة الواحدة هو التسوية الديموقراطية السلمية الوحيدة الممكنة نظريا للصراع العربي الإسرائيلي على فلسطين . غير أن رعب بيريس من حل كهذا يشي بعدم ثقة أيضا في حل الدولتين يتناقض تماما مع استمرار "تفاؤل" بعض العرب به.
إن رهان بعض العرب والفلسطينيين على أن المجتمع الدولي قد شرعن "حل الدولتين" وشرعن "عملية أنابوليس" كطريق دبلوماسي تقود إليه في قرارات لمجلس أمن الأمم المتحدة وفي الالتزام المعلن بذاك الحل وبتلك العملية من الدول دائمة العضوية في المجلس ومن لجنة الوسطاء الدولية "الرباعية" ليس ضمانة حد أدنى كافية لترجمة هذا الحل إلى واقع ملموس على الأرض لعدة أسباب أولها وأهمها الحقائق المادية التي يواصل الاحتلال خلقها على الأرض نفسها في سباق مع الزمن ومع المجتمع الدولي نفسه لجعل هذا الحل مستحيل التطبيق ، وثانيها أن المجتمع الدولي المعني بهذا الحل عاجز عن ممارسة ضغط جاد على الولايات المتحدة الأميركية لكي تلتزم بسقف زمني لتحقيقه ، وثالثها أن هذا المجتمع يستمر في إذعانه للضغط الأميركي بعدم ممارسة أي ضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي بحجة عدم التدخل في التفاوض الثنائي الفلسطيني الإسرائيلي ليظل هذا التفاوض تحت رحمة موازين القوى المختلة تماما لصالح القوة القائمة بالاحتلال وهي تفاوض شعبا أعزلا خاضعا للاحتلال وملزما بالإكراه بعدم مقاومة هذا الاحتلال ، ورابعها أن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة قد أسقطت حكومة كانت تقول إنها ملتزمة ب"عملية السلام" ، وإن لم يكن بالسلام نفسه بدليل أنها شنت حربين خلال أقل من ثلاث سنوات من ولايتها ، لتفرز بدلا من ذلك حكومة حرب يعلن قادتها رفضهم الصريح لكل المرجعيات التي قامت عليها تلك العملية على علاتها.
ومن المقرر أن يكون جورج ميتشل اليوم أو غدا الثلاثاء في المنطقة في ثاني جولة له فيها منذ عينه أوباما مبعوثا رئاسيا للسلام في الشرق الأوسط ، وذكرت تقارير الأخبار انه ينوي افتتاح مكتب دائم له في القدس المحتلة ليتابع مهمته عن كثب فوق أرض الصراع نفسها ، وإذا كانت هذه مؤشرات إيجابية إلى جديُة الرجل فإن مؤشرات أخرى تثير الشك في أن يكون الحل على المسار الفلسطيني هو الأولوية التي يعمل من أجلها . فعلى سبيل المثال قالت شبكة ايه بي سي إن ميتشل سوف "يحاول" زيارة إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة خلال جولته الثانية التي ستشمل لندن وأنقرة والرياض قبل أن ينضم إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في حضور مؤتمر المانحين لغزة الذي تستضيفه مصر في الثاني من الشهر المقبل.
غير أن المؤشر السلبي الأهم تمثل في التنسيق الذي حرص عليه ميتشل مع القادة اليهود والصهاينة الأميركيين إذ التقاهم مرتين عشية بدء جولته الثانية في المنطقة ليقول لهم: "لا أستطيع أن أضمن لكم نتيجة لكنني أستطيع أن أضمن لكم بذل جهد" وليؤكد بأن قضية الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة "هي قضية هامة لكنها ليست القضية الوحيدة" ، بالرغم من تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس المتكررة بأن نجاح مهمة ميتشل أو فشلها يقرره موقفه وموقف الحكومة الإسرائيلية الجديدة من هذه القضية على وجه التحديد ، كما أكد لهم بأن إدارة أوباما "لن تتدخل" في شكل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي المقبل بغض النظر عن موقف هذا الائتلاف من مرجعيات مهمته نفسها ، وهو موقف مناقض تماما للموقف المعلن للإدارة الجديدة في البيت الأبيض من أي حكومة قد يختار الفلسطينيون التوافق عليها ، ناهيك عن تركيزه على الخطر الإيراني باعتباره من أهم المتغيرات في المنطقة منذ كتب تقريره المعروف بتقرير ميتشل عام 2001/2002 .
إن الانحياز الأميركي لدولة الاحتلال الإسرائيلي ما زال على حاله ، وكذلك ازدواجية المعايير في السياسة الخارجية الأميركية ، كما أن استمرار إدارة اوباما في مواصلة سياسات الإدارات السابقة برفض ممارسة أي ضغط على دولة الاحتلال لإلزامها بالاستحقاقات المترتبة عليها حتى طبقا للمبادرات الأميركية نفسها ، ومنعها أي ضغط مماثل من غيرها من قوى المجتمع الدولي المؤثرة ، ثم مجيء حكومة إسرائيلية تعلن رفضها لكل المرجعيات "الأميركية" التي قامت عليها "عملية انابوليس" التفاوضية ، يقتضي توحيد الموقفين العربي والفلسطيني كوسيلة وحيدة باقية لإحباط كل المضاعفات المتوقعة للوضع الجديد الناشئ عن الانتخابات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة.