أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ذكريات من القدس: صداقة الأمكنة، والأشخاص، واللوعة على ما ضاع...

بقلم : رشاد ابوشاور ... 14.02.2009

كتاب السيّدة سيرين الحسيني شهيد( ذكريات من القدس)، ليس مذكرات شخصيّة عن دور سياسي في الحياة الفلسطينيّة، أو الاجتماعيّة، ولكنه كتاب يبوح بسّر العلاقة مع الأمكنة، تلك التي امتزجت بالطفولة المبكرّة، وبالأشخاص الذين تركوا أثرا لا ينسى في النفس، لا تمحوه سنين الغربة والتشرّد والتقدّم في العُمر.
الكتاب صدر بالإنكليزيّة في طبعته الأولى، ومن ثمّ بالفرنسيّة، وعنها نقله إلى العربيّة الكاتب المغربي الدكتور محمّد برّادة...
في المقدمة تفصح السيّدة سيرين عن الدافع لكتابتها كتابها هذا: كتبت هذه الصفحات عن طفولتي، وعن فلسطيني الثلاثينات من القرن الماضي، من أجل بناتي، والأجيال الآتية التي لعلّها تجهل كلّ شيء عنّا، وعن طريقة عيشنا. ويبدو لي مهما الحفاظ على ذاكرة تلك الأيّام المندثرة، ذلك أنّ الأمل في مستقبل أفضل لا يمكنه أن يتغذّى إلاّ بمعرفة حقيقة الماضي . (ص9)
قارئ هذا الكتاب سيتعرّف على فلسطين في الثلاثينات، في بعض الجوانب، التعليميّة، الاجتماعيّة، الوطنيّة، ولعلّه وهو يلمس تطوّر الحياة بإيقاع سريع وحيوي، سيتساءل: ماذا لو أن فلسطين لم تُنكب بالهجمة الصهيونيّة المترافقة مع الاحتلال البريطاني لفلسطين؟!
هذا الكتاب هو (شهادة) لامرأة فلسطينيّة، ولدت لأسرة فلسطينيّة هي الأعرق، والأبرز في التاريخ الفلسطيني الحديث، الوطني تحديدا، أقصد عائلة ( الحسيني)، وهي من جهة الأم تنتمي لعائلة ( العلمي) التي من أبرز رجالاتها ( موسى العلمي) خال سيرين، ناهيك عن جدّها فيضي العلمي، عضو مجلس المبعوثان، ورئيس بلديّة القدس.
تكتب محررة الكتاب جين سعيد مقدسي: وإذا كان وجود النساء قلّما يستحضر في كتب التاريخ الرسميّة، فإنه أكثر غيابا عندما يتعلّق الأمر بالأطفال، والبنات خّاصة، وهذا هو مصدر حماسي لقراءة كتاب سيرين .( ص12)
الكتاب ليس ذاتيا، ولكنه علاقة ( الذات) بمكان نشوئها، وبمن رعوها في منبتها، وتداخلت حياتها بحيواتهم، بالمكان وأهله، والذين بخصوصيتهم، وخياراتهم، شكّلوا الحياة النفسيّة والتعليميّة والثقافيّة والوطنيّة للسيدة سيرين.
تكتب السيّدة جين سعيد في ختام تقديمها: إن فتاةً من القدس تخلق من جديد خلال هذه الصفحات التالية، بعض اللحظات من التاريخ الحديث لمدينتها، مضيفةً بذلك بعدا جديدا إلى محكي التاريخ الفلسطيني.( ص13)
والد سيرين هو المناضل والصحفي جمال الحسيني، الذي لوحق إبان حقبة الانتداب البريطاني، لوطنيته، وكتاباته الصحفيّة، فتشرّد مع أسرته إلى لبنان، والعراق، وهو ما أثّر على أفراد أسرته، بناته وابنه، وفي المقدمة زوجته (نعمتي) التي تنتمي لعائلة العلمي العريقة.
يبدأ إدوارد سعيد تقديمه للطبعة الإنكليزيّة، بجملة لسيرين: في بعض الأيام يثقل الماضي كثيرا على القلب، لكنني أُعاود الاستغراق فيه وأتذكّر. ( ص15)

سيرين تعلّمت في مدارس ( الفرندز)، وأوصلها اجتهادها ودعم الأهل لها إلى الجامعة الأمريكيّة، حيث تخرّجت منها.
عن هذا الانفتاح، والرغبة في التعلّم، والروح الوثّابة لدى النساء الفلسطينيّات ما بين الحربين العالميتين، يكتب سعيد: ..بالنسبة لفتاة عربيّة خلال ما بين الحربين العالميتين، لم يكن مثل هذا المستوى من التعليم مألوفا، لكننا نستطيع أن نرى فيه علامةً منبئة بالطاقة الخارقة التي دفعت الفلسطينيين، مذّذاك، وخاصةً النساء، إلى عدم الاكتفاء بأن يكنّ متفرجات كسولات، أو سلبيّات، بل دفعتهن إلى الإسهام في الحملة المشتركة للتنمية والكفاح الاجتماعي ( ص17).

لهذا، وأنا أقرأ فصول الكتاب كنت أكرّر السؤال: لو أن فلسطين لم تنكب بالانتداب البريطاني المتحالف مع الغزو الصهيوني، كيف كانت أحوالها ستكون، وهي ترتقي سلّم العلم والتقدم والمدنيّة؟!
تبدأ سيرين كتابها بهذه الجملة التي تعود بها لأيام طفولتها، وبها تبدأ سيرة علاقتها بالأمكنة والأشخاص الأحب إلى قلبها: يحتّل والدي سويداء قلب ذكرياتي الأولى في القدس. كان يمضي وقتا طويلاً معي في البيت، إذ إن أمي منشغلة دوما مع الأطفال الرضع المتتالين... (ص21)

الأم، الأب، البيت، القدس، الحديقة بأشجارها وأزهارها، عالم أليف بلا مخاطر تتهدّد الطمأنينة التي تعيش سيرين في كنفها، تلك هي بداية الطفولة التي لن تستمر بهذه الوتيرة، لأن الأب رجل وطني، وفلسطين في مهّب المخاطر: الانتداب البريطاني، الغزو الصهيوني...

يتألّف الكتاب من فصول صغيرة ، كتبت بتداع حُر، كأن السيّدة تجلس على المسرح، تقدّم مونودراما بطلتها الذاكرة، تعيد سرد ماضيها وأسرتها، وضمنا بلدها المنكوب فلسطين، بكلام قليل، ينبئ بحزن ثقيل تختزنه النفس، وبحنين لبيوت، وأرض، وأشجار، وحقول في قرى القدس، وأريحا، حيث عاشت الأسرة متنقلة مع أب رومانسي، مُحب لحياة الفلاّحين...

البلّوطة في هذا الكتاب شخصيّة حيّة، إنها ليست مجرّد شجرة مُعمرة، ولكنها مكان، وعراقة، وناس قرويّون بسطاء طيبون.

يمّر الأب ذات رحلة بقرية شرفات، فتلفت البلّوطة انتباهه، وتستحوذ على نفسه بجمالها ووقارها وسموقها، فيعرض على صاحبها أن يشتريها، و..معها يشتري قطعة أرض تحيط بها، ويبني بيتا، وتنشأ علاقة بين سيرين والشجرة، وسيرين ومريم ابنة الفلاّح جارهم، وتفتن سيرين بمريم وطريقة ندائها، فتقلدها، وتتعلّق بها: أحسست بمنتهى السعادة عندما طلبت جدتي منّي أن أستدعي عائلة مشعل لتناول قهوة الصباح معنا. تسلقت، فخورةً، قمّة البلّوطة، وناديت:
_ هيه ، يا مريم، هيه...
_ أونيش، جايين...أجابتني.

كان صوتانا يرنان عبر القرية كلها، وخارج الواد، والمّارة المتعودون على صيحاتنا يبتسمون محبذين تلك الصداقة بين المدينة والرقية. ( ص53)
ماذا جرى لمريم وأسرتها؟
مرّت عقود، وأصبحت أعيش في بيروت مع زوجي، وذات مساء سمعنا في الإذاعة: هوجمت شرفات، وهي قرية غرب القدس. وقد تهدّم منزل علي مشعل، المختار، نتيجة الانفجار، ومات علي مشعل وجميع أفراد عائلته. فيما بعد ، وصلتنا تفاصيل أخرى: لقد ظلّت مريم وأختها الصغيرة يوما كاملاً تحت الأنقاض، قبل وصول الإغاثة التي حملتهما إلى المستشفى، لكنهما غادرتا الحياة بعد قليل. أفكّر في مريم، وأحيانا قلبي يناديها: هيه ، يا مريم ، هيه ..!( ص56)
من الأمكنة التي تتعرّف إليها وتفتن بها( أريحا)، التي يأخذها الوالد إلى جبلها الشهير( جبل التجربة)، المرتفع، الوعر المسالك، المطّل على سهول أريحا، والذي واجه فيه السيّد المسيح ( الشيطان) وانتصر عليه في ( التجربة).. ومنه حمل الجبل اسم ( جبل التجربة)، وإن عُرف بين العّام باسم ( جبل قرنطل) .
تكتب عن ذلك الجبل: كانت إحدى نزهاتي المفضّلة تلك التي نقوم بها في جبل التجربة. كنت غالبا ما أتوجّه مع مجموعة من أبناء العّم والأصدقاء، لكن يحدث أن أقوم بتلك النزهة وحيدة مع والدي المشّاء الصامد. كان يلذ له أن يعثر على طرق مختصرة، ولم يكن ذلك دائما بدون خطر. كان هدفنا المؤكد هو الوصول إلى القمّة والبقاء على أعلى نقطة في الجبل معلنين انتصارنا. ( ص78)
بين دفتي الكتاب نلتقي بشخصيات سمعنا عنها، نزداد معرفةً بها، وبشخصيات نجهلها، وبناس عاديين، وكلّهم أثروا حياة السيّدة سيرين. من هذه الشخصيات، السيّدة ( وجيهة) زوجة القائد الكبير عبد القادر الحسيني.
قبل فترة غير بعيدة التقيت بالأخ غازي الحسيني، ابن القائد الكبير، وابن السيّدة وجيهة، فسألته عن دور والدته في حياة الوالد.
أجابني بحسم: إنها بطلة حقيقيّة، رغم أن دورها مجهول...
في كتاب السيّدة سيرين نلتقي برفيقة عبد القادر بطل القسطل، وقائد الجهاد المقدّس، فنتعرّف على بعض بطولتها، وكفاحها، وبسالتها في تحمّل الغربة في ( العراق)، ومكابدات العيش، وتغلّبها على العواصف والتحديات: كانت جميلة وغنية، وكان هو فاتنا ومثقفا. كلاهما متحدر من الفرع الأكبر لعائلة الحسيني. كان لا بدّ أن يتعارفا عاجلاً أو آجلاً، وأن يتزوجا. (ص 92)
بينما كان زوجها معتقلاً، حوّلت السّت وجيهة بيتهم، وسط بغداد، إلى ملتقى لجميع أولئك الذين جاءوا ليشاركوا إلى جانبه، في الكفاح من أجل حقوق الفلسطينيين. وكانت هي حاضرة في كل مكان، منشغلةً وساهرة على الجميع ..( 194)
نتعرّف إلى صلابة ونزاهة القائد الكبير عبد القادر الحسيني من خلال واقعة تكشف عن أخلاقيات هذا القائد، ومناقبيته.
تكتب السيّدة سيرين: السّت ( زكية) كانت زوجة لعّم عبد القادر الحسيني، لكنها تطلقت من ذلك العّم الذي تحمّلته طويلاً هو المولع بالنساء، وتزوّجت والد عبد القادر الذي كان فقد زوجته.
السيّدة زكيّة انقطع الماء والكهرباء عن بيتها، فاستعانت بالجار الذي هو الحاكم الإنكليزي للقدس، فعلم عبد القادر...
تكتب: لم يكن عبد القادر موافقا على مسعى (خالته) - زوجة آبيه- لدى المندوب السامي، فبادر عندما علم بالخبر إلى زيارتها في مساء نفس اليوم. كانت السّت زكيّة تنتظر زيارة عبد القادر بفخر ونفاد صبر.. عندما دخل إلى بيتها مرتديا الزّي العسكري كاملاً، وجدت أنه لم يكن قط فانا مثلما كان تلك الليلة. قبّل يدها، وهي باركته ورضيت عليه. بعد لحظات قال لها، وهي تقدّم له قهوة الترحاب:
- علمت يا خالتي العزيزة، أنك اتصلت بالمندوب السامي البريطاني ليساعدك على مواجهة نقص المياه. وأنا جئت لأذكّرك بأنك لست الوحيدة التي تعانين من هذا الضيق. لكنني جئت كذلك لأحذّرك بأنه فيما نحن نتحدث، قد أحاط رجالي ببيتك، ووضعوا الديناميت حوله، وإذا تمّ اتصال آخر مع الإنجليز، فإن البيت سينفجر ( 179)
هذا هو القائد عبد القادر الحسيني.. فلا مناص من المقارنة بينه وبين قادة هذه الأيّام، أخلاقا، ورجولةً، واستقامةً!
شخصيّة الأب بحنوه، والأم بحضورها الجميل، والجدّة التي ستبقى في ذاكرة سيرين دائما، وشخصيّة الخال موسى العلمي بدوره الوطني، وبفصول حياته..ثمّ انهيار الأسرة الذي نجم عن النكبة، كّل هذه الشخصيات، وتقلبات الحياة، يزخر بها الكتاب الذي تتقاطع فيه أوجاع الذات، بآلام وطن وشعب، والمكتوبة فصوله بشفافيّة، وشاعريّة، وشجن..

كتاب ( ذكريات من القدس) صدر عن دار الشروق بعمّان، نهاية 2008